بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب    صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط        خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال        مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أجل تجديد عمل الزوايا: رؤية استشرافية
نشر في هسبريس يوم 22 - 01 - 2014

إن أي حديث عن "عمل الزوايا" هو بالضرورة اقتراب من مهام "الإصلاح والعمل التربوي للزوايا"، ومعلوم أن اختيار هذا الحديث، هنا والآن، أملته جملة من المعطيات المحلية والإقليمية والتي تطرح بإلحاح على أهل النسبة الإحسانية معاودة تأمل واقعهم والنظر في خطابهم وموقعه ضمن التفاعلات الراهنة المختلفة، وخصوصا أمام ما صار يتهدد خصائص التدين المغربي من تلبيسات وتخليطات وتحريفات تقتضي من أرباب الشأن الصوفي التداول بعمق في كيفية المحافظة على الرسالة التربوية للزوايا بوصفها مؤسسات صلاح وإصلاح، وفي طبيعة وحضورهذه المؤسسات في الفضاء المجتمعي الحديث لتجديد دورها الروحي ووظائفها التربوية الأصيلة.
ضمن هذا الأفق تأتي هذه الورقة البحثية، والتي تتمحور أساسا حول مقاربة راهن التصوف ومؤسسات الصلاح في المغرب، ومعوقات تجديد وظائف هذه المؤسسات في محيطنا الاجتماعي والثقافي، وسبل تجاوزها. إنها ورقة تغامر بالقراءة؛ قراءة كاشفة وصريحة للواقع من أجل تجديد العمل.
سنتوسل بداية بإضاءة تعريفية للزاوية والإشارة إلى بعض وظائفها، قبل محاولة رصد ما يعترض تجديد العمل التربوي للزوايا من آفات، واستشراف آفاق تجاوزها.
1- إضاءة وجيزة حول الزاوية ووظائفها
الزاوية لغةً هي الجهة والركن، فيما تشير اصطلاحا إلى موضع معد للعبادة والإيواء وإطعام الواردين والقاصدين، وتعرف بأنها «مدرسة دينية ودار مجانية للضيافة تشبه كثيرا الدير في القرون الوسطى». وقد ظهرت الزوايا في المغرب بعد القرن الخامس الهجري، وكانت تسمى في البداية ب"دار الكرامة" كالتي بناها يعقوب المنصور الموحدي في مراكش. ومن أقدم الزوايا في المغرب التي نُعتت بهذا الاسم زوايا الشيخ أبي محمد صالح دفين آسفي (ت.631ه/1234م)، والتي تعددت وتكاثرت وانتشرت على طول الطريق بين المغرب ومصر لإيواء أصحاب الشيخ أبي صالح عند سفرهم للحج، وتشجيعهم على زيارة بيت الله الحرام.
والزوايا، بهذه النعوت، أشبه ما تكون بالخوانق أو الخانقات في المشرق، بل إن بعض الباحثين يذهب إلى أن عناية ملوك المغرب بإنشاء الزوايا (مثل ما أطلق عليه "دار الضيوف" والتي بناها المرينيون، أو "الزاوية العظمى" التي أسسها أبو عنان المريني خارج فاس)؛ إنما هو تقليد من ملوك الغرب الإسلامي للمشارقة وسير على منوالهم؛ لكن الناظر في تاريخ الزوايا وفي أدوارها المتنوعة يدرك مدى تجاوب هذه المؤسسات مع خصوصية جغرافية وتاريخ ومسار ومعالم الحضارة المميزة للغرب الإسلامي.
وعموما فإن الزاوية –التي كثيرا ما يتداخل مدلول اصطلاحها ومضمونه مع اصطلاح "الرباط" لتقاطع وتداخل أدوارهما الجهادية والتعبدية والإيوائية- قد عرفت انتعاشا وتطورا كبيرين في المدلول والوظائف منذ القرن العاشر الهجري، خصوصا وأن هذا القرن قد شهد امتداد أطماع النصارى إلى الثغور المغربية بعد تغلبهم على المسلمين بالأندلس، وإزاء قصور وعجز الدولة الوطاسية عن الدفاع عن حمى المسلمين في المغرب، ستنهض الزوايا للاطلاع بهذا الدور، وبذلك ستعرف تحولا وظيفيا في مسارها لتصبح رقما رئيسا في المعادلة السياسية بالبلاد، تتدخل في الشؤون السياسية وتدعو إلى الجهاد ومقاومة المحتل الأجنبي.
على أن الزاوية، وإلى جانب أدوارها التعبدية والاجتماعية والإطعامية والجهادية، ثمة ميسم رئيس أصبح محددا لهويتها ومنذ القرنين السادس والسابع الهجريين، وهو الطبيعة الصوفية لشقها التعبدي والذي يقوم على تبني طريقة صوفية، أي منهاج روحي صوفي معين تُردد أذكاره وأوراده وتمارس طقوسه في حمى الزاوية، وينظمه نظام معين يؤطر العلاقة الروحية والتنظيمية بين شيخ الطريقة ومريديها، ثم بين الزاوية المركزية وفروعها. وهذا ما جعل البعد الروحي المنظم والمدعوم بالتربية الصوفية والتكوين العلمي، يشكل البعد الثابت ضمن الوظائف المختلفة الاجتماعية والسياسية والجهادية التي كانت تنشط أو تضمر في المسار التاريخي لكل زاوية تبعا لطبيعة طريقتها وحسب سياقها التاريخي المخصوص.
