لا مراء في الطابع الإشكالي للعلاقة الراهنة بين المدرسة والمجتمع . وإذا كان من ضمن دلالات مفهوم الإشكالية،الإحالة على التداخل والتعدد ،فما هي المستويات والصور أو المظاهر المختلفة والمتداخلة الدالة على إشكالية العلاقة الراهنة بين المدرسة و المجتمع؟ سنحاول مقاربة هذا الموضوع من خلال إبراز بعض صور المفارقة ليس فقط على مستوى انتظارات المجتمع من المدرسة بل وأيضا وقبل ذلك على مستوى وظيفة المدرسة وميكانيزمات اشتغالها ووظائفها كمؤسسة اجتماعية وذلك على طريق استشراف سبل التغيير والتطوير في إطار التفكير المشترك والمتعدد المداخل المفتوح وطنيا لأجل هذا الغرض . مفارقات الوظيفة الأصلية للمدرسة مفارقة الانتقاء والتوحيد في الأصل ،وكما يعلمنا درس البيولوجيا في نظرية التطور،فإن عمل الانتقاء هو عمل الطبيعة . لكن يبدو أن الثقافة ، مادامت المدرسة مؤسسة ثقافية وليست طبيعية ،إن هي إلا طبيعة ثانية تشتغل مع وليس ضد الطبيعة . فالظاهر أن ثمة انتقاء مدرسيا ثقافيا على غرار الانتقاء الطبيعي وأن قانون البقاء للأصلح هو السائد سواء هنا أو هناك . إن أبرز صورة لوظيفة الانتقاء المدرسية هي ترتيب وتمييز الأفراد حسب المؤهلات والقدرات حيث لا يسمح بالمرور نحو الأعلى إلا لمن يحوز القدرات والمؤهلات الضرورية من خلال قراري النجاح والتكرار أو السقوط . لكن إلى جانب هذه الوظيفة التفريقية التمييزية ، تقوم المدرسة أيضا وفي نفس الآن بوظيفة أخرى مضادة هي الوظيفة التوحيدية وهي أيضا وظيفة أصلية . تشتغل هذه الوظيفة وتتجلى في عمل التنشئة الاجتماعية من أجل التربية على التشابه والوحدة رغم التمايز والاختلاف . 2.1 . مفارقة إعادة الإنتاج حسب بيير بورديو ورفاقه ، باعتبارهم أصحاب هذا التنظير،فإن الأطفال داخل المدرسة لا يوجدون في وضعية متكافئة ومتساوية إزاء المعيار اللغوي والثقافي المدرسيين . ذلك لأن للمدرسة معيارها اللغوي والثقافي وهو أقرب إلى المعيار الأصلي للفئات الاجتماعية العليا مما يجعل أطفال هذه الفئات يعيشون استمرارية بين لغتهم وثقافتهم من جهة ولغة وثقافة المدرسة من جهة أخرى . أما الأطفال المنحدرون من الفئات الاجتماعية الدنيا فهم بعيدون عن المعيار المدرسي في هذا المجال ومن ثمة فهم يعيشون نوعا من القطيعة بين لغتهم ولغة وثقافة المدرسة . يعني هذا أنه داخل المدرسة تتمفصل عمليتان متضادتان هما الاتصال والانفصال أو الاستمرارية والقطيعة في كل بداية على الأقل . لذلك فإن فرص النجاح والتفوق المدرسي ثم المهني والاجتماعي ليست واحدة ولا متساوية بالنسبة للجميع . يؤدي هذا الوضع بالنتيجة إذن إلى إعادة إنتاج التمكن والنفوذ والتنخب (من النخب) المهني والاقتصادي والاجتماعي . ذلك لأن الرأسمال الثقافي ،ممثلا في القدرات والمؤهلات والشهادات، الذي هو أساس التمكن والسيادة الاقتصادية والاجتماعية، ما دام الرأسمال المالي موجود بالوراثة والانتماء الطبقي ، غير متاح مدرسيا بالتساوي للجميع . . مفارقات العلاقة بين المدرسة والمجتمع . . المستوى الاقتصادي تتحدد الانتظارات الأساسية للمجتمع من المدرسة ومن نظام التعليم والتكوين عموما ، على هذا المستوى ، في إعداد وتأهيل الموارد البشرية اللازمة لمواجهة تحديات التنمية في عالم يتميز بالعولمة الشاملة . لكن يبدو أن المدرسة ، اليوم ، لا تستجيب لانتظارات المجتمع خلافا لما كان عليه الوضع في الماضي . ففي العقود الأولى بعد الاستقلال ، رغم النقص الحاصل آنذاك في العرض المدرسي والتربوي وفي الطلب على الشهادات والمؤهلات العليا ، بل وربما بسسب ذلك أيضا كان ثمة نوعا من التلاؤم والتناغم بين مخرجات المدرسة ونظام التعليم والتكوين عموما من جهة وانتظارات الدولة والمجتمع من جهة أخرى . أما اليوم فقد ازداد الطلب ليس على المدرسة فقط بل وعلى المؤهلات والشهادات المدرسية النوعية بصفة خاصة لأنها أصبحت أداة رئيسية للتمكين من المواقع المتنفذة اقتصاديا واجتماعيا ، مما أدى إلى اتساع وتوسع سوق التعليم والتكوين بنوعيه العمومي والخصوصي كنتيجة لازدياد الطلب الاجتماعي على المؤهلات والشهادات النوعية . ولعل هذا ما يفسر الإقبال المتزايد للأسر المغربية على الاستثمار ،كل حسب وأحيانا فوق طاقته وقدرته المالية في السوق التعليمية أملا في الظفر بالمؤهل النوعي المؤدي إلى الاندماج المهني . غير أننا بتنا أمام واقعين أو حقيقتين مختلفتين بل متضادتين في مخيال المجتمع وتقديره : واقع وحقيقة مدرسة وتعليم ما زال يبحث عن نفسه وذاته (التعليم العمومي). يشهد على ذلك ويدل عليه تتالي التدخلات والورشات من أجل الإصلاح بدءا بالميثاق الوطني للتربية والتكوين وصولا إلى المشروع التربوي الجديد المرتقب بعد اللقاءات التشاورية الأخيرة مرورا بالبرنامج الاستعجالي 2009 /2012 .