بعد سنة 2011 ومصادقة المغرب على دستوره الجديد، كثر الحديث حول مفهوم ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي تم إدراجه في وثيقة النظام الدستوري المغربي كركن رابع بعد الحكامة الجيدة، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وفصل السلط وتوازنها وتعاونها. ومنذ ذلك التاريخ إلى أواخر سنة 2014، وبالضبط بعيد إقرار قانون التعيين في المناصب العليا، اختفى هذا المفهوم في زحمة تسابق مفاهيم وأوراش المقاصة والتقاعد والعدالة وتحرير الأسعار، أو لم تعد له أولوية في سلّم حكومة 2012 التي كانت تتسارع مع الزمن لتفادي إشارات السكتة القلبية، وتشويش "التماسيح والعفاريت". غير أن هذا المفهوم الدستوري سرعان ما أعلن عن حضوره من جديد بعد فضيحة عشب ملعب الرباط التي أساءت رياضيا وسياسيا للمغرب، والتي اضطرت ملك البلاد إلى تعليق أنشطة وزير الرياضة، وطلب فتح تحقيق معمق في الموضوع، وانتهت إلى إصدار بلاغ الديوان الملكي القاضي بإعفاء الوزير المعني من مهامه بطلب منه، بعد أن ثبتت مسؤوليته الإدارية والسياسية، إلى جانب المقاولة المشرفة، في ما تناقلته القنوات العالمية من مشاهد البرك المائية العائمة على الملعب المذكور، وتجفيفها بالوسائل البدائية المضحكة. ومنذ ذلك التاريخ العصيب، ورغم أن هذه القضية ما زال مدادها لم يجفّ بعد، وما زالت بعض جوانبها الخفية مرشحة لمساءلات قانونية وإدارية وتقنية وسياسية أخرى في المستقبل القريب، فإن الاستفاقة على هذا الواقع التدبيري المرير، وتبخر مليارات الدراهم من المال العام لإصلاح ملعب من المفترض أن يكون ضمن ملف ترشيح مونديال 2026، ومعه صورة المغرب الخارجية التي تستنزف قضيته الوطنية الأولى كل مدّخراته المادية والسياسية، وإمكاناته الدبلوماسية والحقوقية المتاحة، جعل مبدأ العودة إلى السلوك الديمقراطي في تقديم وتقييم حصيلة كل مسؤول أمرا إلزاميا وحتميا في مباشرة المسؤولية ومعادلة الأهداف بالنتائج ؛ غير أن الإيمان بهذا المفهوم، وتداوله على المستوى السياسي والاقتصادي والقانوني والإداري، جعله يعرف خلطا في التحديد والتأويل والمبتغى، حتى أن بعض المسؤولين السامين لا يعرفون في جانب المسؤولية إلا انتزاع الامتيازات الخاصة، ولا يفقهون في المحاسبة إلا الارتكان إلى حصانة النفوذ الحزبي القوي، بل منهم من يعتبر نفسه في مستوى المسؤولية الوطنية الجسيمة الملقاة على عاتقه، وفوق مستوى المحاسبة والمساءلة لقراراته وتدابيره، ومنهم من يضن أن المحاسبة الإدارية بالخصوص مصنوعة فقط من أجل ترهيب أو تقويم مرؤوسيه، حتى ولو كانوا كتّابا عامين أو مدراء مركزيين أو رؤساء أقسام ومصالح وسائقين، وهذا ما جعل الوزير محمد أوزين، في لحظة قلق وحيرة وعربدة نفسية، يبحث عن أكباش فداء بمنطق تعرضه ل"خيانة عظمى"، ويعفي الكاتب العام للوزارة ومدير الرياضات من مهامهما، حتى قبل أن ينطلق التحقيق الحكومي في الموضوع الذي أثبت تقصيره هو، كمسؤول إداري وسياسي قبل تقصير مرؤوسيه، والذين تسري عليهم في الغالب لعبة المكالمات الهاتفية الفوقية، والتعليمات الشفوية، والتوقيعات الاضطرارية أو الإكراهية تحت طائلة الإعفاء الفوري من المنصب الهام، أو تجميد العضوية الإدارية وامتيازاتها إلى إشعار آخر. فربط المسؤولية بالمحاسبة الذي جاء النص عليه في الفقرة الثانية من الفصل الأول للدستور، مع ما يعنيه هذا الترتيب التشريعي المقصود في الوثيقة الدستورية، وضع حدّا قاطعا مع سلوك الريع السياسي والاقتصادي الذي