من هنا نرى أن الزاوية هي أساسا مؤسسة دينية روحية تنتظمها طريقة صوفية معينة ونظام معين يربط الشيخ بالمريد والمركز بالفروع، وتضطلع بأدوار تربوية وتعليمية وإصلاحية واجتماعية وجهادية، تحضر جميعها أو بعضها، وتتفاوت في درجة هذا الحضور بحسب طبيعة كل زاوية وتبعا لشروط السياق التاريخي الذي يحكمها، على أن الثابت في هويتها الوظيفية هو المستوى التربوي الروحي. وهنا يلزمنا التذكير بتمييز إجرائي غالبا ما يسقط سهوا فيغمر غيابُه النعوتَ بظلالٍ من الغموض والارتباك، أعني الممايزة بين "الطريقة" من حيث هي منهاج صوفي للتربية والتأهيل الروحيين، وبين "الزاوية" من حيث هي فضاء جغرافي ومركز مؤسساتي يمثل السند المادي والأجرأة التأطيرية والتنظيمية للطريقة. فالطريقة تُسند وتنسب لمؤسسها وقائدها الروحي، فيما الزاويةُ تنسب إما لمؤسس الطريقة أو لمشيد أركان تلك الزاوية بوصفها فرعا لمركز تلك الطريقة أي الزاوية الأم. ونسبةُ الزاوية إلى مشيدها إنما جُعلت للتمييز بين فروع الطريقة الواحدة والتفريق بينها في حالة تعددها وتكاثرها.
وإجمالا، فقد ظلت الزوايا مؤسساتٍ تأطيريةً للمجتمع تدرِّس العلوم اللغوية والشرعية والعرفانية، وتؤوي العابر وابن السبيل، وتطعم الفقراء وتكفل المحتاجين، وتصلح ذات البين بين الأفراد والجماعات، وتعبئ للجهاد والذود عن الثغور، وتلقن مكارم الأخلاق، وتنشر قيم التضامن والتكافل والتلاحم والتسامح والتساكن في المجتمع، كما حافظت على ثوابت التدين المغربي على مستويات العقيدة والفقه والسلوك، وشكلت مناراتٍ علميةً وحضارية وجمالية بمكتباتها وخزائنها، ومعمارها وقبابها، وأذكارها وسماعها، وبهاء حلقاتها ومحاسن مجالسها، فضلا عن إسهامها في تربية الأذواق وتهذيبها في مختلف المناحي.
غير أنه حصلت تحولاتٌ تاريخية أدت إلى تراجع أدوار الزوايا بعد أن افتقدت كثيرا من الوظائف التي كانت تضطلع بها في المجتمع التقليدي كمؤسسات تأطيرية للمجتمع؛ وظائف تعليمية وسياسية واجتماعية واقتصادية وقضائية وجهادية لم تعد من مجال عملها بفعل عملية التحديث التي طالت المجتمع؛ والتي كان من نتائجها توزيع قطاعات العمل هاته على مؤسسات الدولة الحديثة ( التعليم، القضاء، الاقتصاد، الدفاع...)، واستئثار مؤسسات الأحزاب بالعمل السياسي ومؤسسات المجتمع المدني بالعمل الحقوقي والاجتماعي..إلخ. وهو ما يدعو الزوايا إلى إعادة الاعتبار أساسا لوظيفتها التربوية الروحية، والتي تشكل اليوم مدخلها الرئيس للإسهام في نشر القيم الإحسانية التي عمل أربابها على زرعها في النفوس، ومن خلالها الإسهام في التخفيف من غلوائية المادية التي تهيمن على الحياة الحديثة، هذا فضلا عن دور الزوايا اليوم في المحافظة على ثوابت التدين المغربي التي صانت المغرب من براثن الطائفية والتشرذم، وكذا محاصرة كل فهم حرفي متشدد للدين يحيد به عن قيم الوسطية و العتدال والمحبة والتسامح والتراحم، ويغتال كل الأبعاد الحضارية والجمالية والذوقية في حياتنا الدينية بدعوى "البدعة" و "الابتداع"؛ وذلك في فهم سقيم للنص الديني والواقع في آن، وفي تجن ظاهر وجهل سافر بقيمة علماء مغربنا الذين رسخوا الإسلام دينا ومعاشا وثقافة في هذه الأمة، وصدوا محاولات "وهبنة" المجتمع المغربي المسلم بفضل موسوعيتهم العلمية، ورحابة أفق فهمهم للنصوص الثابتة والواقع المتحرك، وجمعهم، في ألفة سعيدة، بين الشريعة والحقيقة، بين الفقه والتصوف، بين العلم والعمل، بين معرفة الأخلاق والتخلق بأخلاق المعرفة.
