«لَتَحْسبُوه من الكِتاب، وما هُو من الكِتاب» طلبَ مُصَلٍّ من أبي يزيدٍ البَسْطاميّ، وهو من المتصوفة المسلمين الكبار، أن يدعو على جماعةٍ من الناس كانوا مُنْتَشِين بِسُكْرِهِم، فكان جواب أبي يزيد له، وهو يرفع يديْه إلى السَّماء: اللَّهُمَّ كما أَفْرَحْتَهم في في الدُّنيا، أَفْرِحْهُم في الآخِرَة. عند كثيرين، ممن أصبحوا اليوم يَدَّعُون الدِّين والإيمان، أو يعتبرون أنفسهم مسلمين دون غيرهم، والأمر، هُنا، لا يتعلَّق بالمُتَطَرِّفِين أو «الجهاديين» فقط، بل بكل مَنْ يعتبر نفسَه وَصِيّاً على غيره في أمور الدِّين، ويتدخَّل في حقّ الإنسان في الاختيار، وفي الاعتقاد، تبدو دعْوَةُ البسطامي، هذه، فيها كُفْرٌ ومُروق، وهي شَطَطٌ تُجاه الدِّين من قِبَل هذا الصُّوفِيّ الكبير، الذي عُرِفَ بِوَرَعِه، وبتخَلِّيه عن كل ملذَّات الحياة الدُّنيا، بما فيها السُّكْر، لأنَّ سُكْرَ الصُّوفيّ، هو سُكْر آخر، فيه تعيش ذاتُه، التي هي رُوحُه، أوْج اتِّحادِها، وتَجَلِّيات الذَّات الإلهية فيها، بنوع من الصَّفاء الذي لا يمكنه أن يتحقَّق لأيِّ مُؤمِنٍ لم يَمُرَّ بما مرَّ به هذا الصُّوفي من مراحل لِيَبْلُغَ ما بَلَغَه البسطامي من حُلُول، لا من تَحَلُّلٍ، أو انْحِلالٍ. المُصَلِّي الذي طلب من البسطامي أن يدعو على السِّكَارى المُنْتَشِين، أو الفَرِحِين بسكرهم، كان ينتظر أن تكون دعوة البسطامي صَاعِقَةً، وأن تعمل، بما للبسطامي من كَرامات المتصوفة، على مَحْق هؤلاء الرِّجال، وإدانتهم بالتَّوَجُّه للخالِق للنَّظَر في شأن مخلوقاته. لم يتوقَّع هذا المُصَلِّي أن يقلب عليه البسطامي ظَهْرَ المِجَنِّ، كما يُقال، وأنْ يُحوِّل الدَّعْوَةَ إلى دُعاءٍ، وهو دُعاء «هداية» في عُمْقِه، لأنَّ الذين يكتفون بَظاهر كلام الصُّوفِيّ، سيعتبرون جواب البسطامي مُروقاً وخُروجاً على الدِّين، أو اسْتِهتاراً ببعض ما فيه من مَنْعٍ لبعض «المُحرَّمات»، كما وَرَدَتْ في القرآن، أو في ما يُنْسَب للرسول من أحاديث. هذا ما وَقَع، تماماً، للحلاج، الذي اعٌتُبِرَ كلامُه مُنافِياً للدِّين، والذين حاكَمُوه، رغم ما في المُحاكمَة من أبعاد وخلفياتٍ لا علاقةَ لها بكلام الحلاَّج، لم ينزلوا لِقَرار كلامِه، ولم يخرجوا من ظاهر اللَّفْظِ، ومن مجازاته، ومن اللغة التي كان الصُّوفِية ابْتَكَرُوها، باعتبارها رموزاً وإشاراتٍ، بها حاولوا أن يُبْعِدُوا العامَّةَ عن مثل هذا الفهم السَّطْحِيّ المُغْلَق، بما فيهم الفُقهاء، الذين كان الظَّاهر اسْتَغْرَقَهُم، ولم يَتَبَيَّنُوا المعانِيَ الثَّاوِيَة في عُمْق الخطاب، الذي أصبح، مثلما حدث في القرآن نفسه، يحتمل أكثر من معنًى، أو هو مثلما قال علي بن أبي طالب «حمَّال أَوْجُه». فالحلاَّج «أباح بالسِّرّ» لهذا «أُبِيحَ دَمُهُ»، كما قال عنه بعض رُفقائه من المتصوِّفَة. هُنا، في وضع أبي يزيد البسطامي، لا وُجود لِسِرٍّ، وهو لم يَبُح، مثل الحلاَّج بِسِرٍّ ما، بل إنَّه أسَرَّ، أو كَتمَ السِّرَّ، بأن تَرَك المُصَلِّيَ الذي طلب منه أن يدعو على السُّكارى المُبْتَهِجِين بسكرهم، في حيرةٍ من أمْرِه، أو هو، بالأحرى، زعزع اعتقادَه في أمر أبي يزيد نفسِه، وفي إيمان المتصوفة كاملينَ. لكن هذا المُصَلِّي الذي هو صورة ومثال لكثير من المُسلمين الذي