أي وباء زاحف؟ أية جائحة فاتكة؟ أي جهل وجهالة؟ أية رعونة وحيوانية ووحشية؟. ولماذا يحاصر هؤلاء البرابرة الجدد، مدنا وبلدات وقرى ليست لهم؟ أفاقون بلا تاريخ ولا حاضر ولا أفق، يجوبون الأرض، ويمزقون الجغرافيا، ويستبيحون الحمى والأعراض؟ وباسم من؟ باسم ماذا يسفكون الدماء، ويجزون الرؤوس، ويصلبون الشباب ويسبون النساء وقودا للجهاد والبلاد والخلافة الموعودة، بينما الحقيقة شيء آخر تماما، شيء كالفسق والفجور والاغتصاب، والبحث عن الملذات والشهوات محروسة بالرشاشات والكلاشنكوفات والقنابل والمُدَى، والخناجر، والأحزمة الناسفة، واللحى الخادعة، والوجوه المصفرة الشاحبة، والشفاه المرتجفة، والعيون الدموية التي ترمي بشرر، وتقدح حقدا على الحياة، وكراهية للمحبة والأغيار. فهل "داعش" مؤامرة دولية، هل هي صنع أمريكي، تفتقت عنه عقول راسمي سياسة وأمن الولاياتالمتحدةالأمريكية القومي؟، أم هي صنع عالمي صهيوني؟ أم عربي خليجي، أم تركي كنوسطالجيا حارقة لإعادة الخلافة المقتولة عثمانيا التي أودى بها "كمال أَتَاتُورْكْ" المتنور العلماني؟. . ارْتَجَّ علينا كل شيء فلم نعد نميز بين الشاة والذئب، بين الوجه والقناع، وبين الكاسي والعاري. صرنا شيزوفرينيين وَلاَ منجاة. حسبنا الفكر العلمي والنقد المنهجي الخلاق تمنيعا وتمتيعا بحرية الرأي وإصابة الفكر المتجهم المُصْمَت، والمواقف المرضية المتوارثة، والفهم الماضوي المنغلق، في مقتل، فإذا الجهل يستشري أكثر، والشوفينية تنتشر بسرعة مدهشة، وإذا كل مرضعة تذهل عما أرضعت !. بئس ما نحن فيه، بئس الفكر العربي المترنح المهتز النائس بين التقليد والحداثة، الترقيعي التبريري التوفيقي التلفيقي.سائِمةٌ نحن أو كالسائمة الهائمة على وجهها لا ندري أين نسير، وفي أي اتجاه نخطو.. ما الأفق؟ ما الغد؟ ما الهدف؟ وَهَا مُنْتَسِبُون لنا، منتمون إلى الإسلام يستعملونه في ما ليس بإسلام، يركبونه متوهمين أن آياته جميعها تخاطب الحاضر والمستقبل كما خاطبت الماضي، مقتلعين الآيات من سياقاتها التاريخية والاجتماعية وظرفيتها المحدودة ومعمِّيمنَها على الحاضر، معتقدين بل مؤمنين الإيمان كله بأنهم ينصرون الإسلام، وينتصرون للنبي الأكرم بتصفية الآخرين، مسلمين ومسيحيين ويهود ولا أدريين، مرغمين البلدات الخاضعة والمغتصبة على الإيمان بإيمانهم الأعمى المتخلف، طاردين "الإيزيدين" من ديارهم وهم الذين عاشوا في أكنافها وتحت سمائها أعمارا وأزمنة مديدة ، لا لشيء إلا لكونهم غير مُسْلِمينَ مُسَلمين بأفكارم الغبية المتحجرة، وفتاواهم المرضية الرعناء. لنستحضر لحظة واقع الأسر والاغتصاب والنخاسة و"نكاح الجهاد"، لنستحضر اقتلاع بنات كن آمنات في أحضان آبائهم وبلداتهم، من آبائهم وأزواجهم وإخوانهم، والزَّج بهن في أسواق الرقيق، وتوزيعهن على كل معتوه وضال ومُتَلمظ للنكاح والوَطْء. لنستحضر ذلك حتى نقف على البشاعة التي يقترفها هؤلاء المجانين باسم الإسلام. لقد قال البابا " فرنسيس الأول " مؤخرا وهو يزور تركيا في شأن ممارسات هؤلاء الوحوش مايلي : "إنهم يرتكبون خطيئة كبرى بحق الرب"، رافضا أن تكون منطقة الشرق الأوسط بدون مسيحيين وهم الذين يمارسون عقيدتهم فيه منذ ألفي سنة بحسب البابا. وكيف لا يعترينا الوجل والخجل أمام أمم الأرض ونحن نرى ما فعل السفهاء منا بإعلاميين في قلب باريس، وبمواطنين يهود؟ ، فهل نحن في أحسن حال حتى ينهال علينا غضب العالمين، وكراهية العنصريين؟. وماذا يضير الرسول العظيم من أمر كاريكاتور شِيءَ له أن يعبر عن رأي أحدهم لم يطلع كفاية على الدين السمح، وعلى سنة الرسول وسلوكه؟