هكذا يبدو أن المرحلة التاريخية الراهنة، تضع على كاهل أرباب النسبة مسؤولية جسيمة لاستئناف العمل، وتجديد هذه الوظيفة التربوية والروحية والحضارية للزوايا، بما يضمن لها مواصلة نشر القيم التلحيمية لوحدة المجتمع المغربي المسلم، والإسهام الحضاري في محاصرة الفكر التكفيري والتطرف الديني الذي يمارس العنف والإقصاء باسم الحقيقة الإلهية من جهة، وكذا الإسهام من جهة أخرى في معالجة مخاطر النسبية المطلقة والمنزع العدمي وانقراض المعنى والفراغ الروحي والتيه الرمزي وغير ذلك من المخاطر التي تهدد بها الحداثة الهوجاء والعولمة غير المرشدة الإنسانَ المعاصر.
ربما كان على أهل هذا المشرب العملُ من أجل إطلاق حركة تنويرية إسلامية روحية تحمل على عاتقها تجديد فهم الدين بما يخدم حرية الإنسان وكرامته، ويطلق طاقاته الإبداعية ذات النفع العام في مختلف المجالات، وينشر قيم الروحانية الإسلامية الكونية في عالم هو أحوج ما يكون إليها لتجاوز مختلف الاختلالات الرمزية والأخلاقية التي تخترق زمننا المعاصر.
لكن، وكيما تستطيع الزوايا، بما هي مؤسسات صلاح وإصلاح، الإسهام في هذا الورش الكبير، والاضطلاع بهذه المسؤولية، لابد من الالتفات الصريح والمرشِّد إلى بعض الآفات التي اعترتها لاعتبارات تاريخية مختلفة، والتي برزت بشكل سافر لما أعادت جملة من التحولات المعرفية والإيديولوجية والحضارية الاعتبارَ للشأن الصوفي خلال العقد الأول من الألفية الثالثة.
2- الزوايا وسؤال الرهانات الجديدة
إن تلك التحولات التي شهدتها السياقات المعرفية والإيديولوجية والحضارية خلال العقد الأخير، والتي وقفنا عندها بتفصيل في مناسبات سابقة، قد بوأت التصوف منزلة جديدة صار له فيها اعتبار، وبتراثه ومؤسساته وأعلامه اعتناء؛ ذلك أنه أصبح يحضر بقوة ضمن ما صار يُعرف في المغرب بدءا من 2004 ب"إعادة هيكلة الحقل الديني"، وأضحى يُنص عليه بجلاء ضمن "الثوابت الدينية للمملكة"، كما اعتُبر عاملا رئيسا من عوامل صيانة "الأمن الروحي" للبلاد.
ها نحن إزاء معجم جديد يرسم الأفق الجديد الذي ينحو نحوه الشأن الديني في المغرب، خصوصا بعد امتداد "العنف الديني" و"التطرف" إلى المغرب عبر أحداث 16 ماي 2003، والتي وُصفت بكونها الوجه المحلي لأحداث الحادي عشر من سبتمبر. من هنا كان التنصيص ضمن "ثوابت الحقل الديني" على "التصوف السني" كمكون من مكونات الهوية الدينية المغربية لمحاصرة "التدين الدخيل"، والذي أصبح يتهدد المغرب والمغاربة. فإعادة التأكيد على رباعية "إمارة المومنين" و"العقيدة الأشعرية" و"المذهب المالكي" و"التصوف السني"، مثلت مشروعا لبعث المناعه الدينية ضد التيار السلفي الوهابي بأوجهه الدعوية والحركية و"الجهادية"؛ وهو التيار الذي كان قد بدأ يجد له في البلد مواطئ وامتدادات، سواء في صورته الفكرية والحركية أو في صيغته المتطرفة التي تمثلها "القاعدة" ومشتقاتها .
لن نعود هنا إلى كل الظروف المحلية والإقليمية والعالمية التي عملت على جعل امتداد هذا التيار أمرا واقعا في المغرب، والتي من بينها محليا التفريط في مؤسسات إنتاج وصيانة التدين المغربي سواء منها العلمية (القرويين مثلا) أو الروحية (الزوايا,,,) أو الاجتماعية (ثقافة التضامن مع الفقيه التقليدي ودعم موقعه الاجتماعي...)، أو الإعلامية (ضعف التأطير الديني إعلاميا...)، وكذا الزج بالتعليم الديني في أتون الصراع الإيديولوجي الذي كان يرفد التنافس السياسي الحاد بين ما عُرف بالتيار السياسي اليساري والسلطة الرسمية (إحداث شعبة الدراسات الإسلامية والتضييق على شعبة الفلسفة في الجامعات المغربية...)؛ هذا فضلا عن تواطئ نفعي من لدن بعض الجهات التي أفادت من الأموال الداعمة بسخاء للدعوة الوهابية؛ باعتبارها إديولوجية رسمية تمد بعض "الدول" القبلية بمشروعية سياسية ذات لون دعوي ديني. من هنا نفهم سر الهشاشة التي أصيبت بها مناعة "التدين المغربي" والتي حاولت "إعادة هيكلة الحقل الديني" تداركها.
