(على هامش اختتام أشغال المنتدى العالمي لحقوق الإنسان) تتأسس منظومة حقوق الإنسان في التشريع الإسلامي على قاعدة جوهرية؛ ألا وهي: مراعاة حق الخالق جل وعلا .. وهي قاعدة شرعية تكتسب منطقيتها وجوهريتها من حقيقة بدهية؛ وهي أن الخالق سبحانه هو صاحب المنة على الإنسان: إيجادا من عدم وإمدادا بالنعم: قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] وقال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] وما الحياة ولا الحرية ولا الكرامة ولا البيئة ولا الثروات ..، وغيرها من مناطات الحقوق الإنسانية؛ إلا منحا ربانية وهبها الخالق للإنسان من غير حول منه ولا قوة. وبناء عليه؛ فلا يصح منطقا أن تتجه البشرية في منحى بلورة منظومة حقوقية كونية تمجد حق الإنسان (المخلوق المنعَم عليه) وتسقط حق الله (الخالق المنِعم) .. وقد عمل رسل الله وأنبياؤه عليهم الصلاة والسلام طيلة تاريخ البشرية على إقامة توازن متكامل بين حقوق الله وحقوق عباده .. واجتمعت تلك المنظومة الحقوقية المتكاملة في خاتم الرسالات؛ الرسالة المحمدية التي أعلَتْ منارة حقوق الخالق: توحيدا وطاعة وإسلاما .. وضمنت من خلال تشريع محكم: حقوق الإنسان؛ حرية وكرامة وعدلا ومساواة وأمنا وعيشا كريما: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] وهذا التكريم الإلهي للإنسان؛ يشمل: الخَلْقَ والتشريع، وللضعفاء والفئات الهشة -كالنساء والأطفال-؛ منه نصيب وافر يستوجب رعاية حقوقهم بشكل أكثر عناية. وكل مفردات حقوق الإنسان المعتبرة؛ مكفولة في إطار هذا التشريع الرباني: الحق في الحياة والاحترام والتعبير والعدل والثروة والسلطة والتعليم والصحة والعمل والعيش الكريم والبيئة السليمة والتمييز الإيجابي (كالتمييز بمراعاة وضعية ذوي الإعاقة والضعفاء) .. إلخ. كل ذلك مكفول في إطار تشريعي وتربوي قائم على الأساس المتقدم: مراعاة حقوق الله تعالى وعدم تجاوزها .. وهذا الأساس هو الفرق الجوهري بين منظومة حقوق الإنسان في الإسلام، والمنظومة الحقوقية الغربية التي تجتهد القوى العلمانية في السعي لعولمتها وتعميمها على البشرية باسم: الكونية .. وتعتبر كل اعتراض أو تحفظ على شيء من تلك المنظومة؛ موقفا معاديا لحقوق الإنسان، رافضا لحريته، كما تعتبر المنظومة الحقوقية الإسلامية رجعية وظلامية! وهذا الموقف يمثل تمردا على الخالق ورفضا لحقه على عباده؛ ألا وهو عبادته وإسلام الوجه له سبحانه: توحيدا وامتثالا. كما يمثل خرقا للمبادئ الحقوقية التي يمجدها العلمانيون؛ والتي تكفل حرية الشعوب في تدبير شؤونها؛ لكن على مستوى العمل نلاحظ أن القوى السياسية العلمانية؛ تعمل على إقصاء التوجهات الإسلامية ومصادرة حق المسلمين في التحاكم إلى منظومتهم التشريعية، وحق الإسلاميين في اقتراح ووضع سياسات وبلورة قوانين تنبع من تلك المنظومة .. إن هذه المواقف الإقصائية؛ تؤكد أننا أمام حركة عولمة (راديكالية) تصادر حق الدول في تدبير شؤونها بحرية واستقلالية، ولسنا أمام نشاط عالمي مشترك قائم على التنوع ومراعاة الحق في الاختلاف. إنها حركة قائمة على أحادية الرأي ونمطية التفكير وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وهو عين ما ينكره العلمانيون على الإسلاميين! وفي هذا السياق؛ أسجل استنكاري للطريقة التي يتعامل بها كثير من العلمانيين العرب مع القناعات الإسلامية؛ باعتبارها آراء متخلفة تحتاج إلى مراجعة، وأن مبادئ المسلمين القائمة على اعتبار حق الله طاعة وامتثالا؛ ما هي إلا عادات قديمة ينبغي تجاوزها من خلال تطوير العقلية (العالم ثالثية) من أجل تأهيلها للدخول في المنظومة العالمية المتقدمة لحقوق الإنسان .. وأن الفكر التقدمي التنويري؛ يستلزم تطبيق المنظومة الحقوقية الغربية العلمانية في كل الدول بشكل مطلق وغير قابل للمراجعة والتمحيص والتحفظ. وقد كان هذا التوجه حاضرا بقوة في برنامج: "مباشرة معكم" الذي بثته القناة الثانية يوم الأربعاء الماضي من مراكش، بمناسبة انطلاق أشغال النسخة الثانية من المنتدى العالمي لحقوق الإنسان. إن استمرار النخب العلمانية في تهميش قناعات المسلمين وتجاهل حقهم في سياسة دنياهم بأحكام ومبادئ دينهم؛ سلوك استبدادي استعلائي يتناقض مع أبجديات ثقافة حقوق الإنسان؛ وسيؤدي في نهاية المطاف إلى الاصطدام المباشر مع الشعوب