طرق الباحث في العلوم الإنسانية، عبد الرحيم العلام، بابا قلما ينتبه إليه الكثيرون، أو على الأقل نادرا ما يثيرونه في منابر الإعلام، وهو دعوته للمُشَرع المغربي إلى العناية بالآلاف من أبناء السجناء والمعتقلين، لأنهم يفقدون مورد رزقهم، ويتهددهم العوز والاحتياج، وقد يجرفهم تيار التطرف أو الدعارة أو الهجرة السرية. وأفاد العلام، في مقال خص به هسبريس، بأنه "كي يؤدي السجن وظيفته المَرجُوّة، ينبغي أن يُنظر إلى جميع النتائج التي تترتب عنه، لأنه في هذه الحالة بدلا من إصلاح آلاف السجناء، سيتم تشريد آلاف الأسر، وتخريج مئات الآلاف من المواطنين العاجزين والفاشلين". وهذا نص مقال عبد الرحيم العلام كما ورد إلى الجريدة: من يَحمي أبناء المساجين والمعتقلين؟ يعتمد مبدأ العدل على فكرة ألا يتجاوز العقاب الشخص المعني به، حيث لا يمكن أن يؤثر عنصر تقييد الحرية الذي تطبّقه المحاكم بهدف معاقبة أو تربية الذين يرتكبون أخطاء في المجتمع على باقي أفراد أسرته وخاصة الذين يرتبطون ماديا على الأقل بالشخص السجين. وهكذا، فإنه ينبغي التمييز بين العقاب الواجب الذي يجب أن يتحمله "المجرم" وبين الآثار الجانبية التي يمكن أن تلحق بأفراد أسرته. وهذا لا يعني أنه يمكن تفادي كل الآثار السلبية التي قد تلحق بأقرباء السجين، لأن ذلك مستبعد جدا وإلا لَما كان لتقييد الحرية مفعوله، ولكن الذي ينبغي تفاديه هو العمل على ألاّ يُساهم حبس "المجرم" في خلق المزيد من المجرمين أو المعاقين اجتماعيا ونفسيا. إن الحديث هنا مُنصَبّ بشكل كبير على آلاف الأطفال الذي يوجدون في مجتمعنا من دون آبائهم ليس بسبب جهل هوية الأب أو وفاته (يجدر هنا التنويه بقرار تعويض الأرامل لأنه التفاتة جيدة يجب تطويرها وتجويدها)، ولكن بسبب كون الأب غائب بسبب السجن أو الحبس أو المعتقل. ولأن هؤلاء الأطفال يفقدون مورد رزقهم المتمثل في الأب، فإنهم يقعون تحت وطأة العوز والاحتياج، ممّا يؤثر على السير العادي لحياتهم. وبالتالي يضطرّون إلى مغادرة مقاعد الدراسة من أجل البحث عن لقمة العيش، ويُجبرون إلى ترك مسكنهم الأصلي والبحث عن بديل عنه يكون مناسبا لظروفهم الجديدة، وإذا لم يجدوا هذا المسكن، فإنهم ينضمون إلى آلاف المشرّدين والمتسكّعين في الشوارع، ويقعون ضحية لمختلف المنظمات الخطيرة التي تخترق المجتمع في هذا الاتجاه أو ذاك من قبيل منظمات الهجرة السرية، أو الدعارة، أو المتاجرة في الأعضاء البشرية، أو بيعهم في سوق "البيدوفيليا"، أو استقطابهم من قِبَل المنظمات الإجرامية. وعطفا عليه، فإنه على المُشرّع أن يجتهد في إيجاد التشريعات التي تستطيع الحد من ظاهرة تعميم العقاب، وغض البصر عن نتائج الأحكام الصادرة عن المحاكم، فالنصوص القانونية التي تعاقب المتهم بالحبس والمنع من الوظيفة مثلا ينبغي تنقيحها، لأنه عندما يصدر القاضي حكمه بمعاقبة المتهم بالحبس والحرمان من الراتب، فهو بذلك يحكم على أسرة كاملة بالتشرد إذا كان للمتهم زوجة وأولادا. إذ ما مصير هؤلاء إذا كان معيلهم الوحيد قد قُيدت حريته وتم إيقاف راتبه؟ هل الغاية من العقاب هي تربية المتهم واستدماجه داخل المجتمع أم معاقبة أبنائه وجعلهم عرضة لكل المصائب؟ كما أن المشرع القانوني مُجبرٌ على البحث في أفضل السبل القانونية التي تجعل العقوبة فردية وألا يكون سجن شخص واحد بمثابة عقاب لأبنائه وأسرته خاصة من الناحية المادية، وذلك عبر التنصيص على مجموعة من القوانين تلزم الحكومة بالعناية بأبناء السجناء وتيسير إدماجهم داخل المجتمع. أما من جانب الدولة فإن مهمتها لا تقتصر على حماية المجتمع من المجرمين، بل هي كذلك ملزمة بالحفاظ على أسر هؤلاء، والعناية بأطفالهم. لأن عملية حماية المجتمع لا تقتصر على الجانب السلبي منها، أي وضع الجُناة داخل الزنازين المحروسة والمُسيّجة، وإنما ينبغي الاهتمام بالعنصر الايجابي من هذه العملية، وهو الاهتمام بمصير الأشخاص الذين يرتبطون بالمساجين وخاصة البناء القاصرين الذين لا حول لهم ولا قوة بعد فقدان مُعِيلهم الأول. وبالتالي، فإن الدولة مُجبرة على تتبع الأحكام التي تصدرها محاكمها من أجل البحث عن الضحايا غير المباشرين للجُناة، والمقصود هنا الأبناء بشكل محدد، فعندما يتم مثلا تفكيك خلية لبيع المخدرات أو التحضير للقيام بعمليات إرهابية، وما يرتبط بذلك من إصدار أحكام بالسجن طويل الأمد، فإنه ينبغي النظر إلى الجانب الآخر من العُملة، أي إلى أبناء هؤلاء، بحيث إذا تُركوا ليواجهوا مصيرهم من دون مراقبة الدولة وعنايتها، فإن مستقبلهم لن ينفصل بشكل كبير عن مستقبل آبائهم إلا إذا تدخلت العائلة الكبيرة والمجتمع المدني لمدهم ببعض المساعدات. صحيح أن الدولة لا يكن أن تجعل سجن الجاني فُسحة، وتعفيه من "ألم" الشعور بالعوز الذي تسبب فيه لأولاده، لكن هذا الأمر يهون إذا علمنا أن أولاده هم أولاد للدولة وليس له وحده، وعلى الحكومة رعايتهم والاهتمام بهم كما يتم الاهتمام بباقي الفئات التي تعاني من ظروف مشابهة. وفي هذا السياق ينبغي أن يتطور نظام المساعدة الاجتماعية الذي تسهر عليه الدولة لكي يُدخل ضمن أجندته العناية بأبناء المساجين، وذلك بأن يوفّر لهم سكنا إذا ما تم طردهم من مسكنهم (داخلية أو وخيرية أو مؤسسة خاصة)، ومنحهم بطائق خاصة من أجل العلاج، وإعفائهم من رسوم التسجيل بالمدارس مع تمكينهم من الكتب المدرسة بالمجّان، وإدراج أسمائهم ضمن لوائح المساعدات المقدمة من الدولة، ومنح أمهاتهم تعويضات على غرار التعويضات الممنوحة للأرامل (إذ لا يعقل مثلا أن يتم تعويض زوجة شخص قُتل بسبب تفريط من جانبه، بينما يتم غض النظر عن واقع أبناء شخص مسجون بسبب القتل غير العمد، أو خطأ أثناء أداء المهنة، أو لأنه عجز عن أداء ما بذمته من ديون نتيجة إفلاس شركته بسبب ظروف الأزمة الاقتصادية......)، وغيرها من الوسائل التي يجب أن نفكر فيها جميعا حكومة ومجتمعا مدنيا وخبراء وباحثين....إلخ. رب قائل إن مطلب العناية بأبناء المساجين، سيجعل مهمة السجن غير ذات نفع بالنسبة للمجرمين الذين إذا ما علموا أن الدولة ستقوم مقامهم في ما يتعلق بتربية أبنائهم سيتمادون في إجرامهم وهو ما يشجع غيرهم، وإلى أصحاب هذا الرأي نقول: أولا يجب أن نعلم أن مهمة السجن هي في الأساس تربوية تهدف إلى دمج السجين؛ ثانيا: إن الغاية هي حماية المجتمع من الإجرام، وأنه إذا ما تُرك أبناء السجناء يواجهون مصيرهم فإن ذلك سيزيد من الإجرام ولن يُحدّ منه؛ ثالثا: لا يوجد في السجن فقط المجرمون القساة بل يوجد كذلك من يدخلون السجن دون أن تكون لديهم شخصية جُرمية. وقد أوردنا سلفا بعض الأمثلة على ذلك، وهناك أيضا الكثير من المظلومين، والمعتقلين السياسيين والنقابيين، ونشطاء المجتمع المدني....دون أن ننسى أن القوانين مثل بيوت العنكبوت، بإمكانها الإمساك بالذباب الصغير، لكنها تسمح للدبابير بالمرور، كما كان "جوناثان سويفت" يقول. إنه لكي يؤدي السجن وظيفته المَرجُوّة، ينبغي أن يُنظر إلى جميع النتائج التي تترتب عنه، وإلا فإنه بدلا من إصلاح آلاف السجناء، سيتم تشريد آلاف الأسر، وتخريج مئات الآلاف من المواطنين العاجزين والفاشلين، وخلق البيئة الملائمة للمنظمات التي تشتهي الصيد في الظروف المُضطربة.