هذه محاولة لمناقشة ما نشرته هسبريس للسيد عصيد تحت عنوان “ناقوس الخطر الذي دُقّ في أنكولا” قد يندهش قراء هسبريس من إنتقاداتي المتكررة للسيد أحمد عصيد رغم أنني، على ما يبدو لأول وهلة، أقرب إليه فكريا ورغم أن لنا معارضين مشتركين من الفقهاء ومن أهل المنابر المترفعة على الناس والمتعالية عن كل انتقاد، وكأنها على اتصال مباشر بالسماوات العلا. لا أشك أن أسباب الإندهاش ستندثر لو تمعن القراء ليمحصوا كلماتي تمحيصا لا هوادة فيه. منذ ابن رشد، وصولا إلى عهد الجابري وأركون ثم عصيد … لا يرقى فكرنا “التقدمي” إلى درجة الصدق كي نسمي داءنا المشترك باسمه. أكاد أجزم اليوم أن كل المسلمين – والمغاربة منهم خاصة – يفقهون كل الفقه أسباب الداء الذي به نحن مصابون منذ أزيد من أربعة عشر قرنا، إذ يعود عهد نشوءه لإبراهيم وموسى. ولكننا نفضل، مرارا وتكرارا، توجيه أصابع الإتهام للرجعيين أو للفقهاء أو للوهابية (كما فعل السيد عصيد بمقاله) أو للسلفية الجهادية أو لأسماء جديدة نخترعها حسب الظروف، كي لا نعترف بسهولة تامة وبوضوح تام أنه قد كتب علينا القتال وهو كره لنا. نعم، نعلم كل العلم أن ضمائرنا فطرت على كره العنف والقتال ورغم ذلك لا نجرأ، كجدنا إبراهيم، على مواجهة ما بأعماقنا من مقدس لنقول له بكل صدق وبعفوية الأطفال ولآخر مرة : “اللهم إن أمرك لمنكر، إنك حقا لمغتصب لضمائرنا كما كنت مغتصبا لضمائر أجدادنا”. فلماذا يا ترى لا نقدم على هاته الخطوة الجريئة وعلى هذا الإنتقاد الحاسم ؟ لماذا لا نثور على ما بأنفسنا من مقدسات عنيفة ظالمة؟ يبدو لي أننا ما زلنا نعتقد ونتمنى، كجدنا إبراهيم، أن التضحية بالنفس والنفيس ستؤدي بنا، إن آجلا أم عاجلا، إلى الحصول على ما وُعِدنا به : ذرية حسنة عديدة وأتباع يعتد بهم أرض كنعان (وما جاورها) التي تسمى اليوم فلسطين - إسرائيل خلافة الأرض، لأن الأرض كلها لله جنات النعيم أكباش فداء نقدمها قربانا لنتفادي مواجهة ما بأنفسنا من استعداد لنحر الأبرياء إبتداء من إبن إبراهيم وكبشه وصولا إلى فقهاءنا وسلفيينا ودواعشنا الذين تشبعوا جميعا بتربيتنا الإسلامية والذين ننعتهم بنعوت شنيعة. فالأستاذ عصيد يكرر نفس الطقوس التي كان العمل بها ساريا أيام ابن رشد : إتهم الفقهاء بأنهم لا يفقهون ولكنه لم يستنكر أبدا الأمر السماوي الذي حمل المسلمين مهمة القتال في سبيل الله بما في ذلك غزو مكة والجزيرة، وصولا إلى الأندلس وفرنسا … باسم العقيدة والدين. بكلمة أخرى طقوسنا التقدمية المتكررة هي إتهام مرضانا الأكثر تضررا بالتطرف عوض الإشارة بأصابعنا لأصل الداء المتنزل من السماء. نراوغ ثم نراوغ. لذا أناشد هنا كل التقدميين ألا يعودوا مرة أخرى لإيهام أنفسهم وإيهام إخوانهم، كما كتب السيد عصيد، أن الأمر "لا يتعلق هنا بالدين الإسلامي تحديدا" وإنما البوح علنا أن إخواننا السلفيين مرضى بإسلام المدينة بعدما انتاب الإستسلام جدنا إبراهيم الذي لم يستنكر أمرا باقتراف المنكر لما راوده ذلك في رؤاه ليتوهم أنه سينجب شعبا مختارا لترث ارضه وأرض الله الواسعة أمة ما زالت تتوهم أنها خير ما أخرج للناس أجمعين.أفلا تفقهون أيها الإخوان والأخوات التقدميون والتقدميات لتكفوا عن إتهام الوهابيين أو الإخوانيين لا لشيء سوى لتتظاهروا بالتقدمية وتتفادوا إنتقاد عقيدة إبراهيم وموسى ومن خلفهما بمكة والقدس والمدينة ؟ ناقوس الخطر الذي دُقّ في أنكولا أحمد عصيدالجمعة 09 يناير 2015 - 12:51 وأنا أتابع الأحداث الإرهابية المؤلمة التي عرفتها باريس والتي أودت بحياة العديد من إعلاميي مجلة "شارلي إبدو" ، حضرني بشكل ملح خبر قرأته قبل أزيد من سنة، مفاده أنه في يوم 24 نوفمبر 2013 شرعت أنغولا البلد الإفريقي في هدم مساجد المسلمين بحجة عدم وجود تراخيص قانونية لبنائها، غير أن تصريح وزيرة الثقافة في أنغولا آنذاك روزا كروز دسيلفا كان أكثر وضوحا عندما أعلنت أن أنكولا قررت "منع ممارسة شعائر الإسلام على ترابها"، كما أعلنت أن الدولة ترفض تسليم أية رخصة لبناء مسجد بدعوى "أن المسلمين المتشدّدين غير مرغوب