الإسلامية التي عبرت عن رفضها القاطع لاستمرار الهيمنة الإمبريالية .. وتفادي هذا الاصطدام هو ما يجعل كثيرا من الحقوقيين العلمانيين لا يجاهرون ولا يصرحون برفض ومصادرة ذلك الحق، وإن عرف ذلك التوجه الاستعلائي في لحن قولهم، وجلي مواقفهم التي تتسم بالتنكر الكامل لشيء اسمه: التشريع الإسلامي، ونظرة الإسلام لحقوق الإنسان .. هذا الواقع يدفعني إلى تقديم المقترحات التالية: 1 اجتهاد القوى الإسلامية في تطوير المشروع الحقوقي الإسلامي العالمي وتسويقه بآليات متقدمة ورؤية عالمية شمولية .. وقد تحققت في هذا الصدد إنجازات مهمة؛ تمخض عنها: "إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام"؛ وهو إعلان تم إجازته من قبل مجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في القاهرة، يوم 5 أغسطس 1990. 2 فتح حوار عالمي (إسلامي / علماني) لإبراز المشترك الإنساني المتفق عليه بين الجميع، والتوصل من خلال ذلك إلى وضع أرضية تعايش أممي قائم على السلم والاحترام المتبادل وحفظ حقوق جميع الشعوب على قدم المساواة. 3 تكاثف جهود الدول الإسلامية لوضع ميثاق يضمن حق شعوبها في المحافظة على قيمها ومبادئها؛ وعلى رأسها: ما يفرضه الإسلام من بناء المنظومة الحقوقية؛ على أساس التشريع الإسلامي، والوقوف صفا واحدا في وجه أخطبوط العولمة الذي يسعى لابتلاع الخصوصيات ومقومات الشخصية الحرة والمستقلة. وهذا المطلب يؤكد الحاجة إلى عمل مشترك توافقي بين المعتدلين من الإسلاميين والعلمانيين؛ من أجل تجاوز الواقع الحقوقي القائم على الرؤية الأحادية في موضوع حقوق الإنسان. والملاحظ؛ أنه في الوقت الذي أبان فيه الإسلاميون السياسيون عن قدر كبير من النضج والانفتاح على الحوار، والحرص على التعايش المجتمعي؛ نلاحظ أن القوى العلمانية تسلك مسالك: الاستبداد ومصادرة الحقوق الإنسانية والسياسية وبث الكراهية التي تصل في كثير من الأحيان إلى درجة تبني خيار العنف .. ولا أظن متابعا يناقش في أن ما يسمى اليوم بالثورات المضادة؛ إنما تباشرها قوى سياسية وإعلامية علمانية، وأن ما حصل ويحصل من انقلاب على الشرعية يتم تحت إشراف غربي متستر لا يكشف عن دوره في إيجاد تلك الانقلابات ودعمها وضمان نجاحها .. وما كان للسيسي ولا لحفتر ولا للحوثيين ..؛ أن يقوموا بما قاموا به من انقلاب على نتائج العملية الديمقراطية والحوار الوطني؛ لولا الدعم القوي من أمريكا والاتحاد الأوروبي والمتواطئين معهم من أبناء جلدتنا .. ولولا ما قدمته حركة النهضة التونسية من تنازلات في عملية صياغة الدستور، وفي حقها المشروع في الحكم؛ لولا تلك التنازلات لكان واقع تونس شبيها -إلى حد كبير-؛ بالواقع الليبي أو اليمني .. فمع كون الحق في الحكم وممارسة السياسة؛ حقا مكفولا في المنظومة الحقوقية الغربية (التي يحلو للبعض أن يسميها: منظومة كونية)؛ مع ذلك لا يسمح للإسلاميين بهذا الحق إلا في حدود ضيقة جداً .. ونحمد الله تعالى على الاستثناء المغربي، الذي لعبت فيه حكمة جلالة الملك دورا كبيرا؛ تمثل في احتواء ذلك التوجه العلماني الديكتاتوري المتطرف، وتصريف شحنته العدوانية المدمرة؛ عبر قنوات سياسية توافقية، هذبت عنفوانها وأضعفت قوتها التخريبية .. وإلا فقد أثبت الواقع؛ أن التوجهات العلمانية تكفر بكل مبادئ الحوار وقبول التنوع؛ حين يكون الرأي المخالف إسلاميا، وهو ما شاهدنا صورة مصغرة منه في المنتدى العالمي لحقوق الإنسان؛ حيث شهدت قاعة "فاطمة آيت تاجر" ورشة في موضوع الحريات الشخصية، وعرفت قضية حرية المعتقد وحرية المثلية الجنسية نقاشا حادا بين أعضاء من حركة التوحيد والإصلاح في مقدمتهم الأستاذ محمد الهلالي النائب الثاني لرئيس الحركة، ومنتمين للتوجه العلماني الذين كان حضورهم مكثفا؛ ولم يُخفِ العلمانيون ضجرهم من تدخلات ومواقف شباب الحركة إلى درجة أنهم صرخوا في وجه الهلالي وحاولوا منعه من الكلام! من المفارقات أن أحد الشباب غير المتدينين تولى الدفاع عن الإسلاميين وهاجم العلمانيين بقوة كاشفا ازدواجية المعايير عند النخبة التقدمية الديمقراطية، وأنها تمارس ما تتهم به النخب المحافظة من تبني سلوك الإقصاء وادعاء الحقيقة المطلقة .. كما هاجم إسلاميون مُسَيّرة الجلسة، وكشفوا تحيزها وغياب الحيادية التي تفترض فيها بصفتها مسيرة؛ مما أجبرها على الإقرار والاعتذار