إن الرؤية الرسمية لإعادة الهيكلة هاته، على اختلاف في تقييمها، قد عرفت -على مدى ما يقرب من عقد من الزمن- نجاحات لا تُنكر، غير أن رهانها على "التصوف السني"- مع ما في هذا الاصطلاح من تجاوز يقتضي جملة من التحفظات- للإسهام في بعث مناعة التدين المغربي ضد أنماط التطرف الوافد؛ هذا الرهان قد تهجن في سلوك العديدين الذين لم يعوا العمق الحضاري والكوني لحضور التصوف في الراهن، وتعاملوا معه تعاملا "سياسويا ظرفيا"، وفهموا اصطلاح "الأمن الروحي" فهما مغايرا لما أُريد منه في سياق إعادة هيكلة الحقل الديني، بل منحوه مدلولا ضيقا بدل إعطائه معنى اجتماعيا واسعا ودلالة حضارية وغائية وجودية تتجاوز الصراعات الظرفية والتناقضات السياسية العابرة. وقد دعم هذا وعضَّده، مع عميق الأسى والأسف، الواقعُ المتردي لأغلب الزوايا، والتي ترك عليها الإهمال والنسيان آثارهُما سواء على معمارها ورسومها أو مضمونها و وظائفها، حتى أضحى الكثير منها مجرد "أطلال" تدل على حضور تاريخي "دارس". وضع كهذا لم يكن إلا أن تنتسل منه آفات وهِنات، منها ما كان كامنا فبرز، ومنها ما أفرزه استدعاء الزوايا إلى حلبة التنافس الديني والصراع المجتمعي ضمن ملابسات تختلف جوهريا عن تلك التي شكلت مجد حضورها في محطات تاريخية سابقة، مما كشف من جهة عن ضرورة ترميم تلك "الرؤية الاستدعائية" من جهة، وكشف عن تردي واقع الطرقية المستدعاة من جهة ثانية، وعن تمنع التصوف، كمعرفة وذوق وأفق، عن أي قراءة سياسوية من ناحية ثالثة.
3- احترازات لابد منها
قبل الوقوف عند الآفات التي مست واقع "التصوف" و"الزوايا" في ظل الرؤية الاستدعائية المذكورة؛ سيكون علينا أن نسجل احترازات لابد منها:
أ- ثمة اختزال سائد للتصوف في الزوايا، في حين يعلم كل باحث حصيف في هذا الشأن، أن الطرقية (أي التصوف الطرقي الممثل بالزوايا) هي وجه من الأوجه التاريخية لأجرأة التصوف، وأنها ليست سوى مرحلة في تاريخ التصوف الإسلامي، مما يجعل من باب الإجحاف وسوء الاستيعاب اختزال التصوف، كمعرفة وذوق وأفق، في "الطرقية" على أهميتها وسمو أدوارها السالفة التي لا تنكر؛ والتي تحتاج إلى إحياء وتجديد كما أسلفنا؛
ب- إن الوقوف عند الآفات التي مست أساسا الممارسة الصوفية بالزوايا في ظل الرؤية الاستدعائية الرسمية، يستجيب لتقليد صوفي محض، ويتمثل في ممارسة الصوفية "للحسبة" على طريقتهم؛ أو ما نسميه اليوم ب"النقد الذاتي"، حيث كانوا دوما يحرصون على ترشيد مسارهم عبر التآليف الموجِّهة والناقدة لواقع الممارسة الصوفية، والمميزة لسليم التصوف من سقيمه. فقد ظهرت منذ القرون الأولى لتاريخ التصوف الإسلامي اصطلاحات مثل "الصوفي" و "المتصوف" و"المستصوف" دلالة على التمييز بين الصادق والمنافق من منتسبي الطريق، بل إن كثيرا من المصادر الصوفية لم توضع إلا بقصد الترشيد والتنخيل، وذلك عبر تخليص الممارسة الصوفية من "البدعة" و"التحريف" و"التخريف". ومن يُراجع كتب الأوائل مثل "الرسالة القشيرية" أو "لمع" الطوسي أو "قوت القلوب" لأبي طالب المكي، أو "كشف المحجوب" للهجويري، أو "إحياء" الغزالي، أو "عوارف المعارف" للسهروردي.. سيقف على عدالة ما نقول بيسر وسهولة؛ وسيكتشف أن القوم دأبوا على التمييز في طريقهم بين "المخلص" و"المدعي"؛ حتى إن واحدا من أعلام التصوف في الغرب الإسلامي خلال القرن السادس الهجري وهو أبو مدين الغوث، ضَمَّن ذلك رائيته الشهيرة في التربية الصوفية لما قال:
واعلم بأن طريق القوم دارسة وحال من يدعيها اليوم كما ترى
وقد بلغ هذا الترشيد أوجه مع "محتسب الصوفية" أحمد زروق الفاسي خلال القرن التاسع الهجري، خصوصا في كتابيه "عدة المريد الصادق" و"قواعد التصوف"، وهو ما استمروامتد في الأطوار اللاحقة مع الأكابر ولم يخفت إلا مع خمول شأن التصوف في العهود الأخيرة.