فيهم على أراضيها". قمت بالربط بين الحدث الإرهابي الخطير الذي عرفته باريس وبين ما حدث بأنكولا، وتساءلت عن مستقبل الجالية المسلمة في بلدان العالم، في حالة استمرار تصاعد المدّ الإرهابي الذي يحظى بشبكات ضخمة من أموال البترول (البترول العربي الذي فشل في بناء الحضارة فانقلب إلى هدمها). ففي أنكولا تعيش أقلية مسلمة تعدادها حوالي 100 ألف نسمة، كانت تحظى باحترام الجميع، إلى أن بدأت العربية السعودية قبل حوالي ربع قرن تبعث بمدرسي اللغة العربية وأئمة مساجد مكونين على العقيدة الوهابية، عندئذ بدأ الشعب الأنكولي يلاحظ ظهور تغيرات كبيرة بالتدريج على سلوك المسلمين وعقيدتهم، حيث شرعوا في الانتقال من الديانة السمحة الوسطية التي ورثوها عن آبائهم، إلى اعتناق المظاهر الفلكلورية للوهابية السعودية في اللباس والعادات وفي معاملة الآخرين، وهو ما أجّج مشاعر الكراهية ضدّهم بشكل كبير، وعرّضهم لمخاطر الاضطهاد المرشحة للتزايد مستقبلا. حظر الإسلام بصفة رسمية وهدم مساجد المسلمين بقرار من السلطات أو بدعم منها ظاهرة غير مسبوقة، لكنها مرشحة للانتشار مع تزايد تهديد استقرار وأمن العديد من البلدان بسبب التطرف الجهادي الإسلامي، وهو ما قد يضع العالم من جديد أمام محكّ حروب دينية جديدة بعد أن طوت البشرية هذه الصفحة الدامية إلى غير رجعة. أمامنا المعطيات التالية التي يمكن أن تؤكد المخاوف التي عبرنا عنها: هناك تزايد ملحوظ لمظاهر التشدّد الديني في أوساط الجالية المسلمة وللجهاديين بالدول الغربية بسبب أزمة الهوية المعرقلة للإندماج، وكذا الإغراءات الكثيرة والتي أهمها المال الوفير الذي تغدقه العشائر النفطية بذريعة نشر الإسلام والتبشير به، وهو ما يقابله بشكل آلي تزايد نفوذ اليمين المتطرف المعادي للأجانب وللمسلمين بالدرجة الأولى، وقد أصبحت ألمانيا، أقوى دول الاتحاد الأوروبي، مسرحا أسبوعيا لتظاهرات علنية ضدّ تواجد المسلمين على أراضيها، حتى أن الإحصائيات كشفت عن أن عدد السكان الألمان غير الراغبين في تواجد المسلمين بين ظهرانيهم بلغ 13 في المائة، وهو رقم مُهول، كما تزايدت أصوات اليمين المتطرف بفرنسا من 2 في المائة إلى 19 في المائة، مع العلم أن هذا التيار مرشح لأن يحصد المزيد من الأصوات في الانتخابات القادمة بعد الذي جرى ل"شارلي إبدو"، وما قد يحدث في أماكن أخرى من فرنسا أو أوروبا، كما أن دول الشمال الأكثر استقرارا ورفاهية مثل السويد عرفت بدورها ظهور سلوكات غريبة من أبناء الجالية المسلمة، تعبر عن كراهية كبيرة لغير المسلمين، وهي سلوكات بدأت تلقى الكثير من الاستهجان والاستنكار من أغلبية السكان. ومن البديهي القول إن الأمر لا يتعلق هنا بالدين الإسلامي تحديدا، فالجالية المسلمة قضت عقودا طويلة في الدول الغربية دون أن تثير أية قلاقل، لكن الأمر يتعلق بظاهرة جديدة هي الإسلام السياسي الحامل لإيديولوجيا تدعو بشكل صريح إلى العمل على هدم أسس الدول الديمقراطية وتحويلها إلى دول إسلامية عبر التوالد والتكاثر وممارسة كل أنواع الضغوط باستعمال قيم الديمقراطية نفسها، من أجل فرض التوجهات المتشدّدة على مجتمعات بنيت أساسا على فكرة الحرية، ومن أخطر الوسائل المستعلمة الإرهاب المادي والعنف المباشر. مما لا شك فيه أنّ الجالية المسلمة ستعرف أياما صعبة مقبلة، إذ سيكون من العسير على الأوروبيين التمييز بين الإسلام وبين الإرهاب مع توالي ضربات هذا الأخير، كما أنه لا يكفي القول إن "السلوكات الإرهابية غريبة عن الإسلام"، ما دام الكثير من أبناء الجالية المتدينين يساندون ويباركون هذه الأعمال سواء في نفوسهم أو علانية، لكن من المؤكد كذلك أن الإرهاب موضة عابرة وغيمة لا بد أن تنقشع، والمطلوب بذل جهود كبيرة من أجل التقليل من الخسائر، بتطويق الظاهرة ومحاصرتها، وتكوين أبناء الجالية على قيم الاندماج الإيجابية والتعايش السلمي وقبول الاختلاف، ومراقبة المساجد وتحييد الدعاة والخطباء المشبوهين والمرتبطين بمراكز الإرهاب، وإقرار قوانين رادعة تسمح بمحاسبة كل من حاول تبرير أو نشر التوجهات الإرهابية.