كانت تعرفه البلاد قبل إقرار الدستور الجديد، وقطيعة مع كل أشكال الرشوة والفساد الإداري التي كانت تطبع، بشكل أو بآخر، المرحلة السابقة. غير أن منطوق الدستور في هذه القضية، وفي قضايا أخرى كثيرة، يبقى بعيدا عن واقع الحال الذي يشتكي من تركيبة الشخصية الإدارية المغربية المزدوجة التي تقول ما لا تفعل أو تفعل ما لا تقول، إما بوعي مقصود الهدف منه استغباء واستغفال الآخرين عبر نشر وتعميم المفاهيم الرنّانة التي تلقى إقبالا وترحيبا فوريا في العقل والقلب، وتنزع بالتالي فتيل الضغط والانفجار بالمسكّنات الخطابية التي لها مفعول السحر الأنثوي القاهر، أو بعدم وعي وتقدير للمسؤولية التاريخية التي ترهن أمة بكاملها داخل دائرة قرارات مزاجية ومصيرية، تخطئ أو تصيب حسب الحظ والأقدار وليس حسب العقل والتفكير. ولهذا كان لا بد لحكومة يناير 2012 ودستور يوليوز 2011، وقبل هذا لحكومة رياح الربيع العربي الثورية التي تم تكييفها سياسيا في ظل الاستقرار، وكما فتحت بشجاعة أوراش إصلاح منظومة العدالة وأنظمة التقاعد وصندوق المقاصة ومناخ الأعمال وتحرير الأسعار والمجتمع المدني وغيرها، أن تفتح بجرأة ورش المسؤولية وورش المحاسبة، وتبحث بقوة في كيفية الربط بينهما دستوريا وسياسيا وقانونيا وإداريا وأخلاقيا، حتى تتضح الرؤية ويتحدد السلوك وتكتمل المعرفة، فلا تعود المسؤولية امتيازا بلا شروط، ولا المحاسبة عقابا بدون ضمانات، وذلك في إطار مقاربة حقوقية وإنسانية شاملة، تحمي الطرف الذي يفوّض والطرف الذي يتحمّل المسؤولية والطرف الذي يستفيد من الخدمات ؛ فلا يعقل أن تتحول المسؤولية إلى مرتع امتيازات مادية فقط، وتحصيل ثروات وأرباح نقدية وعينية، وتوسيع وتقوية نفوذ سلطوي هائج بدون حسيب ولا رقيب، ولا يمكن أن تصبح المحاسبة عملية انتقائية لأقزام وأكباش فداء دون الإشارة بأصبع الاتهام والمساءلة للجهاز الإداري والسياسي الذي تعوّدت البلدان الديمقراطية أن يستقيل مسؤولوه لمجرد أن مواطنا مغمورا صدمه قطار سريع في منطقة غير محروسة من جهة الدولة. ولهذا كانت الحاجة إلى فتح ورشي المسؤولية والمحاسبة ضرورة أوّلية لإعطاء مصداقية أكبر لحكومة صناديق الاقتراع، إذ لا يمكن ترتيب بيت وطن بأكمله، في حجم مملكة مغربية شاسعة، لها موقع استراتيجي وتاريخ وحضارة وقوة بشرية، دون ترتيب البيت الداخلي لسلطاته التنفيذية والتشريعية والقضائية وحتى الإعلامية. ويسود الاعتقاد أن مفتاحي المسؤولية والمحاسبة هما المدخل الأساسي لهذا الترتيب الداخلي الذي لم يخطئ المشرّع والوثيقة الدستورية في جمعهما مع آليات الحكامة الجيدة والديمقراطية التشاركية وفصل السلط في النظام الدستوري الناجع. فالمسؤولية لم تعد مجرد استنزاف خيرات البلاد المادية والمعنوية، ولا عنوانا شرعيا للكسب الحلال والحرام، ولا سلطة جزائية أو قهرية لمكافأة الموالين ومعاقبة "الخوارج"، ولا منفذا وصوليا لتدبير الشأن العام أو الشأن القطاعي والمحلي على حساب الأهلية العلمية والأقدمية المهنية والخبرة المكتسبة، بل المسؤولية هي حزمة من الالتزامات والقيم والأخلاق يتم تفويض الثلث الأول منها بشكل مكتوب يربط الأهداف الموضوعة بالنتائج المأمولة، والثلث الثاني يتم التنصيص عليه في القوانين والمساطر والتشريعات والتنظيمات، والثلث المتبقي يستمدّ شرعيته من الأعراف والعقائد والقيم والمبادئ الإنسانية. ولا تكتمل دورة المسؤولية إلا بالمعرفة الجامعة والوضوح المنهجي لتحقيق شرط الأهلية في المحاسبة ؛ ذلك أن التفويض أو