ج- إن محاولتنا للوقوف عند الآفات التي نجمت عن التعامل والاستثمار غير الرشيدين للموروث الصوفي، ليس إنكارا أو تنكرا لما للتصوف ومؤسساته وأعلامه من أدوار كبرى، روحية وعلمية وتربوية واجتماعية وإصلاحية وجهادية وسياسية، اضطلع بها في مراحل تاريخية حرجة من تاريخ المغرب، ومازال بإمكانه أن يضطلع بأخرى في راهنننا محليا وكونيا، وإنما نروم من الوقوف عند تلك الآفات إنجاز بمقاربة نقدية للممارسة الصوفية الراهنة وقياس مدى قدرة أهلها على الاضطلاع بقراءة ملائمة لشروط زمانهم وأسئلة عصرهم ورهانات أمتهم، ومن ثم التدخل السليم، شكلا ومضمونا، للإسهام في تجاوز العوائق الفكرية والانحرافات التكفيرية التي تعكر علاقة المسلمين اليوم بدينهم و محيطهم وإكراهات زمانهم. إنها بإيجاز محاولة تنحو نحو رفع مآزق الاستثمار المعطوب للموروث الروحي الإسلامي الباذخ، أكانت مآزق في القراءة أو الفهم أم مآزق في التنزيل والممارسة، وسواء أكانت مآزق تتصل بالقراءة أم تلك المتلبسة والملتبسة بالمقروء.
إنها احترازات منهجية ضرورية رأينا أن نصدر بها رَصدَنا لما يسري في الممارسة الصوفية بالمغرب الراهن من أعطاب؛ وما آلت إليه الزوايا في ظل الرؤية الاستدعائية الرسمية من آفات؛ سنتولى، بإيجاز تحليلها والتفصيل فيها واقتراح مابه نرشدها في ضوء قراءتنا للتحولات البنيوية الجارية محليا وإقليميا وعالميا.
4- واقع الزوايا: الآفات وآفاق تجاوزها
ها نحن نحاول، بقلب مفعم بمحبة الزاوية وأربابها، ومن باب البرور لثقافة الترشيد التي سلكها صلحاؤنا وشيوخنا؛ أن نقف عند الآفات التي تسربت إلى -أو تولدت مع- بروز العناية بالتصوف حديثا، وهي الآفات التي أصبحت تعوق طبيعة حضور التصوف كأفق ومعرفة وذوق؛ بل وأضحت تزيغ بهذا المنهاج التربوي والروحي الإسلامي عن مقاصده التي ما فتئ أربابه يؤكدون عليها قولا وعملا وحالا. وإجمالا يمكن رصد هذه الآفات في أربع نطلق عليها: الإفشائية، والطقوسية، والحظوظية، والتعصبية.
سأبدأ ب"الإفشائية": ما معنى الإفشائية؟ الإفشاء يعني هنا الصدع ب "السر" حيث يجب أن يُكتم، وهذا التوصيف مستعار من لغة الصوفية، وننظر فيه لقول الإمام الشبلي: "لاتفش سر الله بين المحجوبين" ، وكذا قول الشيخ محمد الحراق في رائيته الشهيرة:
وألقت فيه سرا ثم قالت أرى الإفشاء منك اليوم عارا
وقد كان الصوفية دائما يتحدثون عن ضرورة إخفاء السر عن غير أهله؛ فقد استعملوا فيما بينهم معجما خاصا وتواضعوا على مصطلحات وتداولوا إشارات ذوقية صاروا بها يُعرفون، وبها ينماز "علمهم" عن سائر العلوم، واشترطوا لإقامة مجالسهم الذكرية والتنسكية بطقوسها الروحانية المخصوصة شروط الزمان والمكان والإخوان، بل جعلوا سماع الحقائق (سماع كلام القوم الفائض بالإشارات ولغة الأذواق) بوجه خاص مما يُضن به على غير أهله، ومن ثم لا يمكن أن يستفيد من هذا السماع- بما هو إنشاد ترنيمي يقدح أحوال القوم ويعبر عن مواجيدهم- إلا من تأهل بالرياضة والمجاهدة وتحقيق النسبة وإخلاص الصحبة والمداومة على الأذكار والأوراد..إلخ، لماذا؟ لأن هذا السماع لا يُحدث في القلب شيئا وإنما يُحرك ما فيه، وقد قالوا: "لا يصلح هذا السماع إلا لمن كانت نفسه ميتة وقلبه حي"، ومن ثم فقد يفقد هذا السماع هويته الروحية إن استُعمل في غير نسقه و وفق غير شروطه، مما قد يجعل الوسيلة تزيغ عن الغاية، أعني الغاية التربوية الروحية التي يطلبها القوم من الموسيقى في نسقهم الصوفي.
