العلماء ورثة الأنبياء، فهم أهل الحل و العقل، و الحكمة و الرأي الراجح. و لا يتصور أن تنهض أمة و تقوم لها قائمة دون حضور بارز و فاعل لأهل العلم و الفقه في الدين و الدنيا. فموقع العلماء هناك، داخل المؤسسات التشريعية، الملكية منها و الحكومية، حيث يتم صناعة القرارات العليا و القوانين الخاصة و العامة مما يتعلق بشؤون العباد و البلاد، الداخلية منها و الخارجية. و ما أرى خطرا أعظم على هذه الأمة من إقصاء العلماء و تغييبهم عن مراكز صناعة القرار في الأمة. يقول الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله تعالى: "لا أحد يماري في أهمية العلم و العلماء في حركة تجديد الدين، و مركزية دورهم في التوجيه و التأطير؛ تعليما و تزكية، و ما فساد أمر الدعوة في كثير من المواطن إلا بسبب غياب العلماء عن مواقع صناعة قرارها و توجيهها." ("مفهوم العالمية من الكتاب إلى الربانية"، ص 61، فريد الأنصاري، ط 1، دار السلام2009) فالعلماء إذا ليسوا سواء؛ فمنهم الحاضر، ومنهم الغائب، و منهم الحاضر الغائب، و لعل هؤلاء أكثر أصناف العلماء اليوم. فالعالم حق العالِمية "هو الفقيه المجتهد، الرباني الحكيم، الذي تحقق بالعلم و صار له كالوصف المجبول عليه، و فهم عن الله مراده؛ فصار يربي بصغار العلم قبل كباره." ("المصدر السابق نقلا عن أبي اسحاق الشاطبي، ص 62) إلا أن للعلماء الأتقياء شيم أخرى تشتد الحاجة إليها حين تكثر النوازل و يتطلب الأمر فقه الواقع، و استدعاء النصوص، و استجماع الأدلة، و استنباط الأحكام و تنزيلها على واقع الناس لإحقاق الحق و إنكار الباطل. و لعل من أعظم تلكم الشيم ما ذكره الله تعالى في ثنائه على العلماء إذ قال تعالى:( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) فاطر/28 فالعلماء أعلم الناس بالحلال و الحرام، و الحال و المآل، و لا يكون العالم عالما حقا إلا إذا كان تقيا صادقا، يخشى الله فيما أمر و نهى، ولا يخشى في ذلك لومة لائم. فخشية الله تشريف و تكليف، و على قدر العلم تكون المسؤولية. فلا يجوز أن يكون العلماء قطع غيار رخيصة، أو دمى صماء بكماء، أو قنوات لتصريف نوايا إبليس و عبيده من الإنس و الجن. يقول الله تعالى:(وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) الأحزاب/37 وقال للمؤمنين:( أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) التوبة/ 13 فلا يخشى الله حق الخشية إلا العلماء الأحرار، أهل الحكمة و الاجتهاد، الذين آمنوا بالله حق الإيمان، فكانوا فرسانا في إحقاق الحق و إنكار الباطل، و دلالة الناس إلى طريق الصواب. أما العلماء الكسالى فأقم عليهم مأتما و عويلا. إن الأمة لا تريد علماء كقطيع الأغنام، أينما وجهتها تنقاد؛ و لا تريد علماء كالنعام إذا نزل على الأمة أمر أو أصابها قرح جعلوا أصابعهم في آذانهم، فلا تَسمعُ لهم نصيحةَ، و لا رأيا؛ و ربما وأدُوا رؤوسَهم كلها في الأرض حين تشتد حاجتنا إليهم، فلا تجد لهم أثرا، و لا تسمع لهم خبرا. الأمة لا تريد علماء الزوايا و البلاطات، و لا علماء الولائم، و الهدايا، و المناسبات؛ و لكن تريد علماء (بَوْصلاتٍ)، يدورونَ مع الحق أينما حل و ارتحل. أولئك هم العلماء حقا. لقد حدث في مصر ما حدث، و رأينا علماء الأمة بين مجاهدين و مفتونين؛ فأما المجاهدون فكان منهم المرابطين في ميادين الحق و الحقيقة، و آخرون لم يتوانوا و لم يتباطؤوا في إحقاق الحق و إنكار الباطل بصدق و صراحة؛ فلم يتاجروا بمبادئهم خوفا على مصالحهم الدنوية. أما المفتونين منهم فقد اختلط عليهم الحابل بالنابل، و الحق بالباطل، و الحلال بالحرام، و إن تعجب فعجب قولهم أن الانقلاب الدموي على الشرعية و الشريعة ثورة، و أن الثوار الأحرار، الذين اعتصموا في سِلم و سلام نصرة للشرعية و الاسلام و ضدا على علمنة الدولة، خوارجَ و دعاةَ إرهاب. لقد حَصْحَصَ الحق و زهقَ الباطل، و ها هيَ ذِي الأقنعةُ تتساقط تترى تترى (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) الأنفال/42 الحق أبلج و الباطل لجلج، ولا محل للخلاف في معرض القطع و اليقين، خاصة و قد سالت دماء الأبرياء، شبابا و شيبا، أبناء و نساء. لقد فطن إلى كيد الأعداء بعض العلماء الأجلاء فعادوا إلى رشدهم و التحقوا بالركب؛ أما البقية من الدعاة و أشباه العلماء- و حتى الأغبياء من بني علمان- فركنوا إلى أنفسهم، و تخلفوا عن الشعب و لسان حالهم يقول: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ) هود/80. كذلك جرَتْ سُننُ الله على عباده و بلاده، فمَحص قلوبَ المؤمنين، و مَحَق الكافرين، و اختبر جهاد المجاهدين و صبر الصابرين حتى رأوا الموت رأي العين، فكان منهم الشهداء. يقول الله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) آل عمران/140. و يقول عز من قائل: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ( 141 ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( 142 ) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ( 143) آل عمران. تلكم كلفة الجنة و (فاتورة) النهضة: جهادٌ، و صبرٌ، و شهادةٌ؛ و هذا لعمري ديدنُ العلماء الربانيين، و ميثاقُ أسلافنا الصالحين. أما الذي جهل سنة الله تلكَ فلا تعجبْ منه إذا خَبَط خبْطَ عَشْواء و رأيتَ عليهِ مِنَ الوباَل و الخَبال ما لم يخطرْ على بال.