عندما أقدمت في مطلع ثمانينيات القرن الماضي على إنجاز بحث جامعي في موضوع الزوايا .. كان ذلك بدعة منكرة في بيئة ثقافية تهيمن عليها ايديولوجية معاداة كل ما يمث إلى الدين بصلة. أما اليوم وحتى بعد أن تم "التصالح" مع الهوية الحضارية للمجتمعات الإسلامية، نجد استمرارية المواقف المسبقة من التصوف والزوايا ومختلف الممارسات الشعبية تجاه الأضرحة والأولياء وغيرها من المقدسات، دون أدنى عناء في البحث والتقصي العلمي الموضوعي حول جذور وخلفيات هذه الموروثات مكتوبة كانت أم متوارثة أو منغرسة في المتخيل الاجتماعي والثقافي والديني. وفي عجالة، يمكن التمييز نظريا داخل هذا التراث بين عدة مستويات للمعالجة منها: المستوى الأول : - ما له ارتباط بمعتقدات الإنسان باعتباره كائنا اجتماعيا متدينا، لا يقبل الغموض ويبحث باستمرار عن تفسير وعلة لمختلف الظواهر والتحديات .. خاصة إذا تعلق الأمر بأسئلة وجودية ومصيرية مثل الأصل والمصير، وهو الموضوع الذي شغل الفكر الإنساني منذ قرون خلت. وحتى بعد الثورة العلمية والاكتساح التكنولوجي وعولمة مجتمعات الاستهلاك .. نجد الفكر الإنساني من جديد يبحث عن ملاذ آمن يقيه حرارة وبطش الماديات وما يرتبط بها من أنانية وجشع تدوس على كل القيم، عله ينعم بواحة ترفرف عليها ألوية الأخلاق الإنسانية وتزرع في تربتها كل ما يمث إلى المثل العليا والإشراقات الروحية بصلة، حتى يعطي لوجوده المعنى الحقيقي الذي أراده الله منه في إطار مجتمعات تقوم على آصرة التعارف والتعاون والتعايش والتآزر والتوازن. المستوى الثاني : أهمية وغزارة التراث الصوفي المكتوب كمؤلفات تأصيلية وسير أعلام التصوف وتراجم الرجال .. كلها تبحث في النفس وأحوالها وكيفية تطهيرها من آثامها وفجورها ورسم معالم وسبل ترقيتها في مسالك الطهر والتقوى والايمان والعروج بها إلى مقامات البر والإحسان حتى تتطابق صورة الإنسان المومن الحق ظاهرا وباطنا، عقيدة وأخلاقا وسلوكا، مستحضرين في كل هذا النموذج المحمدي المتكامل الأركان الذي كان عنوانا للخلق العظيم أرسله الله رحمة للعالمين. المستوى الثالث : ما له علاقة بالتدين الشعبي وما يرتبط به من معتقدات وممارسات وتمثلات وتصورات في كثير من جوانبها تخدش في عقيدة التوحيد وتقترب من آفة التشريك عن غير وعي من أصحابها ودون إدراك وبدون قصد مباشر .. ولا شك أن هذا عذرهم الأكبر، لأننا هنا أمام حالات توفر أو عدم توفر الإمكانيات الفكرية والمعرفية والإدراكية لتجاوز ما هو مادي ومجسد (الأضرحة والأولياء) إلى ما هو مجرد لا تدركه العين والحس والحدس (عالم الغيب) وهذا هو الإشكال الذي واجه الأنبياء والرسل وهم يدعون إلى عقيدة التوحيد مؤيدين بخوارق المعجزات المادية والمشاهدة لتقريب المسافة بين الخالق والمخلوق والعابد والمعبود. من هنا كان التنصيص على المستويات الثلاث في الدين الواحد : الإسلام، الإيمان ، الإحسان، حتى تكتمل الصورة التعبدية والحقيقة الإيمانية لأصفياء الله من عباده المتقين. المستوى الرابع : أما إذا عرضت هذه الممارسات التعبدية ذات المنحى الشعبي على مناهج ومدارس البحث في العلوم الإنسانية، فإنها تعتبر بحق منجما زاخرا بالمعطيات والإيفادات المتنوعة تاريخيا واجتماعيا ونفسيا وأدبيا وجماليا ومعماريا وأنثروبولوجيا .. وهذا ما يفسر تهافت الباحثين الأجانب على الدول والشعوب الغنية بهذه الموروثات لدراستها وفهم أبعادها وتأثيراتها على الواقع الثقافي والنفسي والسياسي والاجتماعي لها باعتبارها مجتمعات هجينة تجمع بين القديم والحديث (الأصيل والمعاصر). من كل ما سبق نفهم حدة تشابك خيوط التشويش على موضوع الزوايا والتصوف باعتبارهما الوريث الشرعي للعديد من هذه المخلفات والموروثات الأكثر التصاقا بالدين والثقافات والمجتمعات في حوارها اليومي مع الواقع المعاش ثم إنضاف إليها الحضور المادي والفعل التاريخي في المجتمع ثقافيا وعلميا واقتصاديا وسياسيا، حتى أصبحت الزاوية كمؤسسة متعددة الوظائف .. تعتبر حاضنة للعديد من التنظيمات الاجتماعية والتصورات الثقافية وكذلك في مواقف أخرى، حاضنة لمشاريع سياسية لإنشاء الدول وحكم الأسر سواء تحقق ذلك فعليا (الدولة المرابطية، الموحدية، السعدية) أو توقف في منتصف الطريق (الحركة الدلاءية، حركة أبي محلي...). بناءا على ما تقدم تصبح على الباحث مسؤولية علمية جسيمة ولكن أيضا مسؤولية تربوية وتنويرية متعددة الأبعاد، لعل "أدناها" التنبه على خطورة التعميم والأحكام المسبقة والمقولات الجاهزة التي تعفي صاحبها من مشقة البحث والدراسة وبعضها يصدر تحت ضغط التعصب الإيديولوجي الذي يولد الانغلاق والتطرف وانسداد آفاق الحوار. وأعتقد أن ما أقدمت عليه في كتاب الزاوية الشرقاوية وفي دراسات أخرى تتجاوز البحث المونوغرافي إلى أبحاث أكثر شمولية (الإحياء الصوفي في مغرب القرن 19) يسير في هذا المنحى التنويري والتربوي، حتى لا يكون تنكرنا لهذا التراث أو اعتزازنا به أو على الأقل تفهمنا لحيثياته ومحدداته ينطلق من قاعدة علمية وأخلاقية صلبة قوامها، التفقه والعلم والمعرفة لأن من جهل شيئا عاداه وحتى يكون حكمنا على الشيء فرع من تصوره تفعيلا لفضيلة التحاور وتبادل الرأي وفق خطاطة أركانها : النظرية ونقيضها ثم حصيلة التركيب. [email protected]