الآن ما الذي حصل؟ أُخرج التصوفُ إجمالا وفنُّ السماع تعيينا من الزوايا إلى الفضاء العام للمجتمع؛ للإعلام والقنوات والملتقيات والمهرجانات ..إلخ، وهذا أمر استدعته الحاجة الراهنة إلى التصوف في وجهه الروحي والجمالي كما سلف، فكان من آثاره أن خرج الخطاب الصوفي إلى التداول العام دون كبير عناية بتأهيل المتلقي "العام" و"المعاصر" للتعامل مع هذا الخطاب وفق لغته وضمن نسقه، وكذا دون تأهيل هذا الخطاب ليتجدد بما يلائم انفتاح المجتمع المعاصر وتعدده وسرعة تداول وانتشار المعطيات والمعلومات والمعارف فيه بشكل غير مسبوق. كما كان من آثار تدهور الأدوار التقليدية للزوايا خروج فن السماع إلى الفضاء المفتوح للمجتمع ليعلن عن نفسه باعتباره "فنا" من الفنون الإسلامية التراثية، لكن هذا الخروج، وللسبب نفسه أي الضعف التأطيري الروحي للعديد من أبناء الزوايا، لم يكن مُحَصَّنا بالاحترازات اللازمة الكفيلة بالحفاظ على روحانية هذا الفن و"صون سره الذوقي عن غير أهله"؛ ذلك أننا حين نقلنا الجلسة السماعية من فضاء الزاوية المغلق، ومن النسق الصوفي الخاص، ومن روحانية المكان و تجانس الإخوان؛ حيث انتعاش سيميائية المقدس من خلال مختلف المؤثثات المستحثة لمواجيد خاصة، وهو الأفق الخاص الذي يضطلع فيه السماع بوظائفه المخصوصة بل منه يستمد هويته؛ حين نقلنا السماع إلى الفضاء العام المجتمع، أصبحنا إزاء وضعية جديدة يُفشى فيها" سر" القوم إلى "الجمهور"؛ بحيث يسمعون أشعارا قد لا يفقهون دلالتها، أشعارا عشقية تتغنى برموز غزلية مثل "ليلى" أو "ميا" أو "لبنى" دون أن يستطيع هذا المتلقي أن يفرق بينها باعتبارها غزليات روحية لها بعد إشاري روحي خاص يذاق ولا يعقل وبين الغزليات الحسية السائرة والمعروفة، ونفس الأمر مع نصوص الخمريات الصوفية؛ كما أصبح "الجمهور" من غير "الفقراء والمريدين" يرى طقوسا إنشادية وأحوالا وجدية لا يمتلك معرفة كافية بخلفياتها وأبعادها بله التأهل الوجدي والروحي لتذوقها؛ وهو ما يُنعش انتقادَها "السلفي" القديم باسم البدعة أو ذاك "التقدمي" اللاحق باسم الرجعية، ويتلقفهما الجمهور بالقبول والاعتقاد بحكم خفوت الصوت العلمي الصوفي المؤصل والشارح والمؤطر.
هذه هي آفة الإفشائية؛ أي إخراج وإفشاء الخطاب الصوفي المخصوص وكذا السماع بما هو مجلى من مجالي سر الصوفية خارج نطاقهم دون احترازات تثقيفية تأهيلية للمُتلقي لكي يتلقى ذاك الخطاب وما يتصل به من مرددات حلق الذكر وإشارات كلام القوم وأحوال الذاكرين وفق شروطها، وهذا ما أحدث خللا فادحا في تلقي الخطاب الصوفي بوجه عام و سماع كلام القوم تعيينا. الأمر الأول الذي نحتاجه، إذن، هو إعادة النظر في الخطاب الصوفي بما يحفظ له خصوصيته ضمن السياقات الجديدة التي أضحى يُطرح فيها، وذلك حتى يُفهم ضمن نسقه ووفق منظومته بعيدا عن كل الإسقاطات و أسباب سوء الفهم التي تطفو حين "يفشى السر الصوفي" بين غير المؤهلين لتلقيه، ذاك ما نحتاجه لنعالج آفة الإفشائية.
الآفة الثانية هي"الطقوسية"؛ وهذه الآفة تتعلق بكثير من المظاهر والرسوم والطقوس التي صارت تبرز في الأوساط العامة منفصلة عن نسقها ومرجعيتها، نجد هذا كثيرا في بعض الطرق الصوفية ذات الامتداد الشعبي الواسع والتي امتزجت -جراء الانفصال المذكور- تعاليمها الشرعية الأصلية بالعديد من العادات والأعراف والطقوس المحلية والتي تجد جذورَها في المتخيل الشعبي، وتختلط في نسيجها الخرافة بالمفهوم الصوفي المخصوص للكرامة. ثم إن هذه الآفة تتعلق بشكل أكبر بما يسمى عندنا اليوم ب"موسيقى الطوائف الصوفية" (عيساوة، حمادشة، ولاد بويا رحال، تهامة، أهل توات....) ، بحيث إن كثيرا من أشكال هذه الموسيقى التي تعتبر إرثا جماليا روحيا نفيسا، قد أصبحت طقوسا فارغة من كل معنى لما انفصلت عن خلفيتها المرجعية وعن نسقها الصوفي وعن إطارها التربوي فتسربت إليها التحريفات والتخريفات والتصحيفات، مما جعل من تلك المظاهر الطقوسية مثار انتقاد من لدن أرباب التصوف قبل غيرهم، سواء على المستوى الفني أو على المستوى الروحي أو المستوى العقدي، و يظهر أن العلة الأولى في هذه الآفة تكمن في انفصال تلك الموسيقى عن الإطار العام المعرفي والمرجعي والوظيفي التربوي الذي انبثقت منه وانتعشت في سياقه.
