(4) ذكرت في المقالات السابقة تحت نفس العنوان أن العقل السليم إذا خلا من الموانع لا بد أن يقود صاحبه إلى الإيمان بالله تعالى،ثم ذكرت بعضا من تلك الموانع التي تحجب العقل عن استيعاب الأدلة الدالة على وجود الخالق جل وعلا، والتي بثها الله في الكون بثا، أو أنزلها على رسله وحيا. ومن الموانع التي ذكرتها: "عدم الرغبة في الهداية"، ثم "الكبر".سأحاول في قادم المقالات أن أقف عند بعض الأدلة العقلية على وجود الله، ولن يعقلها طبعا إلا من خلا قلبه وعقله من موانع الهداية كما ذكرت. لن تكون الأدلة التي سأوردها أدلة بالغة التعقيد تحتاج إلى علم غزير أو تخصص معمق لمن أراد أن يستنطقها، كما هو حال الأدلة التي يسوقها المشتغلون بالإعجاز العلمي للقرآن الكريم مثلا. فمع احترامي لمجهودات ونيات من يشتغلون بذلك العلم، إلا أنني لا أرى أن الله تعالى سيربط مسألة الإيمان به بأدلة تحتاج إلى كل ذلك البحث والعلم ليصل الإنسان من خلالها إلى حقيقة وجود الله تعالى. مسألة الإيمان مسألة تهم عموم الناس وليست مسألة الخواص ولا العلماء منهم، فكل مكلف مأمور أن يؤمن بالله، وليس العلم الغزير شرط التكليف كما هو معلوم، وإنما يشترط مجرد العقل والبلوغ، فمن المفترض أن تكون الأدلة أيضا في متناول عموم الناس الذين توفرت فيهم شروط التكليف، وليس العلماء والمتخصصون منهم فحسب. طبعا العلم والبحث والتخصص قد يزيد المؤمنين إيمانا مع إيمانهم كما بين القرآن {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } فاطر(28). ثم إن مسألة الإيمان ليست مسألة عقلية فحسب، ففيها العقلي والعملي والروحي والفطري، والتوفيق الرباني كذلك. وليس بالضرورة كلما زاد العقل والعلم والأدلة زاد الإيمان، بل لا بد من مراعاة الجوانب الأخرى التي ذكرتها آنفا، يقول الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ)، الأعراف (175). يفهم من الآية الكريمة أن الزيغ قد يحصل حتى مع العلم وبعد تبين الآيات المنزلة على الرسل والآيات العقلية المبثوثة في الكون، وذلك مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها حافظا لقواعدها وأحكامها، قادرا على بيانها والجدل بها، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم، بل كان عمله مخالفا لعلمه تمام المخالفة، فسلبها الله منه! لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول. وإذا لم يزل العلم بأحرفه، زال نفعه وأثره والعياذ بالله. لن أسوق أدلة قرأتها من هنا أو سمعتها من هناك، سأذكر أدلة وقفت وأقف عليها بنفسي في كل لحظة، وكلما نظرت فيها جعلتني أخجل من نفسي أن أنكروجود الله، بل أخجل مكان أولئك الذين يقترفون هذا الجرم وأقول:"ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا". إنني مؤمن ولله الحمد باقتناع تام، ودليل اقتناعي أنني أطرح قضية إيماني وأدلتها على الملأ، لا أخاف أن يفندها نقاش المخالفين، أو تدحضها حجج الملحدين. بل أطرحها وأنا واثق أنها الحق الذي لن يثبت أمامه باطل المبطلين. إن الإيمان كما أعيشه، لا يمنعني أبدا من أن أسأل وأناقش وأستنطق الأشياء والأدلة التي أمر عليها أو تمر بي في كل حين. ومتى وجدت في نفسي حيرة، أوعدم فهم لأمرما فيما يخص مسألة الخلق أووجود الله تعالى، بحثت وسألت وفكرت، فأعود دائما مطمئن القلب مرتاح النفس أحمد الله وأشكره على ما هداني إليه من إيمان. ولا يزيدني ذلك البحث والتفكر إلا صدقا ويقينا. ومتى قلبت بصري في ملكوت الله، انقلب البصر مذعنا خاضعا لكمال وجمال ما رأى من صنع الله، {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}، (الملك:3،-4). فلا ضرر في أن يبجث المؤمن عن أدلة تزيده يقينا واطمئنانا، لأن اليقين درجات،علم يقين وحق يقين وعين يقين، قال الله تعالى في حق خليله إبراهيم:}وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَأَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْأَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍمِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَعَزِيزٌ حَكِيمٌ }، البقرة(260 ). فحاشى إبراهيم أن يكون قد شك في قدرة الله على إحياء الأموات، ولكن، إذا رأى ذلك رأي العين فربما يزداد يقينا مع يقينه. قبل أن أسوق الأدلة على وجود الله، أريد في هذا المقال أن أضع نفسي مكان أولئك الأشخاص الذي