جائت هذه القراءة الدستورية والقانونية لمشروع القانون المتعلق بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، بمبادرة مشتركة للنائبين عبداللطيف وهبي وحسن طارق عضوا لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، وذلك تزامنا مع مناقشة اللجنة المعنية لمضمون هذا القانون في أفق المصادقة عليه قريبا، وهي قراءة من زاويتين دستورية وقانونية. أولا : ملاحظات دستورية ينص الباب الثاني عشر ، من الدستور المغربي ،على سبعة فصول (من الفصل 154الى الفصل 160)،تحت عنوان :الحكامة الجيدة مبادئ عامة ،وعلى إثناعشر فصلاً (من الفصل 161الى الفصل 171) ،تحت عنوان :مؤسسات وهيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية . داخل هذه المؤسسات العشر ،يميز الدستور من خلال عناوين فرعية ،بين ثلاثة أنواع من المؤسسات : - هيئات حماية حقوق الإنسان والنهوض بها ، وتضم "المجلس الوطني لحقوق الإنسان "كمؤسسة وطنية تعددية ومستقلة ."الوسيط "كمؤسسة وطنية مستقلة ومتخصصة . "مجلس الجالية المغربية بالخارج "كمؤسسة لإبداء الآراء حول توجهات السياسات العمومية ذات العلاقة بالمغاربة المقيمين بالخارج . - هيئات الحكامة الجيدة والتقنين ، وتضم "الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري "كمؤسسة للسهر على احترام التعبير التعددي لتيارات الرأي والفكر ،والحق في المعلومة في الميدان السمعي البصري ."مجلس المنافسة "كمؤسسة مستقلة ،مكلفة بضمان الشفافية والإنصاف في العلاقات الاقتصادية ، في إطار تنظيم منافسة حرة ومشروعة ."الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها "كمؤسسة تتولى على الخصوص ، مهام المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد . - هيئات النهوض بالتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية ،وتضم "المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي "مهيأة إستشارية وتقييمية في كل السياسات والبرامج العمومية في هذا المجال."المجلس الإستشاري للأسرة والطفولة "كمؤسسة لتأمين تتبع وضعية الأسرة والطفولة ،وإبداء الآراء وتنشيط النقاش العمومي حول السياسة العمومية والمخططات الوطنية والبرامج المتعلقة بهذه الميادين ."المجلس الإستشاري للشباب والعمل الجمعوي "كهيأة إستشارية في ميادين حماية الشباب والنهوض بتطوير الحياة الجمعوية . كل هذه المؤسسات ،ينص الدستور على أنها مستقلة وتستفيد من دعم أجهزة الدولة (الفصل 159)، وإذا كانت قواعد تأليفها وصلاحيات تنظيم سيرها تحدد بقوانين (الفصل 171)، فانه يمكن كذلك للقانون أن يحدث علاوة على المؤسسات المذكورة ،هيئات أخرى للضبط والحكامة الجيدة (الفصل 159)،كما أن هذه المؤسسات والهيئات ملزمة بتقديم تقرير عن أعمالها ،مرة واحدة في السنة على الأقل ،يكون موضوع مناقشة من طرف البرلمان (الفصل 160). القوانين الصادرة لحد الآن حول بعض هذه المؤسسات (مجلس المنافسة /المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي )، وإجتهادات المجلس الدستوري ،كما النظامين الداخليين بمجلسي البرلمان ، من شأنها أن تمكن الباحث من تسليط الكثير من الأضواء على طبيعة هذه المؤسسات وعلى المقصود باستقلاليتها ،وعلى علاقتها بالبرلمان