الآفة الثالثة التي مثلت أحد أعطاب الممارسة الصوفية للزوايا في المغرب هي"الحظوظية"؛ ونشير بها إلى تغليب بعض "المنتسبين إلى الزاوية" لحظوظ النفس في المال والجاه والرياسة والسلطة على التقيد بأخلاق الصوفية والتمسك بالزهد وطلب الكمال الروحي والالتزام بشرائط التجربة الصوفية كما تقتضي ذلك طبيعته و وظيفتها الروحيتان؛ ذلك أنه حين ازداد الطلب على التصوف ضمن التحولات التي أشرنا إليها سابقا، والتي أسهمت في إعادة الاعتبار له إجمالا، وخلقت الرغبة في الاستفادة من هاته الذخيرة الحضارية والروحية والجمالية من أجل خلق حوار كوني مع ثقافات أخرى، ومن ثم تغيير النظرة المريبة للإسلام التي أفرزتها مجموعة من الملابسات والأحداث التي عرفها العِقدان الأخيران، قلت لما ازداد الطلب على التصوف ضمن هذه التحولات، ركب على هذا الطلب كثير ممن لم يَخْبِروا التجربة الذوقية، سلوكا، ومعرفة، وتربية ضمن الزاوية؛ ساعدهم على ذلك ضعف مناعة أغلب الزاويا ووضعها الهش، فأصبح رهانهم على "التصوف" رهانا كسبيا نفعيا يتغيى تحصيل حظوظ مادية ودنيوية، وذلك على حساب المقومات العرفانية والأخلاقية والجمالية والروحية والتربوية للتجربة الصوفية. وهنا يجب أيضا انتقاد هاته الحظوظية طلبا للحفاظ على القدرة التلطيفية التي يمتلكها هذا العلم حيال النزوع الأهوائي والمادي والشهواني لدى الإنسان، وذلك حتى يظل هذا العلم معينا لروحنة الحياة لا أن يتعرض هو نفسه للدنيوة، فيصير مطية لتغذية الحظوظ بدل أن يضطلع بدوره في فطم النفوس عنها.
الآفة الرابعة هي"التعصبية"؛ ونعني بها تعصب بعض أهل الطريق لطريقتهم الصوفية واعتبارهم لها أفضل الطرق الموصلة إلى أعلى المقامات والمنازل الروحية، وأن شيخها "شيخ تربية" حقيق فيما تُرمى الطرق الأخرى إما بالجهل أو الدعوى، أو توصف في أحسن الأحوال بأنها "طرق تبركية"؛ أي تُلتمس بركة شيخها الرمزية ولا ثمار تربوية أو ترقية روحية تُرجى من اتباعه والأخذ عنه. وفي هذا سوء فهم كبير لدى بعض "المنتسبين للتصوف الطرقي" ممن لم يدركوا "سر" التربية الصوفية و"منطق" تعدد الطرق الناهلة من- والموصلة إلى- نفس المعين النوراني المحمدي. وبإجمال، فإن من المعلوم والمقرر لدى القوم أن تعظيم المريد لشيخه أمر لازم للاستمداد، مثلما أن محبة وإجلال التلميذ لأستاذه مدخل رفيع للنهل من علم هذا الاستاذ والاقتداء به؛ إذ المحبة تصنع المعجزات. أما المفاضلة فيجب أن لا تُعقد بين الشيوخ أو الطرق لأنها متعلقة بالآخذ لا بالمأخوذ عنه، فكل واحد منا يعظم أمَّه باعتبارها "أفضل أم" لا بمعنى أنها أحسن وأعلى رتبة من باقي الأمهات في إحساس الأمومة، بل لكون هذا الواحد ما أدرك شعورالابن حيال أمه إلا من خلال علاقته بأمه، ولا يستطيع أن يفهم علاقة الآخرين بأمهاتهم إلا من من خلال شعوره الخاص حيال أمه، مما يجعل تعظيم المرء لأمه هو تعظيم لمدخله الخاص في إدراك ذاك الشعور الخاص الذي يشعر به كل ولد حيال أمه. هكذا يجب أن نفهم تعظيم البعض لشيخه الروحي، إذ هو تعظيم للباب الخاص الذي ولج منه لنفس "المنازل الروحية" التي ولج إليها غيره من أبواب أخر. وهو ما يقتضي أن تعظيم المريد لشيخه وأستاذه الروحي موجب لتقدير تعظيم الآخرين لأساتذتهم ومربيهم بلا استصغار ولا انتقاص. لكن حين تطغى "الحظوظية" على التربية الصوفية فلا مناص من انتعاش "التعصبية" لأنها تصبح عنوان تصارع وتسابق على المنافع الدنيوية، رمزية كانت أو مادية، حتى لو تقنعت بلغة الإشارة والأسرار.