يأخذون الدِّين أو الإيمان بظاهره، ويكتفون بسطح الأشياء، دون عمقها، وليس عندهم سؤال، أو قلق تُجاهَ ما يعترضهم من مواقف وحالاتٍ، لم يُدْرِك أنَّ البسطامي، ليس عنده يأس تُجاه الإنسان، أو أنَّه لا يقبل أن يُسْقِطَ إيمانَه وفهمَه، على إيمان وفَهْم غيره، ولو كان يسير في غير طريقه، وفي هذا، بالذَّات، يختلف المتصوِّفُ عن غيره من المؤمنين الذين فَهِمُوا الدِّين بالنَّص، ولم يفهموه باعتباره سلوكاً وممارسة، أو نوعاً من التَّمْرينات التي تنْأَى بالمؤمن عن الدِّين الذي يصبح عنده نوعاً من الخوف والرُّهاب، لأنه لا يقيس إيمانَه بقَناعاتِه، بقدر ما يقيسه بالجنَّة وبالنار، أي بالوعْد والوعيد، أو بالخوف، لا بالاقتناع. وهذا ما تبْنِي عليه خِطابات الوُعَّاظ، و «رجال الدِّين»، أو من يعتبرن أنفسهم فَهِمُوا الدِّين أكثر من غيرهم، وأنا لا أتكلَّم هُنا عن العلماء، علاقتَها بمن تتوجَّه إليهم، لأنَّ خطابات تكتفي بهذا النَّوع من الإيمان بالتَّهْدِيد أو الوعيد، هي خطابات تفتقد للقدرة على الإقناع بالحُجَّة والبُرْهان، ما يعني أنَّها خطابات هَشَّة، لا حُجَّةَ لها إلاَّ خيار الجنة أو النَّار، أو الآخرة مُقابِل الدُّنيا. هذا ما نجده في دروس ما يُسمَّى ب «التربية الإسلامية» في المدارس الإسلامية، عموماً، وهو ما يتحوَّل إلى نوع من الفوبيا الإيمانية عند الكثيرين، خصوصاً عند هؤلاء الذين أُصيبُو بهذا النوع من «التَّضَخُّم» الإيماني، وكأنَّ لا أحَد كان مسلماً، قبل أن تظهر هذه السلفيات الجهادية المتطرفة، وقبل أن يخرج علينا حسن البنا وسيد قُطب، بفدلكاتهم الدينية التي تحوَّل معها الإيمان بالفطرة، في علاقته بحياة الإنسان، إلى دينٍ هو دين الإنسان، أو دين هو تأويل وتحريف للدين، أو انقلاب عليه، بارتدائه كقميصٍ مقلوبٍ، وفق عبارةٍ لعلي بن أبي طالب. الصُّوفيّ ليس داعِيَةً، ولا كاهِناً، ولا وَصِياً على الناس في شؤون الدِّين، ولن يثبُت أن الصوفيَّ قَتَل أحداً خالفَه في الرأي، أو فرض على أحدٍ أن يؤمن بما يُؤمِن به، فهو لم يَبْتَزَّ الدِّين، ولم يستعمله لغرض آخر غير إيمانه الشخصي، وفهمه الخاصّ لهذا الإيمان، وهذا ما دفع هؤلاء المتصوفة أن يخرجوا من بين الناس، وأن يختاروا البقاء في دائرة معزولة، لأنهم أدْرَكُوا أنَّ طريق الإيمان، في صفائه، وفي ذاته، غير متاحة لأيٍّ كان. تفادِياً لسوء الفهم، أو لسوء الظَّنّ، حرص هؤلاء الرِّجال على كتمان السِّر، وعلى خُلْواتِهم، ما دام الإيمان الذي بلغوه، أو يمكن أن يبلغه الإنسان بطريقتهم، هو حلول ذات الصُّوفي في ذات الله، واستغراق كل ذاتٍ للأخرى، وامْتِصاصها لها، بمعنى ذوبان المخلوق في جوهر خالقه. وحَتْماً، كان هذا ما دفع الفقهاء، وغيرهم من الذين لم يبلغوا هذا المستوى من الاستغراق الإيماني، لإدانة المتصوفة، واعتبارهم خارجين عن الدِّين، فتحوَّل المتصوف المؤمن دون دافع ماديّ، أو دنيوي، والمُتجرِّد من ذاته، المنسلخ من الوجود الظاهر، إلى مُلْحِد، مُشْرِك، كافر، زنديق، مارق، وغيرها من الصفات التي عادتْ اليوم لتصير أوْسِمَة تُعلَّق على الصُّدور، بسبب وبدون سبب. للشيخ الأكبر ابن عربي تفسير للقرآن، لا أحد من فقهاء الظاهر يقبله أو يحتمل قراءتَه، ليس لأنَّ ابن عربي أساء الفهم، أو انحرف بالقراءة