من أهم الدروس التي أكدتها وتؤكدها ثورات الشعوب في «الربيع العربي» درس لا أخال أنه يوجد أي اختلاف حوله بين الباحثين والمتتبعين، نقصد غباء الاستبداد كعامل موضوعي مساعد، بل أساسي معجل بسقوط هذا الاستبداد. في إحدى دراساته، قبل أزيد من قرن، يخلص المفكر الفرنسي الماركيز أ. دو طوكفيل إلى أن الشروط الذاتية والموضوعية عندما تكون ناضجة لتحول نوعي في مجتمع من المجتمعات، فإن الحاكم في هذا المجتمع لا يبقى أمامه إلا أحد خيارين: أن يقوم بالثورة أو أن تقوم عليه الثورة. وفي مثل هذه السياقات، فإن بعد الزمن يصبح حاسما بل حساما، كما تقول الحكمة القديمة: «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك». وهنا امتحان الاستبداد وتأكد غبائه. هل نتحدث بعلم الإحصاء فنلجأ إلى معامل الارتباط Coefficient de correlation؟ لا شك في أن علماء الاجتماع والباحثين في علم السياسة، بآليات رصدهم ومناهج بحثهم العلمي، سيتوقفون كثيرا عند هذا المعطى، معطى المعنى ومدى ارتباط الاستبداد بالإدراك والفهم المتأخر عند الديكتاتور الذي لا يفهم إلا عندما يصبح الفهم متجاوزا caduque. «أنا فهمتكم!».. هكذا صاح بنعلي في تونس لكن في الربع الساعة الأخير، بعد أن انتهى كل شيء. «أنا على استعداد.. وأنا على استعداد..»، يتلعثم صالح محاولا، دون جدوى، أن يتدارك وما هو بمتدارك شيئا، وكل شيء ينتهي اليوم في اليمن؛ وبينهما مبارك وصرخته الاستغاثية العبثية: «أنا لا أنوي الترشح لفترة رئاسية جديدة!».. كانت اللعبة قد انتهت لينتهي المآل به إلى الخزي الذي نراه عليه إلى جانب ولديه وبعض من حاشيته أمام المحكمة على سرير طبي! وإذا كان هناك ديكتاتور عربي لا يفهم إلا في ربع ساعة الأخير، فإن هناك آخرين لم يرزقوا حتى هذه «الملكة»، ولو في الوقت الضائع، فلا يفهمون إلا في آخر دقيقة، لحظة السقوط المدوي، كما هو حاصل مع جلالة العقيد! وكما يمكن أن يحصل مع نظامي سوريا والبحرين فيما يستقبل من الأيام. هذا عن دينامية الثورات في الوطن العربي وعن التفاعلات في سيرورتها حتى اليوم، فماذا عنا هنا في المغرب؟ الحقيقة أنني من الذين يؤمنون بأن جوهر الإشكال في بلداننا، بغض النظر عن شكل النظام، هو هو. إن الإشكال في طبيعة الدولة النيوباتريمونيالية أو الأبوية المستحدثة، بتعبير المرحوم هشام شرابي.. دولة هي نتاج تفاعل بين المجتمعات التقليدية المحلية والدول العصرية بعد تجربة الاستعمار، فهي لا تناسب لا المنطق السياسي التقليدي ولا المنطق السياسي للدولة المعاصرة، بل إنها تمتح منهما معا؛ ف«.. الشكل والمظهر الخارجي يوحي بوجود دولة: الدستور، القانون المكتوب، الإدارة،... إلخ؛ ولكن منطق التسيير يبقى باتريمونياليا..»، كما يقول أحد كبار المتخصصين ج ف ميدار. هذا هو جوهر طبيعة الدولة في كل أقطار الوطن العربي، لا فرق بين الجمهوريات والإمارات والملكيات.. فالاستبداد واحد، وبالتالي فإن غباء الاستبداد لا بد أن يكون واحدا. إنه منطق: نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج.. غير أن «لكل قاعدة استثناء»، كما يقول الفرنسيون. ولقد جرى الحديث كثيرا عن «الاستثناء المغربي» الذي أعترف بأنني كنت من الذين حاولوا تصديقه، وإن بحذر شديد، ولاسيما بعد خطاب 9 مارس الذي صيغ بكثير من الذكاء وتضمن ما كان يمكن، لو توفرت الإرادة السياسية الحقيقية، أن يشكل أرضية للتغيير الحقيقي المطلوب، أي أرضية للثورة التي لا مندوحة عنها في خلاصة دو طوكفيل. ولكن.. ولكن بقدر ما كبر الأمل في خطاب 9 مارس كبرت الخيبة في امتحان الالتزامات والإرادة مع الدستور ومضامينه وشكل صياغته وطريقة تمريره؛ فالنصوص تتضمن الشيء ونقيضه، من بناء الحقوق والحريات على أسس المواثيق الدولية حتى دسترة «المجلس العلمي الأعلى» وصلاحياته. وكم كانت مفاجأتنا كبيرة في اللجنة الوطنية للتضامن مع مدير «المساء» عندما علمنا بمنع نيني من قراءة أي كتاب ما لم يأذن له بذلك «المجلس العلمي»! في أحد عروضه المسرحية، كان ذ.عليلو سنة 1981 يخرج على الخشبة قادما من عهد قديم في العراق، فيدير وجهه يمنة ويسرة، ثم يعلق على جمود الزمن في الحضارة العربية: البصرة هي البصرة، والطباع نفس الطباع والوجوه نفس الوجوه. أما «البصرة هي البصرة» فلقد رأيناها في استمرار ممارسات سنوات الرصاص بعد 10 «أيام ديال الباكور « زمن «الإنصاف والمصالحة».. أما «الطباع نفس الطباع» فلقد رأيناها رأي العين في إعداد الدستور وفي مضامينه وفي طريقة تمريره.. وتبقى «الوجوه نفس الوجوه»، وهو ما سنتأكد منه خلال الاستحقاقات المقبلة عندما يعيدون إلى المغاربة نفس الوجوه المقرفة لهم والتي جعلتهم يتبرمون من صناديق الاقتراع وما «يأتي» منها.. وأخشى ما يبعث على الخشية في هذا الصدد أن نعيد، في المغرب، إنتاج سيناريو مصر أثناء انتخاباتها الأخيرة التي أقنعت المصريين، من خلال إعادة نفس السلوكات والوجوه المقرفة، بألا فائدة من أي أمل في التغيير ضمن المؤسسات القائمة، فكانت تعبئة الشعب، عن بكرة أبيه، للبديل الجذري بعد اليأس من أي عمل جدي من شأنه أن يضمن الانتقال الديمقراطي بعيدا عن منطق الثورة.. هل فات أوان التدارك في المغرب؟ المؤكد أننا لسنا في ربع الساعة الأخير.. غير أننا، بمنطق بعد الزمن في ثورات الربيع العربي، لسنا بعيدين منه.. وإذا طرحنا السؤال بالخلف هذه المرة: هل ما يزال أوان التدارك في المغرب؟ الحقيقة أن المرء، باعتبار ما يحضر للانتخابات المقبلة وصنع مؤسساتها، لا يملك إلا أن يشكك حتى يأتيه اليقين.