، فالنبي أُخِذَ بجريرة المنتمين إلى رسالته الذين يريدون أن يحملوا أمم الأرض على اتباع خطاهم، ومعانقة آرائهم، والتسبيح بالإسلام كأعظم وأكمل ديانة على الأرض. فهذه الطغمة الإرهابية التي شَوهت الإسلام، وأبانت عن تخلف بنيوي، وانفصام نفساني، ومرض عُصابي، لم تنجح في الاندماج، لم تفلح في قبول الآخر، ولم تتغلب على ضمورها ونقصانها المعرفي والعلمي، بالاجتهاد والكد والانفتاح والحوار. لم تَسْمُ، وكيف لها ذلك، إلى مستوى الزمنية المتحولة، وروح العصر لتدرك أن العصر عصر الحريات والديمقراطية، وأن أوروبا وأمريكا، عانت الأمَرَّيْنِ لتصل إلى ما وصلت إليه، كابدت وشقيت المشقة الضنكى لتحقق ما هي فيه. وسالت دماء غزيرة، ومات قوم كثيرون من أجل الحرية وكرامة الإنسان. فحرية التفكير وحرية التعبير، وحرية الضمير والمعتقد، هي حريات مُعَمَّدة بالدم والمعاناة والصبر عبر أكثر من ثلاثة قرون. وهي – من ثم- ركائز العلمانية، وأعمدة الديمقراطية الغربية التي ما أن تتزعزع حتى يتزعزع البناء الحضاري لأوروبا وأمريكا، إذ قامت على أكتافها، وتنامت بين أيدي قادة الفكر والرأي والسياسة والحقوق. فكيف يأتي اليوم من يروم هدمها بضربة لازب، ويبغي تهشيمها متوهما ردها إلى عقيدته، ودينه وأرضه اللامحدودة التي هي بعض أرضه، وأبعاض خلافته الهاربة !!. إن ممارسات داعش وباقي الإرهابيين تحت مسميات أخرى، هي وجه من وجوه النازية المقيتة، والفاشية السوداء، والوهابية المتخلفة المحنطة. فهم لا يمثلون الإسلام أبدا من حيث هو دين وهوية وثقافة. ومن ثم، فعلى علماء الدين، على مراكز ومؤسسات الدين والتشريع الإسلامي أن يحسموا أمر هذه الكارثة العظمى التي بدأ شرها يستطير وينتشر في الربوع والأصقاع، بالإعلان عن مواقفهم المبدئية من الإرهاب، إعلان يكون مكتوبا وممهورا، واضحا قائما ومستقيما من غير لف ولا دوران. فعلى جامع الأزهر وجامع الزيتونة، وجامع القرويين، والمجالس العلمية الفقهية العليا، ومراكز البحوث الدينية في أطراف العالم العربي، أن تجهر بالحقيقة، وتصدع بالحق على اعتبار "داعش" و"القاعدة" و"النصرة" و"المجاهدين" الذين يمتشقون السلاح، المحسوبين على الإسلام، عصبة من المارقين الخارجين عن الإجماع، وعن الجادة، وعن الدين، وعن الحضارة الإنسانية وأنهم شر مستطير ينبغي اجتثاثه والقضاء عليه. ليس هناك صراع حضارات، هناك حرب من جهة واحدة تشن على الحضارة الإنسانية، إذ أين الحضارة الإسلامية الآن التي تُكَاتِفُ بِنِدَّيةٍ وتنافسية الحضارة العالمية؟، وعليه فالميزان مختل منذ المنطلق، والكفة ليست في صالحنا، لكن في صالحنا ومصلحتنا احترام شعوب العالم، والانفتاح على علمهم وثقافاتهم، فإذا فعلنا فإن باقي العالم سيكون مدفوعا إلى احترامنا والتعاون معنا. إن ما حدث في باريس خطير جدا، مُقَزِّزٌ ومرعب بكل المقاييس، ونحتاج وقتا طويلا لمداواته، وحَمْل الناس على نسيانه، فلا أقل من أن نشرع في لملمة شظايا العرب المسلمين، ولملمة خزعبلات بعض الفضائيات الدينية والتطويح بها، واستبدالها بما ينفع الناس، وما ينفع الناس يوجد في التعاليم الخلقية الإسلامية، واستثمار الدين في الحض على محبة الناس، واحترام أفكارهم ودياناتهم وثقافاتهم. ففي القرآن والسنة ما يفي بذلك بعد البحث والفحص والتمحيص، واطراح الأحاديث المهزوزة المكذوبة جانبا، والإبقاء فقط على ما يخدم التوجه العلمي والعقلي الذي لا يتنافى مع الواقع، ولا يسائل منطقا ويشكك في بديهيات ومسلمات تكرست وأصبحت جزءا من حياة الإنسان والمعمور. في قصيدة قسطنطين كفافيس الذائعة : (في انتظار البرابرة)، لا يصل البرابرة، ولكنهم يشكلون فكرة شغلت الأمبراطور ورعيته... يجتمعون كل يوم في الانتظار ثم يَنْفَضَّون وهكذا، في معالجة عميقة من الشاعر لمسألة إلهاء الشعب عن واقعه، وصرف نظره عن مشاكله الداخلية. ومثله فعل الكاتب الكبير صاحب جائزة نوبل "كُوتْزِي" في روايته التي اسْتَلَفَ عنوانها من شاعر اليونان الكبير كفافيس : (في انتظار البرابرة). فإذا كان البرابرة لم يصلوا في الشعر وفي الرواية، فها قد وصلوا في الواقع، ووصولهم مُرٌّ علقم وَتَتَرِي لأنه ينشر الحقد والكراهية والدم والدمار والخراب، ويقتل بني الإنسان.