يثير العمل الإرهابي الأخير الذي هزّ المجتمع الفرنسي، بل الضمير العالمي برمّته، والذي جاء كرد فعل على ما نشرته مجلة Charlie Hebdo من صور ساخرة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مجموعة من الأسئلة لمعالجة ظاهرة الإساءة للأنبياء، وتحليل أبعادها من مقاربات متنوعة قد يكون التاريخ أحد آليتها. وهو ما يحفّز على النبش في دهاليز التاريخ لتأصيل هذه الظاهرة، وفهم أبعادها، واستنطاق رمزية مدلولاتها، وربما أيضا توظيف درس التاريخ ضمن المقاربات التي يمكن الاستناد إليها في إعادة تجسير التواصل وبناء الثقة والتحالف بين الثقافات والحضارات. وسنتخذ تاريخ المغرب والأندلس نموذجا في هذا المقال لرصد الجذور التاريخية لظاهرة الإساءة للرسول الكريم وتحديد ردود الفعل تجاهها. غير أن الباحث يصطدم في نبشه لماضي الظاهرة بكونها ظلت من الظواهر التي أسدل عليها ستار من الصمت والتكتم في الكتابة التاريخية المغربية، وبقيت حكرا على الروايات النصرانية، وإن كانت كتب النوازل قد ألقت بصيصا من الضوء على هذا الجانب التاريخي المنسي. والجدير بالتنبيه أن هذا المقال لا يسعى إلى سرد الروايات المسيحية حول الإساءة لنبي الإسلام ، وهي الروايات التي سرّح فيها النظر كل من المستشرق الهولندي رينايت دوزي R . Dozy والمستشرق الإسباني "سيمونيت" Simonet ، والمستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال L. Provençal بالنسبة للأندلس ، و De Genival و Mensange و De Mas Latrie بالنسبة للمغرب الأقصى، مع ما لهذه المتون المسيحية من أهمية في تحديد تشكلات الذهنيات في كل من الغرب المسيحي والغرب الإسلامي. لكننا سنقتصر على سرد بعض النماذج من وقائع الإساءة للنبي (ص) من طرف بعض المسيحيين المتطرفين، وكيف تم ّ التعامل معهم ، لنقف على جانب من العقلية المغربية في العصر الوسيط، وردود الفعل تجاه هذه الظاهرة ، وما توفره تلك الردود من إمكانية المقارنة مع ردود الفعل تجاهها في الزمن الراهن. تبرز على رأس قائمة السلوكات المسيئة للرسول ما تسميه المصادر المسيحية ب"حركة الشهداء" المسيحيين التي قامت في الأندلس خلال القرن 3 ه( 9م) ، وهي حركة قادها بعض القساوسة بزعامة " إيولوخيو" الذي شكّل تيارا معاديا للإسلام، وكان من أهم سلوكاته التطاول على النبي محمد وشتمه علنا أمام المسلمين. ولسنا بصدد عرض هذه الحركة وربطها ببنيتها السوسيو- اقتصادية، لأن ذلك يتطلب حيزا كبيرا من التحليل لا يسعه مقال من هذا الحجم الذي نتوخاه. بيد أن الذي يهمنا يكمن في تحديد المواقف من رعونة تلك الإساءات. وبما أن "حركة الشهداء " المسيحيين استغرقت ردحا طويلا من الزمن ، فقد تنوعت المواقف منها ، ولكن هذه المواقف اتسمت عموما بالتريث والمرونة، وعدم الإقدام على القتل إلا بعد التدرج والليونة في التعامل مع المتهمين الذين كانوا يعرضون على العدالة، فيتلمس لهم القضاة أعذارا مختلفة كالجنون أو صغر السن أو المرض وما شاكل ذلك ، أو يطلبون منهم الاستتابة ، أو يكتفون بتعزيرهم كما حدث للفتاة النصرانية المعروفة باسم فلورا Flora. وإذا لم تنفع كل هذه الوسائل واستمر المتهم في الإساءة لنبي الإسلام، يحكم عليه آنذاك بالإعدام. ومن الآليات السلمية الملفتة للنظر التي تم اتخاذها لمحاصرة ظاهرة التطرف النصراني والإساءة لنبي الإسلام ، ما أقدم عليه الأمير الأندلسي عبد الرحمن الأوسط (ت سنة 238 ه- 852م) الذي دعا إلى عقد مجمع كنسي برئاسة المطران Recafredo . وطرحت في هذا المؤتمر ضرورة مراجعة الفكرة الشائعة في أوساط المتطرفين المسيحين، وهي أن سبّ النبيّ محمد هو فعل استشهادي يحيل على قيم التطهر والقداسة. كما سعى المجمع إلى إبراز خطورة هذا السلوك من الانعكاسات التي تطال المسيحيين