والحكومة. بعد هذه التوطئة ،ما يهمنا في هذا المقال هو الوقوف على بعض الملاحظات حول دسترة "الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها ": 1- الملاحظة الأولى تتعلق بالخانة التي أقحمت فيها هذه الهيأة ،كجزءٍ من هيئات الحكامة الجيدة والتقنين ؛فإذاكان من المفهوم ان يتم إدراج الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري ،ومجلس المنافسة ضمن هذا الإطار ،باعتبار المؤسسة الأولى هيأة ضبطية وتقنينية ،بحكم وظيفتها داخل المجال السمعي البصري ،وباعتبار المؤسسة الثانية هيأة ضبطية وتقنينية بامتياز داخل مجال السوق .فانه في المقابل لاتتوفر "الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها"أي شروط تسمح بتوصيفها كمؤسسة للتقنين. وهذا ما يجعل المؤسسات المندرجة داخل هذه الخانة غير متجانسة وظيفياً ،على عكس تلك المندرجة سواء في خانة هيئات النهوض بالتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية ، أو خانة هيئات حماية حقوق الإنسان والنهوض بها. 2-الملاحظة الثانية تتعلق بغياب الإنسحام القانوني والمنطقي بين الفصلين 36 و 167 من الدستور . لقد حرص الدستور على الربط بين بعض فصوله الواردة في الباب الثاني المتعلق بالحقوق والحريات الأساسية ،وبين فصوله الواردة في الباب الحادي عشر المتعلق بالحكامة الجيدة ،وهكذا مثلاً نص الفصل 19 ،المتعلق بالمساواة بين الرجل والمرأة ،في فقرته الأخيرة على إحداث هيأة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز ،وهو ما يستعيده الفصل 164،من الدستور عندما ينص على صلاحيات هذه الهيأة . كما نص الفصل 28 ،المتعلق بحرية الصحافة والحق في التعبير وقواعد تنظيم وسائل الإعلام العمومية ،وضمان الاستفادة منها مع احترام التعددية اللغوية والثقافية والسياسية ،في فقرته الأخيرة على سهر الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري على احترام هذه التعددية ، وفق أحكام الفصل 165 من الدستور . نفس الأمر ، مثلاً ،فيما يتعلق بالفصل 32،المتعلق بالأسرة والذي نص على احداث مجلس استشاري للأسرة والطفولة ،وهو ما يستعيده الفصل الخاص بهذا المجلس داخل الدستور (الفصل 169).وبالفصل 33 ،المتعلق بالشباب والذي نص على احداث مجلس استشاري للشباب والعمل الجمعوي ،وهو ما يستعيده الفصل 170 الذي ينظم هذا المجلس. على العكس من ذلك ،فان الفصل 36 ،الذي ينص على احداث هيأة وطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها ،لا يبدو منسجماً في كامل فقراته مع صلاحيات هذه المؤسسة كما ستحدد في الفصل 167. إذ يتضمن الفصل 36 ،فقرة أولى حول معاقبة القانون على المخالفات المتعلقة بحالات تنازع المصالح ،وعلى استغلال التسريبات المخلة بالتنافس النزيه ،وكل مخالفة ذات طابع مالي .