ظهرت في الأيام الأخيرة، خصوصا في بعض الأوساط السياسية، حرب جديدة ألا وهي حرب الكلام، تستعمل فيها ألغام المصطلحات استعمالا مفرطا فمن استعمال لمفهوم العدمية إلى الرجعية الجديدة إلى التيئيس وأخيرا الشعبوية. وإنه لأمر غريب أن يتم التطرق عادة إلى الشعبوية كصورة نمطية لا معنى لها أو كحدث عابر خارج عن المألوف، فقد أصبحت بعض المكونات السياسية تطلق مثل هذه الصفات والشتائم المجانية في حق أصحاب الرأي الآخر، كذلك اتهمت بعض الصحف المستقلة بالشعبوية لكونها تتوجه بالخطاب إلى الطبقات الشعبية بلغة تحمل في طياتها انتقادا ساخرا لبعض الظواهر المجتمعية -سياسية واقتصادية واجتماعية- بلغة تمتص، بطريقة أو بأخرى، غضب ذلك المواطن البسيط الذي فقد صوته وبات يجد ضالته في هذه الصحافة. وهكذا تصبح العبارة عصية على التحليل وتلصق بظواهر يصعب تصنيفها.. وسأحاول من خلال هذه الورقة أن أقدم بعض التوضيحات حول تحديد مفهوم الشعبوية والذي بات، كمصطلحات أخرى، يستهلك استهلاكا مجانيا ومجانبا للصواب. فحسب قاموس Le Petit Robert (ص 1348) وقاموس المنهل (ص 799)، تشتق كلمة الشعبوية (Populisme) من كلمة أخرى ملتبسة هي «الشعب»، وهي تعني نظرية الروائيين الشعبيين الذين يصورون بواقعية حياة عامة الشعب، ويفترض الخطاب الشعبوي التوجه المباشر إلى «الجماهير» وفق تقويم إيديولوجي للنيات والنتائج... وحسب هذين القاموسين، فليس هناك ما يوحي باستعمال هذه الكلمة استعمالا قدحيا اللهم إذا كان القاموس الذي تغرف منه هذه المكونات السياسية مصطلحاتها قاموسا خاصا؛ وعليه لا يمكن اعتبار الشعبوية تلقائيا حركة رجعية ديماغوجية أو ذات معنى قدحي؛ فهذا المزج يهدف منذ ردح من الزمن إلى منع التفسير الدقيق للظاهرة كأنها دون جذور أو أسباب حقيقية. ولقد ظهرت الشعبوية في ثلاثينيات القرن الماضي، وخاصة في أمريكا اللاتينية، وهي الأكثر شهرة في هذا المجال، إذ إن بروز وجوهها الأكثر شعبية جاء نتيجة سياسات حكومات ضعيفة وفاسدة، والأكثر شهرة هي التجربة التي خاضها الزعيم خوان دومنغو بيرون والخطابات النارية لزوجته «إيفيتا»؛ فالبيرونية تجسد ثلاثة توجهات: القومية ومعاداة الإمبريالية وتجاوز الصراع الطبقي. وقد عرف بيرون، خصوصا خلال عهد حكومته الأولى (1946 1951)، إعطاء الضمانات للطبقات المحرومة، وهذا ما يفسر الأسطورة البيرونية التي لا تزال حية في الأذهان حتى يومنا هذا، فالأرجنتين تعرفت مع بيرون على سياسة اجتماعية من الأكثر تقدما في أمريكا اللاتينية. وتوالت الحركات الشعبوية في سياق البيرونية، ولكن باسم مبادئ متناقضة وصولا إلى الزمن الراهن: في الإكوادور حيث اقترح الرئيس عبد الله بو كرم (ماي 1996 - فبراير 1997) تشكيل «حكومة من الفقراء» وهو محاط بأكبر أثرياء البلاد، أو أيضا مع الرئاسة «الاجتماعية» للسيد هوغو شافيز في فنزويلا. فلقد نجح هذا المجاز في العلوم السياسية من جامعة سيمون بوليفار في توحيد وتوجيه موجة شعبية عاتية كانت ترفض فساد الطبقة السياسية وتتحرك للتغيير. مع ذلك، فإن الحملات السياسية للشعبويين الجدد تنجح أحيانا في استخدام تقنيات الاتصال الجديدة بشكل ذكي؛ فلنلاحظ أن القائد ماركوس حقق في المكسيك نجاحا باهرا في الإعلام السياسي. ومع ذلك وبالرغم من توجهه إلى الشعب المكسيكي والهندي، فإنه لا يطمح إلى تسلم السلطة حتى لو توافرت له الفرصة. ولا تحتكر أمريكا اللاتينية هذه الظواهر، بل إن بعض المحاولات حصلت في أوربا، وهي تتكاثر اليوم في أنحاء العالم كافة. ويصعب استخلاص مفهوم متجانس للشعوبية انطلاقا من هذا التاريخ الغني والمتناقض. بيد أنه يمكن الإشارة إلى بعض المعايير المشتركة بين هذه التجارب. إن تنوع الحركات الشعبوية التي ظهرت في التاريخ يبرهن على صعوبة المقارنات ولو أنها لا تمنع استخراج الصفات المشتركة. ويشير انبعاث الشعبوية منذ حوالي عشرين سنة إلى أزمة تجتاح الديمقراطية التمثيلية. والأزمة كونية أي لا سابق لها، إذن فالشعبوية هي بدايةً ظاهرة انتقالية سطحية ومؤقتة تقريبا، تبرز في إطار أزمة عامة ووضع سياسي اجتماعي يصعب احتماله بالنسبة إلى الأكثرية. إنها جرس إنذار عال أكثر مما هي انفجار يدمر كل شيء معه؛ فالشعبوية لا تقود بالضرورة إلى التغيير النهائي للنظام. بالطبع، إذا لم تصل الرسالة إلى الطبقة الحاكمة فإن الاستعانة بالشعب تمثل الحل البديل من الوضع المأزوم. هكذا، إذن، يمكن فهم الشعبوية على أنها ليست عبارة قدحية أو مجانية يمكن أن نقذف بها كل من يخالفنا الرأي، بل إنها ردة فعل غاضبة ومشككة في المؤسسات والقوى الطاردة المهددة للأساطير القومية التأسيسية أو هي بمثابة عودة إلى المصدر الشعبي للسلطة في غياب مشروع جماعي، وذلك في سياق المطالبة بالمزيد من الديمقراطية. وعليه، يمكن اعتبار الشعبوية بمثابة حمّى، وإذا كانت الحمّى إشارة إلى المرض فهي ليست المرض في عينه. وتأسيسا على ما تم ذكره، يتضح أن الشعبوية كغيرها من المصطلحات قابلة للتمديد ويجب، إذن، فهمها في السياق المبين أعلاه وليس كما يعتقد بعض الذين يستعملونها في غير محلها، فالمصطلحات صارت بضعة من أمتار المطاط يشكلها البعض كما يشاء، والقاموس لم يعد له نصيب في تحديد المصطلحات إلا على صفحاته. وأتمنى ألا نستيقظ ذات صباح فنجد أوراق قواميس اللغات كلها صارت من مادة المطاط تتمدد في شرح المصطلحات حسب المكان والزمان... امحمد عزيز