لا مناص أن مواجهة الاستقطاب المتطرف في أوساط مسلمي فرنسا خلال الألفية الثالثة يحتاج بموازاة المقاربة الأمنية إلى التوسل بمقاربة دعوية فعالة، تروم خفض مستويات التعصب والتشدد، وتعزز استمرارية حالة النظام والأمن، وتضمن بناء الإنسان بما يستجيب لمتطلبات الجسد وأشواق الروح. غير أن الشباب المسلم بفرنسا يعيش صحوة دينية غير مؤطرة، وموضة التزام شكلي، تخضع لاستهلاك كل ما هو موجود في ساحات الدعوة الإسلامية دون تمحيص؛ فنتيجة للعفوية الدينية وقلة الزاد الفقهي، ونظرا لما يعانيه من اغتراب ديني وخواء روحي وحيرة نفسية وغياب مرجعية هوياتية يقبل هذا الشباب على الشعائر الإسلامية بشكل صارم، ويتلقف كل ما يقدم إليه من مفاهيم خاطئة ومعارف مغلوطة، ويتطبع نتيجة التزامه اليومي "الظاهر" بسلوكيات لا تتوافق مع طبيعته الإنسانية وخلواته الحميمية.. وقد تناولت في مقال سابق عنونته: كيف ينشأ التطرف الديني؟ ظاهرة التطرف والعوامل التي تنشئه، منها ما يتعلق بشخصية المتطرف، وأخرى موضوعية لها علاقة ببيئة تحفيز التطرف. ونروم في هذه الورقة مقاربة بيداغوجيا الإرشاد الديني في مواجهته لخطاب التطرف، والوقوف على مداخله التنويرية في المواكبة الدعوية الفعالة لفائدة مسلمي فرنسا. (1) من الملاحظ أن المنظومة الدينية المعتمدة في السياق الفرنسي تفتقر إلى تصور منهجي، يخطط سيرورات الإرشاد الديني وتمفصلاته العملياتية، تربط بين المواضيع وأهدافها من جهة، وبين مسارات تفعيل الخدمات الدعوية ومؤشرات المنتوج الديني من جهة أخرى؛ مما يجعل التدخل الدعوي/التربوي عاجزا عن طرح حلول عملية للتحديات الفكرية والسلوكية المستجدة في أوساط الشباب، وقاصرا عن إكساب هذه الفئة المناعة الدينية القائمة على الوسطية والاعتدال مع الانفتاح على أنوار العلم الحديث وحقائقه. نرى أنها لحد الآن منظومة لا تملك رؤية مستنيرة تجمع بين آليات الخطاب المسجدي ومهارات العمل الحركي، فضلا عن أنها تفتقر لرسالة واضحة المعالم تدفع الشبهات بمنطق وواقعية، حيث يتقوى في الجانب الآخر الخطاب المتطرف الذي يركز على الشباب المتعاطف مع قضايا الأمة الإسلامية، متوسلا بمخرجات الفوضى الخلاقة وليدة الربيع العربي والنصوص الدينية المؤطرة له. إن الاشتغال الإرشادي "المؤدى عنه" محصور فقط في ندوات ومحاضرات وملتقيات انتقائية ومنغلقة على نفسها، ونزر قليل من دروس المساجد وبعض الخطب المنبرية، وهي وسائل لا تمكن من المتابعة اليومية للشباب المتدين والغوص معهم في مخرجات السلوك الديني؛ لأن هناك آليات لا يتبناها الخطاب الوعظي الرسمي ولا يتقن التعامل معها، وبذلك فهو يتوقف في بداية الطريق، فتغيب عنه مؤشرات للتغذية الراجعة لتقييم الأداء الدعوي في الميدان. (2) من هنا كان ضروريا على القييمين الدينيين الموكل إليهم هذه المَهَمَّات أن يستفيدوا من معطيات العمل الحركي وأصوله الدعوية، ويستخدموا مناهج التدريب القيادي وطرائق التنمية البشرية ويستلهموا في برامجهم من نتائج البحوث العلمية في التتبع النفسي والاحتضان الاجتماعي. لذلك فإن أي مشروع دعوي- تكويني لا بد أن يجد له كفاءات للتثقيف بالنظير من خلال "مهمات تربوية وتعليمية لتصحيح المعارف والمواقف والسلوكيات"، وتقويم مسار الممارسات الدينية، ثم يختار من بين خبرات الفعل الدعوي من يقوم "بمهام توجيهية للتواصل والحوار وقبول الاختلاف والمساعدة النفسية والاجتماعية واستدماج مهارات العيش المشترك"، فضلا عن المصاحبة الموجهة من خلال نظام الدوائر الدعوية متعددة الأقطاب بالاستعانة بدينامية الجماعة ومقاييس السوسيوغرام. في هذا الصدد، فإنه لا معنى من تأطير ديني هدفه تقديم "إسلام مستنير" لمسلمي دولة أخرى كفرنسا مثلا دون مراعاة الحد الأدنى من مواصفات الاشتغال، ودون الأخذ بعين الاعتبار اختلاف السياق الدعوي هناك بما يحيط به من خصوصيات ثقافية وتاريخية وسياسية، مما يدفع إلى التساؤل عن جدوى دورات تكوينية لفائدة أئمة منفصلين عن لغة أهل ذلك البلد وثقافته وقوانينه، يغردون خارج السرب في خطبهم، أما مواعظهم فلا تتحدث إلا عن البدع والموت ووصف حور الجنة وزبانية النار لشباب فرنسي ولد وتربى في نعيم جنة الدنيا. فكيف سيتوسل هؤلاء "الأئمة الجدد" بقواعد الاستنباط التي سيتعلمونها لإصدار الفتوى وإبداء الرأي الشرعي في مستجدات المجتمع الفرنسي كزواج المثليين وأعياد الميلاد وتعدد الزوجات والقروض البنكية وصراعات الراهن العربي ومعاداة السامية..؟! أم هي التقية والتورية التي لن تنفع في مثل هذه الأمور؟ وما أكثر من سيجيب عنها سواء إفراطا أو تفريطا ! من أجل ذلك فمطلوب قبل أي وقت مضى من المقاربة الإرشادية التنويرية أن تنزل من أبراجها العالية، ولا ترتهن للمكتبية الفقهية والنخبوية الدينية، فلا عبرة اليوم بكثرة النقول بل بالفهم الميسر والتفهيم المتدرج والسهل الممتنع. وتحاول على فترة من الزمن استقراء متغيرات البيئة الاجتماعية المستهدفة وتفاعلات عناصرها من أجل تقديم استشارات فقهية صلبة وبعيدة عن الخشبية والغموض، وذات إثمار سلوكي خلوص وصائب، لا أن تتشكل نظرا للارتباك الفقهي المستمر مرجعيات للفتوى غير منضبطة للفهم المقاصدي للشريعة الإسلامية السمحة. إنها عملية جد معقدة تتطلب تكوينا دينيا خاصا لنوعية من الدعاة، لهم القدرة على مواجهة عولمة الأفكار المتشددة، ويملكون القابلية لاستيعاب أنماط التدين وأدوات التثقيف في أوساط الشباب، ولديهم من الاستعداد الصادق للفعل الدعوي الإيجابي في شبكات التواصل الاجتماعي الافتراضية والواقعية. -كاتب وباحث في الفكر الإسلامي