وفقرة ثانية حول معاقبة القانون على الشطط في استغلال مواقع النفوذ والامتياز ،ووضعيات الاحتكار والهيمنة ،وباقي الممارسات المخالفة لمبادئ المنافسة الحرة والمشروعة في العلاقات الاقتصادية . من الواضح إذن أن الفقرة الثانية لا علاقة لها بشكل مباشر مع صلاحيات الهيأة الوطنية للنزاهة ،بقدر ما لها من علاقة بمجلس المنافسة الذي ينص الفصل 166،من الدستور على صلاحياته في ضبط وضعية المنافسة ومراقبة الممارسات التجارية غير المشروعة . كما أن الفقرة الأولى من جهتها ،تبدو أقرب الى صلاحيات القضاء أو المجلس الاعلى للحسابات عندما تنص على المخالفات ذات الطابع المالي ،أو الى صلاحيات القضاء أو مجلس المنافسة عندما تتحدث عن إستغلال التسريبات المخلة بالتنافس النزيه. لنلاحظ أن الدستور ،في ما يتعلق بالعلاقة المثيرة للالتباس بين مؤسسات الحكامة ذات المواضيع المتقاربة ،كان حريصاً على إثارة مسألة الولاية العامة ،اذ ان الفصل 164 ،عندما نص على احداث الهيأة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز ،ذكر بضرورة مراعاة الاختصاصات المسندة للمجلس الوطني لحقوق الانسان . وهو ما تغافله المشرع الدستوري ،في حالة العلاقة بين هيأة النزاهة والوقاية من الرشوة ،وبين مجلس المنافسة . 3-الملاحظة الثالثة ؛ سواءٌ من حيث التسمية أو من حيث المهام ،فان الدستور خاصة من خلال الفصل 167،يكون قد تبنى خيار المؤسسة الوطنية التي تتجاوز صلاحياتها حدود المهام الوقائية ،وهو ما يجعل المشرع الدستوري قد أقر قطيعة وظيفية مع تجربة "الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة "المحدثة بمقتضى مرسوم 13مارس 2007،في سياق التفاعل مع اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد التي صادق عليها المغرب في نفس السنة . الجمع بين وظيفتي الوقاية والمحاربة ، يدعو إلى استحضار التجارب الآسيوية ،حيث أن الممارسة السائدة في الفضاء الأوربي تعتمد أساساً مؤسسات وطنية للوقاية من الفساد ،على أن تتكفل السلط القضائية والأجهزة الأمنية بمحاربته . في هذا السياق فإن الدستور التونسي الجديد -على سبيل المثال -يذهب في نفس الاتجاه ،حيث ينص فصله 130 ،على إحداث "هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد "،التي تسهم في سياسات الحوكمة الرشيدة ومنع الفساد ومكافحته ،ومتابعة تنفيذها،ونشر ثقافتها ،كما تتولى رصد حالات الفساد في القطاعين العام والخاص ،والتقصي فيها،والتحقق منها ،وإحالتها على الجهات المعنية . وإذا كان الجمع بين الوقاية والمُحاربة ،يعد تقدماً في التوصيف الوظيفي لمؤسسات النزاهة ،فإنه في المُقابل يطرح إشكاليات عميقة على مستوى تحديد التمفصلات الدقيقة بين أدوار هذه المؤسسات وبين مهام القضاء . 4-الملاحظة الرّابعة ،تتعلق من جهة باللّبس الذي يخلقه الفصل 36 ،من الدستور الذي يربط بين إحداث الهيئة الوطنية للنزاهة ،وبين : - حالات تنازع المصالح ،واستغلال التسريبات المخلة بالتنافس النزيه. - إشكال الانحراف المرتبطة بنشاط الإدارات والهيئات العمومية . - الشطط في إستغلال مواقع النفوذ والامتياز ،ووضعيات الاحتكار والهيمنة ،وباقي الممارسات المخالفة لمبادئ المنافسة الحرة . ومن جهة أخرى بالتّضخم "اللّغوي" في تعداد مهام الهيئة ،كما يوردها الفصل 167،والذي يجعلها تتولى : - "مهام المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد" . - "تلقي ونشر المعلومات في هذا المجال." - "المساهمة في تخليق الحياة العامة ،وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة ،وثقافة المرفق العام ،وقيم المواطنة المسؤولة ". وهنا فإذا كان من المُبرر الجمع بين "المبادرة "و"التنسيق"و"التتبع " فيما يتعلق