بعد أربع سنوات على انطلاق الثورات العربية من تونس يتساءل كثيرون ما ذا حققنا؟ ويتكئ مناهضو الربيع على تحليل سهل بأن الثورة أثبتت فسلها، وأننا مجتمعات لم تخلق للديمقراطية، ولا للحرية. عادةُ الناس استعجال الثمار. هذه واحدة من الحقائق الحاكمة في الحياة. وإلا لما كان ثمة داع لبحث ما تحقق خلال أربع سنوات من عمر أمة، أو دولة. نحن مولعون بالسؤال: ما ذا حققنا؟ في حين أن السؤال المنطقي في واقعنا ماذا قدمنا؟ من زاوية شخصية جدا، يكفيني من الربيع. شبعت إنجازا، لقاء ما قمنا به. "بسطاءُ" و"نخبةٌ" خرجوا ليقولوا كلمة فغيروا طريقة تفكير العالم. خلال شهور أعادت كل مراكز القوى تقييم نظرتها إلى المنطقة، وإلى مطالب البسطاء فيها. حملت الانتفاضات بذور فنائها من واقعنا، ومع ذلك أوقدت الجذوة التي لا يمكن أن تنطفئ قبل أن يستحيل الوادي هشيما. بمنطق تحليلي ينظر من أعلى؛ لا داعي للتشاؤم المفرط. هذه مسارات التغيير لا تسلك طريقا قصدا. إنها في مفتتح شبكة من الطرق المتداخلة، لا تقود فيها البوصلة إلى مخرج آمن مرة واحدة. تنفر خيارات التغيير الاجتماعي من أي مسلك يقيني. تتشبث دائما بالنسبي القابل للتخطيء والتصحيح في الآن نفسه. هذا قانونها الذي لا يتغير. النسخة المصغرة من الثورة الفرنسية ماجت عشر سنوات، والنسخة الكبرى امتدت قرنا كاملا. أكون أنا أو لا أكون دارت عجلة تاريخنا الصدئة إلى الأمام، بل كادت تدمن الدوران. تغيرت بعض الأولويات، مع تغير نظرة الإنسان العربي إلى نفسه. عندما تنحصر الخيارات في اثنين؛ أن أكون أنا، أو لا أكون. فإن ذلك يعني أن تغيرا ما قادم. النموذج السوري الدامي أوضح مثال على حالة حصر الخيارات هذه. لا يمكن أن تعود الدولة السورية إلى ما قبل الخامس والعشرين من فبراير 2011. هذا الخيار لم يعد واردا بأي حساب عسكري أو سياسي أو استراتيجي. أحلام المتظاهرين الأوائل أعيد تشكيلها عبر مجازر غطت كامل التراب السوري، من أمانٍ بالحرية والرخاء، إلى معركة عسكرية شاملة، يجري حسابها بنقاط الربح والخسارة. من زاوية المعارضين لإسقاط النظام السوري، تواطؤا، أو شفقة، أو تغفيلا، خسرنا سوريا. ومن وجهة نظر السوريين الذين امتشقوا البنادق لم تكن سوريا حتى نخسرها. المعادلة غير قابلة لأي نوع من أنواع الاندماج أو التصالح. يقول التحليل البارد إن هذا منطق العدمية. سؤال الاعتراض هنا؛ عدمية بأي اعتبار، وفي نظر من؟. لو عدنا إلى بداية المسار فسنكون أمام "دور" يعود إلى البداية نفسها: لو لم يخرج المتظاهرون لما قمعهم النظام، ولو لبَّى النظام مطالب الحرية لما وصلت الأمور إلى حالة الانهيار. إعادة التعريف ليبيا نموذج آخر يسوقه "المشفقون" والشامتون بنفس الألفاظ. كانت لليبيا دولة تُسير ثرواتها، وتؤمن القوت والنوم الهانئ لعصافير في أقفاصها. أفقنا بعد الثورة على مجتمع مقسم، ومجموعات متناحرة عسكريا، محتربة سياسيا، واجتماعيا. الاعتبارات المبدئية تسند إلى الدولة هذه الوظائف الأساسية (الأمن والمطعم)، ويطالبها العقد الاجتماعي بالنظر إلى عصافير البشر نظرة أشمل وأعمق. سنعود إلى ذات الأسئلة كلما ابتعدنا عنها. أمْنُ مَنْ؟ وإطعام من؟دولة من؟ شرطة من؟ رئيس من؟يردد المغفلون والطيبون في ليبيا نريد "جيشا" و"شرطة" لأغلب مرددي هذا النداء الأيقونة أقاربُ ضحايا عقود الجمر التي حكم القذافي فيها. الجيش والشرطة كانا مصدر خوف غير متوهم. إنه ذعر حقيقي، يصنعه الرصاص، وأغلال القيود، وظلام المعتقلات. نريد أن نعود إلى الخوف الذي ألفناه، وإلى "القمع الحبيب"!!. أهذا منطق؟. من لم يخافوا أيام الخوف يرون الأمور على "حقيقة أخرى"؛ ما كان مصدر خوف للناس ينبغي ألا يعود. الطفل يعتقد أن حضن المرض أرحم من إبرة حقن الوقاية، لذا يهرع باكيا من سيارات التطعيم.يرفض الثوار الإصغاء إلى جزء من المجتمع لا ذاكرة له، أو يملك ذاكرة مثقوبة، ويلعبون دور مساعد الطبيب الذي يقبض على الأطفال لحقنهم بالإبر المحصِّنة ضد الوباء. إن الحقن مع الصراخ أسهل من الصبر على التمارين النفسية لإزالة الخوف من الإبرة. التمارين النفسية يمكن أن تناسب الحالات الفردية. أما الحالات الجماعية فعلاجها يتطلب حركة أسرع. إنها ميدان الحقن. يجب إذا أن نعود إلى تعريف الدولة والجيش والإنسان والمواطن. هذه التعريفات ستجعلنا نتفق أو نختلف على الأهداف من الكتل البشرية المسلحة التي نسميها جيوشا، وتلك التيارات القاتلة المسماة أجهزة أمن. وهذا الهيلمان المعنوي المدعو دولة.بعد الاتفاق أو الاختلاف سنناقش مهمات هذه الكيانات التي تمكنها من تحقيق "أهدافها". إن إعادة التعريف هذه ستشمل أشياء كثيرة، وستفكك كتلا كلامية تتحكم في وعينا، ولا وعينا، مثل: المصلحة العامة، والأمن، والمواطنة.بهذا الوعي، وبمنطق إعادة التعريف، سيكون الحكم على الحالة الربيعية في البلدين اللذين يقدَّمان نموذجا لإخفاقها، ولا منطقيتها، حكما إيجابيا. تونس انحراف في الفهم في تونس لعن بعض المهللين اليوم صندوق الاقتراع عندما جاء بخصم سياسي إلى السلطة، وانشغلوا بالشماتة عن قراءة المغزى عندما أزاح الصندوق الخصم وجاء بالصديق. في كلتا الحالتين هم أعداء الربيع، لأنهم لا يقرؤون دروسه.طرفا الصراع لم يحسنا قراءة الربيع، فمن جاء بهم أول مرة أخطؤوا في مغزى اختيارهم، لأنهم اعتبروه تفويضا لأشخاصهم، وليس تعاقدا على صفقةٍ الجمهورُ أحد طرفيها، وهو يريد غايته التي تحرك من أجلها. حسْب قراءتهم تكفيك النية الصادقة، ونقاء السيرة للتأول لأخطائك وغفرانها، هذا سبيل التحليل، والتداول في الهيئات القيادية النخبوية.