استخلاص واستشراف
إن التأمل في هذه الآفات الأربع يجعلنا نستخلص أنها تؤول إلى ضمور ركيزتين من ركائز التصوف، وهما العلم والتربية؛ إذ لما افتقرت وافتقدت الزوايا العلم سادت الإفشائية والطقوسية، ولما تراجعت التربية السلوكية سادت الحظوظية والتعصبية، مما جعل الممارسة الصوفية معطوبة وغير قادرة على الذهاب بشكل حاسم نحو الأقاصي، أي نحو المرامي التنويرية و الحضارية والآفاق الاحتضانية الروحية ذات الأفق الكوني مما هو من إمكان التصوف كمعرفة وذوق وأفق. من هنا نرى أهمية مثل هذا اللقاء في وضع أسس تجديد العمل التربوي للزوايا من خلال رصد الواقع واستشراف الآفاق. إن إعادة الاعتبار لحضور العلم والعلماء في الزوايا، كما كان الشأن فيها دوما، كفيل بتفعيل دورها التعليمي سواء للقرآن الكريم أو للعلوم اللغوية أو الشرعية أو علوم التزكية أو غيرها بما يضمن وحدة الأمة العقدية والفقهية ويحقق صلاحها السلوكي، وهي المقاصد التي عبثت بها "دور القرآن" ذات المنزع الوهابي.
أما البعد الأرقى في التصوف الإسلامي، في نظرنا، والذي لا ولن يتأثر بما هو ظرفي وتاريخي، هو بعده التربوي الروحي ذو الأفق الكوني بمختلف تجلياته العلمية والأخلاقية والمعمارية والجمالية والاجتماعية..، وهو بعد غير قابل للتعليب أو القولبة النهائية في هذا القالب الإيديولوجي أو ذاك، هذا الأفق الذي من شأن حسن استحضاره أن يسهم بجدارة في تعميق الوعي بعظمة الإنسان وبسمو كرامته وقداسة حريته؛ وبضرورة مجابهة كل أشكال التطرف التي تنزع إلى تحجير فكره وتحنيط روحه باسم الدين أو إلى تشييئه وتضبيعه وتبضيعه وتحويل أحلامه وأشواقه وآماله وآلامه إلى مزاد تتنافس عليه الشركات العملاقة التي لا إله لها غير الربح، ولا عقيدة لها غير الاستهلاك.
ها نحن إذن أشرفنا على خلاصة رئيسة من هذه الورقة وإن كانت مؤقتة؛ مفادها أن الممارسة الصوفية للزوايا بالمغرب، وكيما تنحو هذا المنحى التنويري والحضاري والكوني وتتجاوز آفاتها المرصودة آنفا، تحتاج إلى العلم والتربية، وكذا إلى استحضار أخلاق "الفتوة" كما أصل لها الصوفية أنفسهم باعتبارها رافدا من روافد إصلاح الإنسان وتقوية مناعته وشحذ فعله المثمر في المجتمع، فضلا عن ضرورة إعمال "الحسبة" على الطريق وتجديد الخطاب الصوفي، مدارسة وممارسة، مع النأي بالتصوف عن الظرفي والعابر؛ لأن طبيعته ترفض التقييد، إنها ما تفتأ تتطلع نحو الإطلاق. بهذه المثابة يمكن للزوايا أن تجدد وظائفها وتنخرط بقوة في إطلاق حركة تنويرية إسلامية روحية، مناطها تقديم رؤية إسلامية حضارية مستمدة من مشكاة النبوة وتتأسس على القيم الكبرى التي عاش من أجلها صلحاء هذه الأمة وأولياؤها؛ رؤيةٍ اجتهادية تنبذ كل منزع طائفي أو تكفيري؛ وتشج، في أصالة وعمق، بين النسكي والأخلاقي، بين التعبدي والجمالي، بين الدنيوي والأخروي، بين الجسدي والروحي، بين الفقهي والذوقي، بين الخاص والكوني. ذاك ما تستطيعه الزوايا، بمهارة وتفوق لا يجاريها فيه غيرها وذلك بفضل إرثها العلمي والوظائفي والروحي وآفاق عملها الواعد، إنها استطاعة مشروطة بتجاوز الآفات المذكورة، والاجتهاد في صياغة تلك الرؤية التنويرية المرصودة علاماتها آنفا، رؤيةٍ تستمد عمقها الروحاني الباذخ من مقام الإحسان في الدين، ومن فهم رشيد لأسئلة الواقع ورهاناته؛ وذلك في استيعاب وتجاوز لسؤال البدعة الذي يشغل الفقيه؛ وفي تعامل مُرشِّد وغير مباشر مع سؤال السياسة الذي يشغل الحاكم؛ وفي تحرر تام من سؤال الريع الذي يشغل المستصوف..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.