بالسياسات ذات الصلة بمحاربة الفساد،فإن إضافة مهمة [الإشراف](superviser)،يطرح كثيراً من الأسئلة حول حدود مهام الهيئة ،سواءٌ في علاقة بصلاحيات كلٍ من السلطة التنفيذية ،أو بإختصاصات السلطة القضائية . فعندما نعود إلى معجم "اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد "، أو إلى الدليل التشريعي لتنفيذ هذه الاتفاقية (طبعة 2012)،سنجد أنه ضمن صلاحيات المؤسسات الوطنية للنزاهة -التي تلتزم الدول الأطراف في الاتفاقية بالتوفر عليها - لايتم الحديث عن مهمة [الإشراف]، إلا ارتباطا بالمهام الوقائية فقط . ثانيا: ملاحظات قانونية وبغض النظر عن الإطار الدستوري المشار إليه أعلاه، فإن هذه المؤسسة تجد نفسها في تقاطع بين وظيفتها غير الواضحة المعالم و تماهيها مع الدور المختص للقضاء في محاربة الفساد، بحيث ما يجعل هذه الإشكالية ذات تعقيد خاص هي أن هذه المؤسسة تدخل في إطار ما يسمى (بالمؤسسات الإدارية المستقلة)، لذلك سنلاحظ أنها كلفت بعدة مهام تدخل في اختصاصات النيابة العامة دون تمكينها من الوسائل المادية لذلك، بحيث نجدها مثلا تتلقى حتى الشكايات والتبليغات والمعلومات (الفقرة الثالثة من المادة الثالثة). والغريب أنه منح لها حتى إمكانية التأكد من حقيقة الأفعال والوقائع في مجال الرشوة والفساد، علما أن هذا الفعل هو من صميم الممارسة القضائية، لكون البحث في حقيقة ومدى صحة التصرفات بغض النظر على أنه سلوك اجتماعي فهو يبقى من كنه العمل القضائي. أكثر من هذا فقد منحت الفقرة الرابعة من المادة الثالثة لهذه الهيئة الحق في القيام بعمليات البحث والتحري في حالات الفساد، فكيف ستقوم بهذا البحث؟ وما هي الوسائل التي تملكها للقيام بهذا التحري؟ ثم ألا يكون هذا مخالفا لمبدأ استقلالية السلط باعتبار أن السلطة القضائية هي صاحبة الاختصاص؟. هذه الأسئلة تحيلنا مباشرة على مقتضيات الفصل 239 من القانون الجنائي الذي يمنع على أي مسؤول أو حاكم إداري الفصل في مسألة من اختصاص المحاكم، علما أن النيابة العامة جزء لا يتجزأ من هذه المؤسسات، وبالتالي يدخل الهيئة يكمن فقط فيما نص عليه الفصل الأخير من المادة الثالثة، أي إعداد برامج الوقاية ونشر قواعد الحكامة وبرامج التوعية وإبداء الرأي. إن أي مؤسسة خارجة عن السلطات الثلاث "التنفيذية، التشريعية، القضائية" تملك نوعا من الاستقلالية لا يعطيها الحق مطلقا في أن تقوم بمهام مؤسسة دستورية مستقلة كالسلطة القضائية. لقد جاءت المادة الخامسة من اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد لتنص على حدود مجال هذه الهيئات في وضع و تنفيذ أو ترسيخ سياسة فعالة منسقة لمكافحة الفساد وتعزيز مشاركة المجتمع، وتجسيد مبادئ سيادة القانون وحسن إدارة الشؤون والممتلكات العمومية والنزاهة والشفافية والمساءلة. إن هذا الاختصاص القضائي يجعل هذه المؤسسة في تضارب صارخ مع مبدأ فصل السلط ومع الضمانات الممنوحة للمواطنين في إطار المسطرة الجنائية والقانون الجنائي، والتي لا تخضع لهما هذه المؤسسة خاصة على المستوى المسطري، أما على المستوى الموضوعي فمثلها مثل أي سلطة اعتبارية في مواجهة القانون. إن ما يزيد الأمر تعقيدا في هذا القانون هو أن المادة الرابعة من هذا المشروع قد حددت الجرائم