التكليف في الإطار المؤسساتي يستلزم مسبقا المعرفة المطلقة أو النسبية بالمحيط الخارجي والداخلي لموضوع المسؤولية، والوعي التام بالإمكانات والمخاطر التي تزيد من نسب نجاح أو فشل واجبات الاستجابة لهذه الالتزامات المكتوبة والضمنية، وكذا الإلمام الدقيق بجوانب القدرة التنظيمية للمؤسسة ومواطن قوتها وضعفها، والإطلاع المفصّل على خريطة مخططها الإستراتيجي، واستيعابه وتمثّله من حيث وصف المهمة أو المهام، وسياقاته في إطار السياسة العامة للدولة، ورهاناته وتوجهاته المستقبلية، وأهدافه ونتائجه المرجوة ومؤشراته المفترضة. وكلما كان شرط المعرفة والوضوح قائما بالشكل المطلوب، كلما كانت مرحلة الإنجاز وأجرأة برامج العمل متناغمة مع مضمون المسؤولية في تقديم الحصيلة السنوية أو الدورية، وبلوغ المعادلة الناجحة بين المهمة والمخطط والالتزام والقدرة التنظيمية، والنتيجة المحصّل عليها. غير أن هذه المسؤولية الموصوفة بالبشرية، وغير مكتملة الأداء لعوائق طبيعية تفوق قدرة الإنسان مهما بلغت درجات كفاءته وحنكته ومراسه، تستوجب تأطيرها المنتظم بالمرافقة والمواكبة، وحتى المراقبة الدورية والافتحاص الموازي، كي لا يعتقد المسؤول المعني أنه يدير لوحده جزيرة معزولة، قد تتحول عنده، في لحظة غباء أو اندماج سلطوي خيالي، إلى إقطاعية خاصة وملك شخصي لا تنقصه إلا إجراءات تحرير وثيقة التحفيظ في المحافظة العقارية. ولكي تكتمل أجزاء وعناصر هذه المسؤولية، وتصبح مؤهلة شرعيا لإحاطتها بالمساءلة والمحاسبة والمتابعة إلى حدود الجزاء أو العقاب، فلا بد من تعزيزها بشروط وضمانات توفير الوسائل المادية واللوجستيكية المطلوبة حسب المهام والأهداف، وكذا الموارد المالية والبشرية اللازمة، إلى جانب جودة مناخ الأعمال والتشريع، وشروط تفعيل التطبيق السليم لالتزامات المسؤولية. ولرفع اللبس عن مفهوم المسؤولية الذي يتم التلويح به شرقا وغربا كلما حلت كارثة بالبلاد، صغيرة أو كبيرة، وجب التمييز بين المسؤولية المباشرة التي غالبا ما تكون فردية مرتبطة بقرارات وإجراءات إدارية شخصية مباشرة، ينجم عنها تكييف موضوع المسؤولية مع جوانبه المدنية والجنائية والإدارية، والمسؤولية غير المباشرة، اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو أخلاقية، التي تكون نتيجة قرارات وتدابير ومبادرات مؤسساتية أو جماعية سارية المفعول على المديين المتوسط أو البعيد، والتي تصير حصيلة اختيارات موفّقة أو غير موفّقة في تدبير الشأن العام أو القطاعي أو المحلي. أما المحاسبة التي يسيل لها لعاب بعض القائمين على الحسابات الشخصية ممن تستهويهم فكرة السلطة العليا القائمة على زجر السلطة الدنيا، وتمنحهم مساحة نفسية لاستعراض عدوانيتهم المدفونة في اللعب مع الذين يلعبون، فهي أكبر من مجرد البحث عن "المجرمين" ومعاقبتهم، أو ترصّد ذوي السوابق الإدارية الذين طفح الكيل بمرؤوسيهم ومرتفقيهم، أو ضبط حيل وخدع المحتالين الذين يسرقون خفية من البوابة الخلفية، ومن ثقوب ثغرات المساطر والقوانين، بل هي تدقيق موضوعي في أهداف ونتائج شكل ومضمون المسؤولية، ومقارنة علمية وعملية حيادية بين الموارد المتاحة والمردودية المسجّلة، وتقييم واقعي للأعمال والأشغال المنجزة بمساعدة المؤشرات المتوقّعة، أي أنها البحث في البرهنة على نجاعة وقوة المردودية التي تتناغم مع الأهداف الموضوعة في المهمة والرؤية والإستراتيجية، دون إغفال وثيقة صلاحيات وتفويضات التكليف التي تحدد حجم وشكل وبداية ونهاية المسؤولية، وترسانة