في نونبر 2009 رحل إلى دار البقاء العالم الرباني وباعث التجديد، والخطيب البارع، ورائد مجالس القرآن الدكتور فريد الأنصاري (رحمه الله). سقطت منارة مكناسة الزيتون الشاهقة والشامخة كما سقطت قبلها منارات في مختلف ربوع المغرب العالم؛ فقبله مات الأديب الفقيه عبد الله كنون، والعالم الجليل محمد المكي الناصري، ومحقق زمانه محمد بن عبد الهادي المنوني، والعلامة الحافظ عبد الله بن الصديق المغاري، وبعده العلامة أحمد الغازي الحسيني، والكثير من علماء المغرب الحبيب. وإذا كانت الموت مصيبة تصيب أهل الفقيد وتحزنهم؛ فإن موت العلماء مصيبة الأمة جمعاء، لأن موتهم خطب جلل، ورزية عظيمة، وبلاء كبير؛ فالعلماء هم ملح البلد وبهم تنبعث الأمم؛ فهم نجوم في سماء العلم تنير طريق الخاصة والعامة، وهم ورثة الأنبياء. فهم يعرفون بالله وبكتاب الله ويعيدون الناس إلى فطرتهم ويحافظوا للناس على رونق الدين، ورواد التدين، ويقدموا مثالا رفيعا للإيمان يشع بالجمال الآسر للقلوب، ويخرجوا للعالم نموذجا بهيا للسلوك، يسحر العقول ويأخذ بالألباب كما قال الدكتور فريد الأنصاري (رحمه الله). وإذا غاب العلماء الربانيون ترامى عدد من أهل الأهواء على وظيفة "العالم"؛ فاتخذ بعض الناس رؤوسا جهالا يفتونهم بغير علم، ويضلون الناس دون التفكير في عظم الجرم الذي يقترفونه. إن العلم كما يقول أهل العلم "هو بدء كل شيء في الدين"، والعلم هو الطريق الذي ينير عقول الناس، وهو من أعظم وظائف النبوة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا"، فهذا الإرث النبوي كنز وجب المحافظة عليه، وهو أمر ذي بال وجب تقسيمه على مستحقيه الحقيقيين، فلا يعقل أن يرث سفيه جاهل، أو غال في الدين، أو مميع للتدين، وظيفة من وظائف النبوة، للقول على الله بغير علم. لقد كان الدكتور فريد الأنصاري، عالم زمانه، سباقا في التحذير ممن انتسبوا للعلم الشرعي من غير حق، قال عنهم: "لم يأخذوا منه إلا أشباح معارف وأشكال أحكام، دخلوا بها في جدل عقيم مع الناس، غير مراعين حال الزمان وأهله، فنفّروا أكثر مما يسروا، وبدّدوا أكثر مما جددوا". لقد لفت رحمه الله الأنظار إلى آفة الآفات وهي التربع على كرسي العلم والفتوى والتوقيع عن الله دون التعرف والتعمق في القطعيات الشرعية والكليات الدعوية، فهم لم يأخذوا "لا العلم بالله" ولا حتى "العلم بأمر الله". إن الدين والتدين بحاجة إلى تجديد ينطلق من علم يستفيد من تراث الأمة، وعلماء تنير الحكمة طريقهم وعقولهم ليحيوا القلوب من جديد. وهذا لا يتأتى إلا بإعطاء قيمة للعلوم الشرعية، والتفكير في إنشاء معاهد عليا "للطلاب النجباء في العلوم الشرعية" في كل ربوع المملكة المغربية، وذلك من أجل تخريج علماء ربانيين بعمق تربوي هادف؛ فالعلوم الشرعية هي علوم "كونية" بحاجة إلى عناية أكبر. إن تخريج العلماء -من أمثال فريد الأنصاري وغيره– المحافظين على التدين الصحيح للمغاربة والمتشبثين بمقدسات المملكة المغربية، سيفتح آفاقا للعلوم الشرعية، وسيقف حاجزا فولاذيا أمام الأفكار الهدامة لأشباه "العلماء"، وسيؤمن للمغرب مسيرته التنموية الهادفة لجعل المغرب رائدا –كما كان- في إنتاج علماء ربانيين يبشرون بالدين الوسطي في أنحاء المعمور. إن الدكتور فريد الأنصاري كان فقيها حيا –بمصطلح طه عبد الرحمن- وهذا الفقيه العالم "لا يفضي به علمه إلا إلى السعادة، ولا يقصر به عن درجة الرفعة والكرامة" كما يقول العالم المالكي أبو الوليد الباجي. لقد كانت رزية المغاربة والعالم الإسلامي كبيرة في فقدان عالم رباني تخرج من المدارس والجامعات المغربية، فكان بحق عالم الزمان، وبديع المكان. لقد ضاع كثير من الخلق في شاعر وأديب ورسام وفقيه وعالم وأب وأستاذ، وقبل هذا وذاك، رجل القرآن بامتياز. وصدق الحكيم حين قال: لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد شخص يموت بموته خلق كثير