ينكرون وجود الله، سأحاول أن أتصور القضية كما يتصورونها، سأساير فكرهم وعقلهم لأرى هل أجد فعلا في إنكاروجود الله إجابات مقنعة على تلك الأسئلة التي سيطرحها علي عقلي وأنا أستعرض الأحداث وأمر بالآيات، مثلما يدعي القوم أنهم وجدوا في الإلحاد الإجابات الشافية عليها، والتي لم يجدوها في الإيمان! يرى المنكرون لوجود الله أن هذا الكون الفسيح بأرجائه، قد تكون من تلقاء نفسه،صدفة، أوعلى إثر انفجارعظيم، لكن هذا الانفجار العظيم أيضا، حدث من تلقاء نفسه، اختارت مواده أوغازاته(مسبباته)الزمان والمكان والقوة المناسبة لتنفجر! كيف اختارت الزمان والمكان ولم يكن حينها زمان ولا مكان؟ المهم أنها انفجرت،لكن أين كانت قبل أن تنفجر؟ وكيف تكونت من لا شيء؟ وكيف صارت قابلة للانفجار؟ وذلك الفراغ الذي انفجرت وانتشرت فيه تلك المواد بعد الإنفجار، من أوجده؟ نتيجة لهذا الانفجار "العرضي"، تكون الكون من لا شيء! تكون هذا البحر بأمواجه، وتكونت الأرض بسهولها وجبالها، وتكونت المخلوقات بأرواحها وأجسادها، والألوان بشتى أشكالها،ونشأ هذا التوازن العجيب في الكون، براري وبحار،سهول وجبال، حرارة وبرودة، ليل ونهار، صيف وشياء، ضوء وظلام،كل هذا وجد من غير موجد! توفرت فجأة كل عناصر الحياة، وتوفر معها كل ما يضمن بقاءها واستمرارها على البسيطة، ودون تخطيط مسبق! فتكونت غريزة حب البقاء لدى المخلوقات بنفسها! وهيأ لها ذلك الانفجار،أوتلك الصدفة،أوالطبيعة (حسب مدارس الإلحاد)،المهم، ذلك الشيء"الغير الله"! هيأ للمخلوقات، أو للموجودات، (لأننا إن سميناها مخلوقات فلا بد لها من خالق)،هيأ لها ما تحتاجه لضمان بقائها، فهيأ لها في أجسامها أجهزة تتنفس وتأكل وتشرب من خلالها، ثم أوجد هذا "الغير الله"في الكون الماء والهواء والنبات واللحم لتتغذى عليه الكائنات، كل كائن وغذاءه، بالشكل الذي يكفيه ويناسبه ويضمن بقاءه، دون أن يعرف عدد الكائنات ولا ما تحتاجه من أقوات! وأوجد هو(السيد علامة استفهام)، أو وجدت من تلقاء نفسها في الكائنات الرغبة في التناسل، لأنه فكرهو(؟)، أو هي ( الكائنات نفسها)، أنه بدون تناسل ستنقرض. وقبل التفكير في التناسل قسمت (؟) الكائنات إلى ذكر وأنثى، لتحصل عملية التوالد، ووجدت لدى الإناث أجهزة تناسلية غير التي لدى الذكور، ولدى الذكورأجهزة غير التي لدى الإناث، ولأن الكائنات تطورت، أصبحت تزود نفسها بنفسها بكل ما تحتاجه عاجلا ، وما ستحتاجه آجلا! فقبل عملية التناسل، كانت الإناث قد أعدت الأرحام لتستقبل ما ينتج عن عملية التزاوج! والذكورأعدوا البذورالتي يلقونها في الأرحام ليتكون منها الجنين! وتوفرتلك الأرحام للأجنة كل ما تحتاجه من غذاء لتنمو، وتحميها من كل ما قد يمنع أويعيق استمرارها على قيد الحياة، وتهيئها لحياة ما بعد الأرحام، وتلك الأرحام-حفاظا على حياة الجنين-لا تفتح أثناء الحمل إلا مرة واحدة، وفي وقت معين، بالضبط عندما يكتمل خلق الجنين بحيث يصبح قادرا على استكمال الحياة خارج الأرحام، ولا يخرج هذا الجنين إلا وقد زود بكل ما يحتاجه إذا خرج من ظلمات الأرحام، يخرج مزودا بكل الجوارح من أنف وفم ويدين ورجلين وعينين و... مع أنه ما كان يحتاج ذلك وهو في الرحم، وإنما سيحتاجه بعد الولادة،ربما أخبره ذلك (الغير الله) بأن حياة ما، ستعقب حياة الأرحام! أو ربما أم الجنين أو أبوه هما من صوراه وزوداه بكل ما سيحتاجه بعد الولادة! وربما قدم الجنين نفسه طلبا إلى أمه لتهيء له ثديها بعد الولادة، كي يتغذى لمدة على حليبها! فاستجابت الأم وصممت الثدي وأجرت العروق وهيأت للجنين حليبا صافيا يخرج من بين الفرث والدم! أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله. لقد أصبت بالضيق والحرج بمجرد أن سايرت هذا التصور للحظات، وجدتني أصطدم بفطرتي وأهزأ بعقلي وأكذب على نفسي، إن نسبت الخلق لغير الله. مجرد لحظات فعلت في ما فعلت، فليت عمري كيف يعيش من يحمل هذا التصور لسنوات؟ و كيف تطاوع الإنسان نفسه أن ينسب هذه الصبيانية للعقل والعلم؟ إن الله لا يستجدي الناس أن يؤمنوا به، ولكنه يعظهم ويذكرهم ويمهلهم لعلهم يذكرون، {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ}،الانفطار(6-7-8). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، (البقرة: 21-22). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}، فاطر (3). [email protected]