الذميين وتعرّضهم للبطش والاضطهاد. وخرج المؤتمرون بقرار يدعو إلى استنكار ذلك السلوك المشين الذي يمس المشاعر الدينية للمسلمين، في حين دافع أحد الأساقفة المشاركين في المجمع عن أبطال الحركة، واتفق المجمع في النهاية على حلّ وسط ينصّ على الاعتراف بمن تمّ إعدامهم سابقا كشهداء، لكنه دعا في ذات الوقت إلى الكفّ عن الإساءة للعقيدة الإسلامية ونبيّها محمد، وأن عقوبة السجن ستطال كل من يحرض عليها. وإلى جانب هذه الحركات المنظمة التي كانت تسيئ لنبي الإسلام، لا نعدم نماذج حول بعض الحالات الفردية التي حذت حذوها. فمتون النوازل الفقهية تكشف عن مجموعة من الحالات التي كان بعض الأشخاص يجرأون على شتم الرسول تحت سمع وبصر المسلمين ، من ذلك ما ورد في نوازل الونشريسي حول امرأة مسيحية مقيمة بقرطبة نفت صفة الألوهية عن الله سبحانه وتعالى، وزعمت أن عيسى هو الله ، وأنكرت نبوة محمد عليه السلام ، وأن ما جاء به مجرد إفتراء ( المعيار، ج2، ص 344 ). وفي مثل هذه الحالات كان الحكم بالإعدام من نصيب كل من تجاوز الخط الأحمر في منظور الفقهاء الذين لم يكونوا يفرقون بين كلّ من أساء إلى النبي (ص) سواء مسيحيا أو ومسلما ، فالعقوبة واحدة إذا لم يتبع صك الاتهام استتابة واضحة وصريحة. ولا يسمح المجال هنا باستعراض كافة النوازل التي أثارت مسألة الإساءة للرسول (ص) ، وردود الفعل تجاهما من قبل الدولة والعلماء. كما تطالعنا الروايات النصرانية أيضا حول حركة مسيحية منظمة كانت تمارس التبشير بالمغرب خلال عصر الموحدين ، وتسعى في نفس الوقت إلى الإساءة للرسول عليه السلام علنا مثل حركة الفرنسيسكان في مدينة مراكش، وجماعة دانييل في مدينة سبتة المغربية، وهي جماعة قامت بحركة تبشيرية مدعومة من البابا هنوريوس الثالث Honorius III ، لكنها تجاوزت حركة التبشير لتصل إلى خانة الإساءة للإسلام ونبيه، رغم سياسة التسامح التي تهجها بعض الخلفاء الموحدين تجاه الجاليات المسيحية المقيمة بالمغرب في زمن اشتد فيه أوار الحركة الصليبية. من حصاد استقراء هذه الوقائع التاريخية التي أتينا على ذكرها على سبيل المثال لا الحصر، نستشف أن ظاهرة الإساءة للرسول محمد ( ص) من قبل المسيحين المتطرفين في مجتمعات الغرب المتوسطي هي ظاهرة متجذرة في أعماق التاريخ ، وأن العقلية الإسلامية في ذلك الزمن لم تتعامل معها بمنطق "المسيحيفوبيا " ، بل بمنطق الحكمة والتعقل، وتبنّت مقاربات متعددة في تشخيصها ومعالجتها ، ابتداء من الإعراض ، إلى إيجاد الأعذار للمسيئ ومحاولات إقناعه، مرورا بعقد مؤتمرات لمناقشة الظاهرة، وطلب الاستتابة للمتهم ، قبل الحكم عليه بالقتل كآخر حلّ إكراهي في مربع مواجهة الظاهرة بالعنف رغم أن المسيئين للرسول (ص) كانوا يعيشون في إطار المواطنة تحت ذمة وحماية الدولة الإسلامية بالمغرب والأندلس. فهل يمكن الاستفادة من دروس التاريخ لمعالجة التوتر بين الإسلام والغرب بسبب عدم مراعاة المشاعر الدينية، من أجل تفادي ترك بقعة الزيت تتسع فوق قطعة الثوب ، وذلك عبر لقاءات ومشاورات تهدف هذه المرّة إلى تحديد مساحة حرية الصحافة، بإصدار قانون يضع النقط على الحروف، ويصيغ ضوابط المسافة بين حرية التعبير التي هي من أقدس المبادئ الإنسانية، وبين خدش المشاعر الدينية التي تسيئ إلى نظام القول في الحرية ذاتها، وتفقدها " شرعيتها ". فحين يصبح قاموس حرية الصحافة مرادفا لمعنى إبداع الصور الساخرة ضد الأنبياء ، ويزخر بعبارات الشتم والهمز واللمز للمقدسات، وتزدهر فيه غرائز الافتراس تجاه أديان ومعتقدات الآخر، تتحول الحرية من حرية متوازنة إلى حرية متطرفة تنتج تطرفا نقيضا يزيد من آلام الأضراس عوض اجتثاثها. • أكاديمي مغربي، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة مكناس