و واقع وحقيقة مدرسة وتعليم يبحث عنه الجميع ويطلبه "بالريق الناشف " (التعليم الخصوصي) باعتباره التعليم القادر وحده حاليا على التأهيل للنجاح المدرسي والاندماج الاقتصادي والاجتماعي . . المستوى الاجتماعي تتجلى المفارقة على هذا المستوى في صورة إشكال الاندماج الاجتماعي الوثيق الصلة بإشكال آخر هو الاندماج الاقتصادي . فبما أن الاندماج المهني ،المتحقق بالحصول على شغل أو وظيفة ،هو أساس الاندماج الاجتماعي، فإن انتظارات المجتمع من المدرسة بهذا الخصوص واضحة ومحددة : مخرجات قادرة ومؤهلة للاندماج المهني من حيث هو أساس الاندماج والاستقرار الاجتماعي والنفسي . لكن مخرجات نظام التعليم والتكوين في واقع الحال الراهن غير متمكنة من الاندماج المهني والاجتماعي المرغوبين . يثير هذا الواقع بنظر البعض مسألة الدمقرطة في التعليم . ذلك لأن الدمقرطة إن كانت تفترض تحقق حق التمدرس للجميع فإنها تفترض أيضا تكافؤ الفرص في الاندماج الاقتصادي والاجتماعي . وذلك حتى يكون الولوج إلى المدرسة كما النجاح المدرسي والنجاح الاجتماعي متاحا بشكل متساوي للجميع . . المستوى القيمي . مفارقة القيم الرسمية و"القيم" الموازية بالوسط المدرسي تقوم المدرسة بالتربية على "سلة من القيم" الرسمية المعروفة ترتد إلى وثائق مرجعية كثيرة بما فيها الميثاق الوطني للتربية والتكوين والمناهج والبرامج والكتب المدرسية والمنهاج المندمج للتربية على المواطنة وحقوق الإنسان وغيرها من الوثائق التربوية التأسيسية . من القيم المدرسية نذكر على سبيل المثال لا الحصر : الحرية الديموقراطية الحق الواجب الكرامة المساواة العدالة التسامح الانفتاح الاحترام ... لكن المفارقة هي أن ما يلاحظ هو سيادة قيم أخرى موازية بالوسط المدرسي مثل : الغش في الامتحانات العنف بمختلف اشكاله وأنواعه وسلوكات غير مدنية أخرى . 2.3 . مفارقة القيم المدرسية وبعض "القيم" الاجتماعية إلى جانب المفارقة الأولى الداخلية بين نمطين من القيم داخل الوسط المدرسي ، ثمة مفارقة ثانية خارجية بين القيم المدرسية الرسمية ونوع من الثقافة القيمية الجديدة السائدة للأسف في المجتمع والقائمة على التماس السلطة والمال وكل الطرق الموصلة إليهما حتى ولو كان ذلك يتحقق بالدوس على حقوق الآخين وعلى قيم الحداثة والديموقراطية التي تربي عليها المدرسة . يبدو إذن أن مفارقة قيم المدرسة وقيم المجتمع مفارقة مزدوجة . فهي تبرز في صورة تضاد داخل الوسط المدرسي نفسه بين قيم مدرسية مرجعية رسمية وأخرى موازية براغماتية . كما تبرز في صورة تضاد خارجي بين تلك القيم المدرسية العليا والقيم الانتهازية السائدة في المجتمع والقائمة على التماس أساليب وصولية للارتقاء الاجتماعي السريع كالرشوة والمحسوبية والعلاقات الشخصية والقبلية وهي أساليب مضادة للقيم المجتمعية الأصيلة . . خلاصات لأن الموضوع إشكالي ،فإنه يقتضي مقاربة وحلولا متعددة المداخل منها ما يقع على مستوى التصور الاستراتيجي في ضوء أسئلة محددة : بيداغوجية ،تخص النموذج البيداغوجي الأكثر ملاءمة لإعداد المتعلم بالمؤهلات والمواصفات المرجوة ،وسوسيولوجية، تخص النموذج المجتمعي والقيمي المرغوب والمنشود ،دون إغفال سؤال الكونية الذي يخص علاقة الإنسان الذي نريد أن نكونه بالمشترك الكوني . هي إذن أسئلة متعالقة تخص كلا من الذات والمجتمع والعلاقة بالآخر . ومن المداخل والحلول والبدائل الممكنة أيضا ما يقع على المستوى المؤسساتي . ثمة من يقترح في هذا الإطار المدخل القانوني لجعل المدرسة ممرا ضروريا وإلزاميا نحو ممارسة أي نشاط وظيفي أو مهني وذلك ليس فقط من أجل إعادة الثقة والاعتبار للمتعلم والمدرسة على السواء بل وأيضا من أجل جعل المدرسة والقيم المدرسية المرجعية الرسمية وليس شيئا آخر هي طوق النجاة وقنطرة العبور نحو الحياة الكريمة .