ومن جاء بهم الصندوق مؤخرا، ظنوا أن الأمر يتعلق بالأداة؛ المال والإعلام، وعناصر قوة خفية، وتغيير في زاوية النظر إلى المصيبة. لرفض هذا المنطق أحرق البوعزيزي نفسه، ومن يتكئ عليه لم يتجاوز درس "الفهم البنعلي" على أعتاب قرطاج. إن الفريقين لم يخرجا من نموذجيهما القرائِيَّيْن. الفريقان أفضل حالا من مشجعي المقاهي. هؤلاء يضربون طاولاتهم ويشتمون جيرانهم لأن الكرة ارتطمت بالعارضة، في حين يستمع اللاعب إلى توبيخ الجمهور، أو تشجيعه. قبضات أيديهم تتورم، ويهتكون سكينة المقهى دون طائل. نموذج مشجعي المقاهي يستدعى لتصوير حالة بعض بلهاء الكتاب. رسالة الجمهور أقرب وأقل تعقيدا؛ أنا لم أعد أنا، أو ما زلت أنا، لكني لا أقبل بما كنت أقبل به. أعطي فرصة، ولا أمنح تفويضا، أعاقب من لم يستوعب الدرس دون أن أنخدع بتلميذ بليد آخر يضيع وقتي في تصحيح الأوراق ذات الخط الرديء. مصر.. انعدام الفهم اشتكت الحالة التونسية من ضعف الفهم، لكن مصر تعيش حالة من انعدام الفهم. غباء التلاميذ هناك مركب. بدلا من أن يسلموا الورقة بيضاء كما عندنا في موريتانيا، أو يغادروا قاعة الامتحان متأبطين أوراقهم كما في الحالة اليمنية، اختاروا طرح الأسئلة بدل الأستاذ الذي أعطاهم فرصة الخامس والعشرين من يناير 2011. بدؤوا يتأستذون!. انشغل بعضهم بتعريف الأستاذ وطرح الأسئلة عن هويته. ما ذا يريد من هذا الامتحان؟ إنه استحضار غير واع لمقولة التفكير من خارج الصندوق في وقت يجب التفكير فيه من داخله... إنه شعب مسلم يريد القرآن والحديث واللحية والجهاد. هذا صحيح، لكنه يريدها بمنطق معاصر، يمكن أن يستوعبه كل الناس، إنه يريده تالية لكرامته وحريته وعيشه الرغيد. أسئلة اللحظة الحالية كانت تريد السير باتجاه آخر؛ إنها تتجه إلى الاعتراف بالشعب بدل التعرف عليه. الاعتراف بقدراته وذكائه، وبمعرفته أيضا بما يريد. الفريق الآخر حكم بغباء الشعب، مستحضرا نماذجه السابقة، وافترض أسئلة أخرى وقدم إجاباتها. الشعب يرفض التوريث، ويثق في جيشه. علينا امتصاص غضبه بتركيب مشجب كبير اسمه الإخوان.غباء الفريقين أوقع الجمهور الفاعل في شراك الحيرة؛ فاختار الانسحاب. بدأ الفريقان، في طرح الأسئلة والأجوبة، كلها كانت خارج الموضوع. كانت الأجوبة أحيانا، بل غالبا، تأتي أولا. نجيب ثم نطرح الأسئلة لاحقا. هذا هو منطق التبرير. لا أحد يقف أولا ليقول ما ذا نريد؟ وأين أخطأنا؟. ودارت العجلة ثمة نماذج أخرى لا يتسع لها المقام؛ فالرجة كانت هائلة، وأثرت عميقا في كل البنية، بدرجات مختلفة، أرغمت، في أدنى تجلياتها، المافيا على محاولة تغيير الجلد، وتبني "كلام التغيير"؛ فقد أصبح عندنا أول "رئيس ثائر" في موريتانيا، وأول حكومة ملتحية في المغرب. وانقضى عصر وهم الإصلاح من الداخل في الجزائر. شهور الربيع الثمانية والأربعون أطلعتنا على كل هذا الخطل، وأعادتنا إلى نقطة البداية الصحيحة، وكنست كل الخيارات باستثناء خيار التغيير العميق والجذري. إنها أزاحت، مع الركام الكثيف الذي أزاحت، صورة القوى الظهيرة لنماذج الاحتلال المحلي التي تحكمنا. لقد أدارت هذه الأشهر عجلة التاريخ وبددت أوهام الوطنية التي كانت تكبلنا، وهي إلى ورد التغيير تحشرنا. لكن أربع سنوات من الربيع لا تكفي... ربما نحتاج أربعين ربيعا. *كاتب موريتاني