التي تدخل في مضمون اختصاصها، علما أنها جرائم منصوص عليها في القانون الجنائي، أي خاضعة للنظر القضائي وللضمانات المسطرية، لكون جرائم الرشوة واستغلال النفوذ والغدر، هي تصرفات إجرامية حدد القانون طبيعتها ومنح للنيابة العامة فقط سلطة التكييف دون غيرها، وبالتالي فمنح هذه المؤسسة الحق في الاختصاص في هذه الجرائم يجعلها مؤسسة قضائية كأن لها سلطة التكييف، بينما الأفعال التي نتحدث عن محاربتها هنا هي أفعال متداخلة لا يمكن لهذه المؤسسة أن تكيف هذا الفعل أو ذاك، لأنها لا تملك لا السلطة ولا القدرة على ذلك. إن أزمة هذه المؤسسة تكمن في أنه لم يستطع المشرع إيجاد دور لها وكان بالأحرى أن يبحث لها عن دور عام يكمن في دراسة وتوعية وتنسيق السياسات في مجال محاربة الرشوة بشكلها العام، أما تصديها للجرائم وللأفعال فهي تفاصيل تدخل في المجال القضائي ولا تجد حلا مطلقا في مجال المؤسسات الإدارية المستقلة، ويتجلى ذلك بقوة مثلا في المادة 21 من مشروع هذا القانون التي أعطت للهيئة في حالة تبليغها بوجود رشوة حق تحرير محضر بذلك، وهو أمر مخالف صراحة للقانون، إذ ما هي القيمة القانونية لهذا المحضر ولهذه المعاينة؟ لكون حالة التلبس المستندة على المعاينات تدخل في الاختصاص الصارم والمحدود لمن له صفة الضابط القضائي؟ بل إن نفس المادة 21 جعلت جهاز النيابة العامة يخضع لمراقبة هذه المؤسسة حينما نصت على ضرورة إحاطة هذه الأخيرة من طرف النيابة العامة عن ما قامت به من إجراءات، في حين يعلم الجميع أن عمل النيابة العامة هو عمل سري إلى حين انتهاء إجراءات البحث، وأن التدابير على خلاف القرارات لها السرية القدسية، بينما القرارات فإنها تبلغ إلى الأطراف دون غيرهم احتراما لمبدأ قرينة البراءة. إننا نسجل في إخلالات كثيرة في مقتضيات هذا القانون، تكمن في وجود بون شاسع بين المهام والوسائل التي تتمتع بها، بين مبدأ احترام استقلالية السلط وتكليف الهيئة بمهام البحث والتحري والإحالة والتأكد من الوقائع، وهي من صميم العمل القضائي والذي لا يجوز مطلقا أن يقوم به أي طرف. إن الرغبة في محاربة الفساد لا تتحقق بخلق المؤسسات ومنحها مهام العمل القضائي، وأنه إذا كان القضاء عاجز عن محاربة الفساد فيجب إصلاحه وليس البحث عن وسائل بديلة خارجة عن الدستور، لكون الفساد الأعظم لا يكمن في الاختلاسات أو الجرائم المشار إليها في فصول هذا القانون فحسب، ولكن عند المساس بسمعة الناس والطعن في ذمتهم. فالعدالة لا يضرها في شيء أن يفلت أحد من العقاب ولكن ما يهدد العدالة و يسيء لها هو اتهام بريئ أو إدانة مظلوم ولو إعلاميا أمام الرأي العام. إن هذه المؤسسة في رأينا هدت كل الحدود الدستورية بين السلط وجعلت من نفسها سلطة فوق السلط، وكان عليها أن تكون مركزا منسقا وسلطة تقييمية لعمل الإدارة ولتعامل الرأي العام مع هذه الحالات التي كثير ما نسميها الفساد، ولكنها في آخر المطاف نجد أنفسنا أمام خيط دخان سرعان ما يتناثر في الهواء. إن محاربة الفساد لا تتم فقط بالردع ولكن بإيجاد سياسة فعالة و منسقة تقوم الهيئة ببلورة رؤيتها اتجاهها، و تمكن الإدارة الغارقة في التفاصيل اليومية من الحصول على تصور عام وشامل يسمح لها ببناء سياسة فعالة وإيجابية لمناهضة هذه الظاهرة.