عن سياقها، بل لأنَّ ابن عربي أضاء المُعْتِم مما كانتْ يَدُ الفُقهاء تَرْتَجُّ أمامه، أو تُصاب بنوع من الدُّوار والحيرة، التي تجعله يفقد القدرة على التَّمْييز، وعلى فهم المعاني المُتَخَتِّرَة في عمق هذا النص، وفي طَيَّاتِه التي لا يمكن بلوغها بِقِصَر النَّظر، وبقصر المعرفة، وقصر الإيمان، أيضاً. وحين كتب ابن عربي أبياته الشهيرة في التأكيد على وحدة الإنسان، لا على تفريق الناس بالدِّين، أو بأماكن العبادة، اتُّهِم، هو الآخر بالزندقة والمُروق، وبخلط الإسلام بما ليس منه. البسطامي، كان حَصِيفاً، وكان عميقاً، ومُتسامِحاً، حين اعتبر فَرَح الدُّنيا وسعادة الإنسان فيها من فرح «الآخرة»، وسعادة الإنسان فيها، وأنَّ الدُّعاء على الناس، أو تكفيرهم وقتلهم، ليس من شأنه، لأنَّه ليس من خَلَق الإنسان، أو أوْعَزَ له باختياره «النار» دون «الجنة»، أو «الجنة» دون «النار»، وهو لا يملك مفاتيح كِلَيْهِما، لأنَّه آمَن عِرْفاناً، وسلوكاً، واسْتِغْراقاً، وليس ادِّعاءً، أو انتهاكاً. وهذا هو الفرق الجوهري بين المؤمن الذي يعرف أنَّ الإيمان هو أكبر من الدِّين بمعناه التَّصْنِيفيّ التَّمْيِيزيّ، وهو إيمان لا فضل فيه لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي، إلاَّ بدرجة هذا الإيمان نفسه، الذي هو التقوى، والتقوى، هنا، وفق هذا المعنى، كما هو وَارِد في ما وصلَنا من حديث، تقوى الله، أو بالأحرى تقوى المخلوق الذي هو صورةٌ لخالقه. الدِّين ليس إدانةً، وليس تشهيراً ولا اغتصاباً للحقوق. الدِّين إيمان فرديّ، مرتبط بقناعة الشخص، وبدرجة اقتناعه أو رفضه، أو ترَدُّدِه. ولعلَّ جواب أبي يزيد البسطامي، كافياً للردّ على كل من يتدخَّلُون في أمر إيمان غيرهم من عدمه بدون حقّ. فالآية، على لسان الرسول نفسه، كانت واضِحَةً، في مخاطبة غير المسلمين «لكم دينكم ولي دين»، وهي لا تحتمل التأويلات التي يعطيها لها بعض الذين يُحَرِّفون الكَلِم عن مواضعه، أو يسعون بتحريفه، لتحريف فكر الإنسان واعتقاده، وهذا مما أدَّى لِما نحن فيه من التباساتٍ، اختلط فيها العالِم بالجاهل، أو استوى فيها الذين يعلمون بالذين لا علم لهم، أو حظُّهُم من العلم لا يتجاوز تَراقيهم، كما في حديث للرسول عن الذين يتلون القرآن، وهُم لا يفقهون ما فيه من إشاراتٍ ومعانٍ، لأنَّ لغتهم نفسها، لغة مليئة بأعطاب الجهل، وقِصَر المعرفة والفهم، وهذا هو حال المُصلِّي الذي سعى لإدانة أولئك السُّكارى، وهو صورة لغيره من الناس الذين يخرجون بالدِّين عن مجراه، ويسوقونه، قهراً، لِفَهْمِهِمُ السطحيّ، الظاهِر، الذي لا تَدَبُّرَ، ولا عُمْقَ فيه. أن نقرأ جَيِّداً، معناه، أن نقرأ «بتَأنٍّ، وبعمق، ومُراعاةٍ، وتَيَقُّظٍ» و «بسلامة طَوِيَّةٍ» و «بأبوابٍ مفتوحة، بأنامل وعيون رقيقة» ودقيقة، في ذات الآن. غير هذا استهتار، وشَطَط في العلاقة باللغة، وبالنص نفسه، والقرآن هو كتابٌ يحتمل هذا التَّيَقُّظ، وهذه القراءات المفتوحة على الشمس، لا على الظُّلْمَة والانغلاق، وإلاَّ سنكون دَخَلْنا ذلك الزَّمَن الذي قال عنه الرسول نفسه «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يَبْقَى مِنَ القُرآن إلاَّ رَسْمُه، وَمِنَ الإسْلام إلاَّ اسْمُه. يُسَمَّوْنَ بِهِ وهُمْ أبْعَدُ النَّاسِ مِنْه».