ما فتأت تونس وهي تخرج من ربقة السلطوية والتسلط ومن مهالك ودهاليز حكم فترة "بنعلي"،وهي ترسم بخطوات ثابتة النموذج -الاستثناء لما بعد ربيع الشعوب، بخصوص إمكانية التأسيس لنموذج ديمقراطي راشد تقتدي به باقي دول الربيع،بعدما قدمت دروسا خاصة في الفعل الثوري الذي امتدت شرارته إلى العديد من الدول ،إلا وتبدت ملامح مسارات وسياقات من شأنها أن ترهن صرح البناء الديمقراطي التونسي وتعود بعجلته إلى نقطة الصفر ،خصوصا وأن هناك إعضالات مرضية أضحت تسم مضمرات ومستظهرات الخطاب السياسي الذي يؤطر المرحلة الانتقالية. صحيح إن الخطاب السياسي في تونس شكل بدوره منارة لبث روح التوافق السياسي بين مختلف الفاعلين السياسيين(علماني، إسلامي،يساري،ليبرالي ...) ووضع مصلحة تونس فوق كل اعتبار وتجنيبها مهالك الدوامة التي يعيشها كل من النموذجين المصري واليمني والنموذج السوري الذي ظل في منتصف الطريق بفعل ارتهانه بأجندة جيو -سياسية وجيو-استراتيجية دولية، وتجاذبات مصالح القوى الإقليمية والدولية ،إلا أن مسارات الانزلاقات تبدت في الأفق وفي تجلي عدوى "الشعبوية" ،التي يمكن أن تصيب السياسة في مقتل ،بعدما انفكت من أغلال "نظام بنعلي" وهي الطامة التي ألمت بالجسد السياسي في مختلف الدول المغاربية. فمن يتتبع مشهدية الخطاب السياسي وملفوظاته أثناء الانتخابات التشريعية وأيضا على مستوى السباق نحو الرئاسة يلحظ هذا النزوع المفرط في الشعبوية ،ويبقى المثال الساطع والأبرز مرشح نداء تونس "الباجي القائد السبسي" الذي خلق الكثير من الجدالات والنقاشات حوله بفعل اللغة السياسية التي يعتمدها وإفراطه في تبني الخطاب الشعبوي وبنوع من الايغال. فأن يكون الخطاب الشعبوي في مستوى الحدث ويوظف بشكل ايجابي في خدمة الجماهير ويرعى مصالحهم ويجسر الفجوة بينهم وبين الحكام والمسؤولين مسألة مقبولة ومرحب بها،لكن أن يتم تسخيره واستثماره كأداة للتضليل والإيهام والتلاعب بعقول الجماهير التي تنشد الانتقال الديمقراطي الحقيقي فهي مسالة مرفوضة، ولن تؤول إلا إلى تكريس المزيد من الصعاب والمنزلقات والمنعرجات السياسية الخطيرة،فالمرحلة جد صعبة ودقيقة بحاجة إلى إعقال الخطاب السياسي وتطويعه وتوظيبه وفق متطلبات العقلانية والتبصر بعيدا عن أتون التلاعب بالكلمات وصناعة الفرجة السياسية(الهزل والضحك) غير المجدية في شيء. فالشعبوية هاهنا تحمل مكيدة الإيقاع وليس الإقناع وترجو التمويه ،وتكريس حالة "اللامعنى" في السياسة التونسية وتغلب منطق العبث السياسي، وتعيد في غائيتها ترسيم إحداثيات القائد الملهم والوحيد، أي صناعة القائد الديكتاتور مادام الخطاب الشعبوي ينحو إلى تركيز دعائم الكلام السياسي الفارغ الذي يعب وينهل من حالات الخواء الفكري والإيديولوجي وينزع نحو التزاوج والتساوق مع السوقية المقيتة. فلا يمكن الرهان على الشعبوية التي ترتفع عن واقع حقائق الأمور السياسية والاقتصادي والاجتماعية والثقافية وتركب التسطيح والرقص على نغمات المشاعر والعواطف والوجدان وتقوم على مطية تحوير النقاشات الحقيقية والتصورات والاستراتيجيات التي من شأنها أن تقدم حلول وبدائل حكيمة ورشيدة لمختلف الإشكالات المجتمعية ،وتضرب دولة القانون والمؤسسات في معقلها،فكما تقول الكاتبة "منى خويص" في كتابها "رجال الشرفات"، "حين يهزم العقل في مجتمع من المجتمعات ترفع الشعبوية راية النصر، فهي مرتبطة ارتباطا وثيقا باللاعقلانية ،ورحابها تلك الأمكنة التي لم تتعرف بعد على الحداثة والتي تقفل الباب على إعمال العقل وتطارد أصحابه بالنفي بالطرد بالاعتقال وأحيانا أخرى بالاغتيال". ولا يمكن الرهان على الخطاب الشعبوي الذي يسقط من حساباته منطقي العقلانية والرشد في التفكير وحسن التصرف ويعتمد على لغة سياسية توظف الملفوظات السوقية والسب والشتم وتحقير الخصم السياسي ،لأنه بفعل هذه الأقوال والأفعال قد يفقد التوافق جذوته وينزلق إلى حالة العنف. فلا يمكن الرهان على إنجاح الانتقال الديمقراطي في ظل تسيد الخطاب الشعبوي المعيب ،فتونس بحاجة إلى خطاب سياسي يحترم العقل السياسي التونسي ويؤسس لمرحلة جديدة قوامها تنازع الايديولوجيات والأفكار والتصورات وليس تناطح الأشخاص والمقول السياسي الرث.