القوانين والمساطر المعمول بها على المستوى الوطني أو القطاعي، والإمكانات المادية والبشرية المتوفرة. وكثيرا ما تم الاعتقاد أن المحاسبةReddition des comptes لها علاقة فقط بالحسابات والمخالفات المادية أو الأحداث الاقتصادية ذات الأثر المالي، المرتبطة بالصفقاتMarchés وسندات الطلبBons de commande والوكالات المحاسبية أو أنظمة الشساعةRégies comptables والشراءات والممتلكات والتجهيزات، وكيفية مواءمة ذلك مع التشريعات والتنظيمات المعمول بها للحفاظ على المال العام، وهذا ما كان يفهم على الأقل من اختصاصات المؤسسة الدستورية للمجلس الأعلى للحسابات التي أفرد لها دستور 2011 بابا بأربعة فصول (من 147 إلى 150) لأهميتها القصوى في مراقبة المال العام. غير أن كلمة المحاسبة المنصوص عليها في الفصل الأول للدستور، وكلمة الحسابات المنصوص عليها في الفصول المذكورة أعلاه، لا يمكن أن يفهم منها الأثر المالي فقط لكل عملية تدبير، ولو أنه كان من الأفضل تسمية المجلس الأعلى للحسابات، أثناء مناقشات صياغة فصول الدستور بعد خطاب 17 مارس 2011، بالمجلس الأعلى للمحاسبة، لأن هذه المحاسبة في مضمونها ومعناها العام تطال الجانب المادي والجانب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وحتى السياسي بجناحيه الكمي والنوعي، بل وتقيم توازنا بين التقييم المادي وغير المادي للعمليات والإجراءات المتخذة، وتأثيرها ليس فقط على المال العام، ولكن على الخدمات العمومية، وسياسة الدولة، وتوجهاتها الإستراتيجية المنصوص عليها في دستورها وقوانينها وأوراشها. ومن هنا يظهر أن ربط المسؤولية بالمحاسبة كان اختيارا استراتيجيا موفّقا لا تنقصه إلا المأسسة الدستورية التي تضمن له إقرار قانون تنظيمي يحدد شروط المسؤولية وضمانات المحاسبة، بعيدا عن التجاذب والتراشق السياسي الذي عرفه مثلا قانون التعيين في المناصب العليا، والذي انتهى بنتيجة سيادة سلطة الوزيرات والوزراء السياسيين على حساب سيادة حق المناصفة والمساواة، وقانون الاستحقاق والأهلية في التعيين. ولعل من بديهيات شروط المسؤولية التي تمنح لصاحبها ضمانات المحاسبة العادلة، الإحاطة التامة بالمرجعيات التشريعية والقانونية والإدارية المعمول بها، على علاّتها، وخاصة المرتبطة بمضمون المسؤولية ومحيطها، والقدرة على فهم واستيعاب وتمثّل موضوع المسؤولية في شكله المؤسساتي الذي يربط بين المهمة والرؤية والمخطط الاستراتيجي والأهداف والمؤشرات، وأن تكون الجهة العلمية، التي تنتقي المسؤول أو المكلف بالأعمال، نزيهة ومحايدة ومختلطة وذات خبرة وحنكة، تستثمرها في تقييم أهلية المرشح المقترح لنيل ثقتها وتزكيتها، وأن تصاغ وثيقة التعيين أو التفويض بلغة إدارية سليمة وسهلة وغير قابلة للتأويل، تحدد الاختصاصات والصلاحيات والالتزامات والمسؤوليات، وفق إستراتيجية المؤسسة، في انسجام سياسي وخدماتي مع جهتها الوصية ؛ كما أن من شروط المسؤولية الاستفادة من الميثاق الأخلاقي الحكومي الذي يحد من ظاهرة التعليمات الشفوية غير المسؤولة، والعلاقة الإدارية الفوقية شبه العسكرية، والتقلّبات الحكومية الحزبية التي تحمل معها أتباعها إلى مناصب الإدارات المناطة بها على حساب كفاءات الموارد البشرية المحلية أو كفاءات أنصار الأحزاب الأخرى. ولا بد من تحصين عمل المسؤول وتقويته من خلال تمكينه من كافة الآليات الجديدة والتجارب والخبرات والوثائق المرجعية، ودعم قدراته بفريق عمل مسؤول هو الآخر، يقتسم معه نتائج حصيلة منظومة