"نادينا بأن الأديان لا ينسخ بعضها بعضا ولكن يكمل بعضها بعضا، وأن من يغير دينه من مسيحية إلى إسلام، أو من إسلام إلى مسيحية لم يهرب من الله إلا إلى الله ، وأن هذه الحواجز بين الأديان هي من صنع المؤسسات الدينية المنتفعة أدبيا و ماديا منها " المفكر الإسلامي جمال البنا هل أصل الأديان واحد! و هل أتت الأديان لكي تأجج الحروب المباركة وتفرق الشعوب إلى ملل ونحل! أم جاءت لتخلص البشر من الشر والضياع والحيرة! ثم كيف تتحول الأديان من منظومة قيم سامية و شعائر دينية متعالية تحث على الفضيلة ومكارم الأخلاق إلى ايديولوجيا طبقية ومؤسسة فئوية ضيقة تعمل على تبرير الاستبداد واحتكار المقدس! و أخيرا ما موقع الأديان بين قروسطية اللاهوت السياسي وحداثة التنوير الديني! لطالما شكلت مسألة الصراع بين الأديان عنوان تاريخ طويل من الحروب المقدسة ومن الاقتتال والتناحر من أجل تعزيز وتحصين كل دين لموقعه في سوق الرموز نظرا لما تمثله الرموز في خارطة الوعي وصيرورة الفعل وفائض المعنى من قوة مؤثرة وفاعلة في التحكم في مصائر الناس والسيطرة على عواطفهم، ورغم كل المحاولات لفتح حوار حقيقي بين الأديان فإن المسلمات الدينية التي تسيج كل دين في دائرته الأرثوذوكسية المغلقة لا تزال تجثم بقوة وتقف حجرة عثرة أمام تحقيق ذلك الحوار المنشود. ولقد صور لنا القرآن الكريم طبيعة الصراع بين كل من اليهودية والمسيحية في كثير من آياته الكريمة وأشار إلى سر الاختلاف وإلى السبيل والصراط المستقيم للوصول إلى الحق سبحانه، و من آياته تلك قوله تعالى" وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتابَ كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فاللهُ يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" (البقرة -الآية 113). و كذلك تصوير القرآن الكريم لتخبط كل من اليهود والنصارى وتفنيده لادعاءاتهما و لبراهينهما فيما يدعيانه من حقيقة مطلقة لكونهما من لهما الأحقية بالجنة والفوز العظيم في آيته الكريمة " وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " (البقرة- الآية 111) و هكذا إذا يضعنا النص القرآني في صورة تقريبية لماهية الصراع اللاهوتي بين كل من اليهودية والمسيحية من جهة أولى، و من جهة ثانية بين اليهودية والمسيحية وباقي الأديان، و أما فيما يتعلق بموقف الإسلام من كل من الديانتين اليهودية والمسيحية فإن أول شيء يجب التأكيد عليه هو إيمان الإسلام العميق بخطورة التفرقة بين الأديان و الرسل لإدراكه العميق أن أصل الأديان واحد وهو الله سبحانه، وأنها الأديان وحدها القادرة على انقاد وتخليص العالم من الشر و الضياع، ولعل أبلغ تعبير على هذا الإيمان قوله تعالى " والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولائك سوف نوتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما" (النساء-152) وأيضا قوله تعالى " و إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن " ( سورة البقرة- 163)، لكن و بخلاف هذا إذا كان الاسلام يحث على عدم التفرقة بين الرسل فما السر الذي يجعل القرآن الكريم في آياته الكريمة الكثيرة ومنها قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين" ( المائدة- الآية 51) وأيضا قوله تعالى " إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب " (سورة آل عمران الآية 19) يحذر من موالاة اليهود والنصارى! و ما السبب الذي يجعلنا كمسلمين نربأ بأنفسنا عن مساءلة أهل الكتاب و الاهتداء بهم، فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحافظ أبو يعلى عن حماد عن الشعبي عن جابر رضي الله عنهم أنه قال" لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدونكم وقد أضلوا وإنكم إما أن تصدقوا بباطل و إما تكذبوا بحق وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني" هل يعني هذا أن للإسلام نظرة أخرى وموقف مختلف عن كل من اليهودية والمسيحية غير تلك التي تجعل الأديان تتكامل وتتعاضد وتتآلف لخلاص الإنسان من حيرته وضياعه، و لهدايته إلى الصراط المستقيم، صراط المؤمنين الصالحين! و هل النسخ الذي احتوى عليه القرآن الكريم هو فعلا نسخ سياسي وهوكما جاء في تعريف الدكتور سالم حميش بأنه" قصد من قصود الإسلام البدئية. فهذا الدين الجديد لم يأت لينضاف إلى الديانتين القائمتين بل لينسخهما ويحتفظ بما هو من قبيل الحقيقة فيهما. وبهذا المعنى يكون فرقانا، أي قطيعة ونسخا. وهذا هو الوجه الإيديولوجي- السياسي الخارجي للنسخ الذي لم يظهر حتى في عهد الرسول كعنصر مقنع فعال، وسكت عنه التابعون، نظرا لمقاومات المعارضين وتعصبهم " وإذا كانت هذه هي حيثيات النسخ الخارجي باعتباره عنصرا حاسما و فعالا سكت عنه التابعون وقاومه المعارضون في ديار المسلمين ذاتها، فكيف سيكون عليه الحال مع أهل الديانات الأخرى ! و هل سيشكل النسخ هنا حاجزا عقائديا و سندا لاهوتيا للقطيعة مع كل الديانات السماوية الأخرى! و بأية صيغة سنبني أواصر الثقة بين الأديان في إطار حداثة دينية تضع جميع الأديان في مكانها المناسب دون تسفيه أو تحريض بين مجموع المؤمنين لخوض الحروب المقدسة و تأجيج التعصب و الأحقاد و أيضا حداثة دينية كما يذهب فيلسوف العقل النقدي ايمانويل كانط تتجاوز الدين المغلق من دائرة الملة وتتخطاه إلى أوسع العوالم الكونية المنفتحة والقائمة على العقل الأخلاقي بما يعنيه ذلك تجديد نظرتنا الضيقة والمتزمتة بما يتوافق وحقيقة الدين المبنية على اعتبار أن أصل الدين واحد وذو رسالة واحدة وأنه لا خلاف أو تعارض بين الأديان كلها كما يذهب المفكر الإسلامي جمال البنا و أنه لا مجال لتأجيج المعارك الهامشية التي تقتات منها المؤسسات الدينية حول أحقية دين على أخر، فالأديان كلها من عند الله وأما من يحتكر الدين من مؤسسات وأحزاب وطوائف ومرجعيات فهي تتاجر بالدين من أجل مصالحها الضيقة لا أقل ولا أكثر. *كاتب مغربي [email protected]