إن مستقبل الانسان المسلم يمتد إلى ما وراء هذا العالم الزائل وأن تصوره للحياة لا ينحصر في ماديات يتهافت الناس عليها ، ويتنافسون على نيلها وتحصيلها ، بل ويتقاتلون على مسرحها بوحشية حيوان متنكر في زي إنسان . ومن منطلق هذا التصور الذي يستجيب للتركيبة المزدوجة للانسان * نفخة روحية وقبضة طينية ** فهو لا ينظر إلى الدنيا إلا بالمقدار الذي يوصله بالعالم الآخر في أمن واطمئنان وهوليس بالراهب وفي ذات الوقت ليس بالمنغمس في ملذات الحياة ، قال صلى الله عليه وسلم " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها ". والدنيا وأولياؤها لن يهدأ لهم بال ما دام هناك على وجه هذه البسيطة من يشوش سيرهم ويرفض في إصرار الانصياع لدنيا تر يد أن يكون كغيره مملوكا لها يجلس ويقعد بأمرها، لا أن تكون كدكان يقتني منه ما يلزمه في رحلته الطويلة الشاقة إلى العالم الآخر ، فهي بالنسبة إليه جسر يعبره إلى الضفة الأخرى حيث الأمن والأمان ... كان من الطبيعي أن يحدث الصدام بين من يلتصق بالأرض وبين من ينظر إلى الأفق الأعلى متطلعا نحو حياة يراها بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة ما لا عين رأت ... والغريب في الأمر أن الدنيا تنسج بيد الإنسان خيوط المكيدة للانسان نفسه قال تعالى " وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلَّآ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى ٱلْأَسْوَاقِ ۗ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍۢ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًۭا ﴿20﴾ " سورة الفرقان فكم يرتكب الإنسان من جرم في حقه أخيه الانسان ، فالانسان المتيم بحب الدنيا والمولع بها يضع بين يديها بسخاء جميع القيم الانسانية كقربان لها وهو لا يبالي لأنه ير يد أن يستجمع كل الدنيا لتكون له فهو يدور حول فلك نفسه ، بينما الآخر المعلق بما لا عين رأت ... يأمل لو ترتبط قلوب البشر كلها بهذا الخيط الرفيع لتسعد بالحياة فتتسع الهوة بينهما ويستمر الصراع ،غير أن قلب المتعلق بالله عز وجل وطمعه بالجزاء الأوفر يجعله يستهين بالمتاعب والمشاق بل يستطيب الآلام والمعاناة التي يلاقيها من أخيه الانسان ويزداد قوة قال تعالى " ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُوا۟ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَٰنًۭا وَقَالُوا۟ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ ﴿173﴾ فَٱنقَلَبُوا۟ بِنِعْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍۢ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوٓءٌۭ وَٱتَّبَعُوا۟ رِضْوَانَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴿174﴾ " سورة آل عمران فأمر الابتلاء وارد في شرع الله ولو نجا منه أحد لنجا منه الأنبياء والرسل وكلما جد المسلم في الاستقامة جد الشيطان في إغراء السفهاء به قال تعالى " وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْءٍۢ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍۢ مِّنَ ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ ﴿155﴾ " سورة البقرة فيعلم أن الابتلاء أشد محنة للعبور إلى الحياة الأخرى فلا يضجر ولا يتمرد على قضاء الله فيستشعر السعادة مهما تقلبت عليه الأحوال والأوضاع لأن مفهومه للابتلاء يتسرب إلى جميع مظاهر الخير والشر على السواء فإن كان خيرا شكر الله وإن كان شرا صبر واحتسب معاناته عند الله حتى قال صلى الله عليه وسلم ** عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ** فليس النعيم ما تراه نعيما وليس الشقاء ما تراه شقاء إنما العلم بذلك والحكم عند الله عز وجل قال تعالى "وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُوا۟ شَئًْۭا وَهُوَ خَيْرٌۭ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّوا۟ شَئًْۭا وَهُوَ شَرٌّۭ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿216﴾ " سورة البقرة فنحن إذن في امتحان عسير قال الشاعر محمد مصطفى الحمام : علمتني الحياة أن حياتي ***** إنما كانت امتحانا طويلا قد أرى بعده نعيما مقيما ***** أو أرى بعده عذابا وبيلا فمن واجب الانسان المسلم أن يواجه الحياة الفانية وعلى شفتيه بسمة تنم عن رحابة صدر وسعة احتمال ، ترى ما عند الله عوضا عن كل فائت فالرضى يخفف الأثقال كما قال نفس الشاعر : رأيت الرضى يخفف أثقالي******* ويلقي على المآسي سدولا لست أخشى اللئيم أذاه ******** لا ولن أسأل النبيل فتيلا أليس غريبأ أن نكون أبناء هذا الدين العظيم فيقتلنا القلق وتدمرنا الأحزان وتمزقنا الهموم فتذبل الوجوه الطافحة بالحياة ، فلو أننا جميعا نحن المسلمين تلمسنا في القرآن والسنة هذه الأنوار المشرقة والمشعة لامتلأت دنيانا سعادة وطموحا وأملا ، فنعيش يومنا بعيدين عن الجزع والجبن . فإحساس المؤمن بأن خيوط حياته لن تنفلت من يد الله ينتج عنه الإحساس بالطمأنينة فيركن إلى الله بعد أداء واجبه . أملي أن يقوم كل واحد منا بتكاليفه أمانة ورسالة ومراقبة فلا يقف مكتوف الأيدي يتقلب مع الأحزان والأفراح . فتارة فرحا بما أتاه الله فيغفل عن شكره وتارة ساخطا لأنه قدر عليه رزقه فيتولد عنه شعور بالإهانة ، ** أتدري كيف يسرق عمر المرأ منه يذهل عن يومه في ارتقاب غده ولا يزال كذلك حتى ينقضي أجله ويده صفر من أي خير ** محمد الغزالي جدد حياتك ، قال تعالى " وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا۟ غَيْرَ سَاعَةٍۢ ۚ كَذَالِكَ كَانُوا۟ يُؤْفَكُونَ ﴿55﴾ " الروم ، يمر العمر فلا الوقوف عند الأحزان سيزيلها ولا ابتهالك بالأفراح سيديمها وإنما الدوام لله عز وجل فكن مع الله في كل أحوالك تكن أسعد الناس الأستاذة حفيضة يونوس أفورار / أزيلال