التدبير الإداري التسلسلي، وكذا أرباح وخسائر المسؤولية المشتركة في بعدها الإداري على الأقل، وتخصيصه – أي المسؤول -، إلى جانب امتيازاته المشروعة والمقنّنة، بالإمكانات المادية والبشرية واللوجستيكية التي تساعده في تحقيق أهداف المؤسسة، والوفاء بالتزاماته والتزامات مؤسسته، بتدبير خاص واستقلالية وحرية مقننة ومشروطة، وتوفير ظروف مساندته ومواكبته، وحتى مراقبته، للحفاظ على وثيرة أدائه، وتحسينها وتعزيزها بما يخدم برامج المؤسسة ؛ لأن كل مسؤول إداري، كبير أو صغير، يلقى إهمالا ونسيانا، أو عدم اكتراث ومتابعة، أو إسقاط من أجندة المرافقة والمواكبة الدورية المنتظمة للجهة المشغّلة أو الوصية، يبدأ عن قصد أو غير قصد في ارتكاب وتجميع الأخطاء الإدارية التي قد تضعه ومسؤوليه في موضع المساءلة أو المؤاخذة اللاحقة. أما ضمانات المحاسبة العادلة في المدة الزمنية المعقولة فتتحدد في التوفّر الفعلي على كل شروط المسؤولية المذكورة سابقا، وعلى رأسها شرط الموارد والاختصاصات، والمعرفة المسبقة بالمساطر الإدارية الجزائية أو العقابية التي تربط الأسباب بالنتائج، والأهداف والإستراتيجية بالموارد، والمكاسب بالمخاطر، والواجبات بالحقوق، والمسؤولية الفردية أو الجماعية على الأفعال ؛ كما أن من ضمانات المحاسبة العادلة التنصيص على المقاربة الحقوقية لكل الأطراف المعنية، ومنها حق الردّ، والدفاع عن الحصيلة، وتبرير النتائج الإيجابية أو السلبية، وتنصيب سلطة محاسبة مستقلة ونزيهة ومحلّفة، قادرة على تأمين إجراءات المحاسبة وفق شروطها السليمة والبعيدة عن أي أحكام جاهزة، أو عدوانية مسبقة، أو تصفية حسابات شخصية أو سياسية، للوصول إلى تقييم وتقدير المكاسب والخسائر، والأرباح والمخالفات المادية والاجتماعية، التي على إثرها تصدر قرارات التنويه والترقية والتزكية، أو العزل والإعفاء والإنذار، مع المتابعة أو حفظ المتابعة. وهذا لن يتأتى في عهد الحكومة الحالية، بعزيمتها المعلنة ومثبّطاتها واختلال تركيبتها السياسية، إلا بفتح نقاش وطني عام حول شروط المسؤولية وضمانات المحاسبة قبل الحديث عن ربط المسؤولية بالمحاسبة، وإطلاق تشاور قطاعي ثان حول تسمية واختصاصات المجلس الأعلى للحسابات التي يجب أن تتجاوز حدود مراقبة المال العام إلى مرجعية وضع ضوابط ومعايير المسؤوليات، وتقييم السياسات العمومية الجارية، ومحاسبة المسؤولين الفرديين والمؤسساتيين، إيجابا أو سلبا، بالتنويه والتزكية والتثبيت، أو الإحالة على الجهات الإدارية أو القضائية المختصة ؛ كما أن عدالة وتوازن ربط المسؤولية بالمحاسبة تقتضي إصلاح وتطوير المنظومة التشريعية القائمة، بتطهير وسد ثغرات القوانين الإدارية الجارية، وابتكار قوانين أخرى أكثر ملاءمة ونفعية، وحماية القائم على المسؤولية والمستفيد منها والوسيط بينهما بضمانات الحقوق والواجبات، وأخيرا إصلاح وتحديث المنظومة الإدارية برمّتها، وخاصة في جوانب دعم اللاتمركز واللا تركيز الإداري، بتفويض مزيد من السلط والصلاحيات خارج الدائرة المركزية، وإعادة تحديد مهام وخدمات الإدارة، وتعميم أخلاقيات المرفق العام، وتأهيل الموارد البشرية بكل أصنافها، وإصلاح منظومة الأجور والتحفيزات المادية، وتحسين علاقة الإدارة العمومية بكافة المتعاملين معها، لتحقيق قفزة نوعية في استرداد الثقة والمصالحة بين مسؤولي الإدارة وعموم المواطنين، بما يساهم واقعيا في إعادة مسلسل تنمية البلاد على أسس المسؤولية المشتركة، وعلاقة المحاسبة العادلة القائمة بينهما.