في الوقت الذي يسعد فيه الأتراك هذه الأيام ببدء أشغال بناء أكبر مطار في العالم باسطنبول، ليصبح جاهزا عام 2018، يخلد أحفاد العثمانيين هذا اليوم ذكرى وفاة مصطفى كمال أتاتورك (1938)، مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، والذي يرى فيه أبناء تركيا الأب الروحي والبطل التاريخي، ذي الفضل في التقدم والازدهار الذي ينعمون به الآن. قبل 12يوما، أي في 29 أكتوبر المنقضي، احتفلت تركيا بالذكرى ال91 لتأسيس جمهوريتها العلمانية، في عهدة رئيس يقود حزبا إسلاميا له شعبية كبيرة، هو رجب طيب أردوغان، الذي تقدم يوم الإثنين الاحتفال عند ضريح أتاتورك وسط العاصمة أنقرة، ويكتب على الدفتر الخاص بالنصب، "أقول بفخر كبير إن الجمهورية التركية في ذكرى تأسيسها حازت تقدما تاريخيا في تعدد الأحزاب وإعلاء الإرادة الوطنية والديمقراطية..". كانت الكلمات تلك بمثابة اعتراف من رجل بات بطلا قوميا، لرجل لا يزال رمزا تاريخيا وأبا روحيا، بأن تركيا تسير على السكة الصحيحة، ورسالة طمأنة من أردوغان لروح أتاتورك في أن جلوسه على كرسي الرئاسة لن يغير من عزم الأولين في أن تكون تركيا دول علمانية، وكيانا واحدا يحتضن ثقافات وديانات متعددة، دون أي تمييز عرقي أو عنصرية دينية أو دكتاتورية سياسية. ليس للأتراك أعياد رسمية كثيرة ينالون بها عطلا، إلا أن أبرزها يوم الجمهورية، الذي يصادف 29 أكتوبر من كل عام، وفيه يستحضرون ذكرى إعلان الجمهورية التركية الحديثة عام 1923، بالتزامن مع سقوط الإمبراطورية العثمانية، التي عانت كثيرا من مرضها البئيس، إلى جانب الاحتفال بيوم أتاتورك والشباب والرياضة في مناسبة تخلد دور الشباب التركي في الحرب العالمية الأولى، ويوم الانتصار العسكري، مخلدا لمعركة أتاتورك مع الحكام العثمانيين. أتاتورك يلغي الخلافة شكل إلغاء مصطفى كمال، الذي لقب بأتاتورك، أي "أبا الأتراك"، للحكم العثماني عام 1924، نكسة كبيرة في أوساط المسلمين وقتها، حتى أن عددا من الحركات الإسلامية العريقة، نشأت على أرضية إعادة الخلافة الإسلامية التي أسقطها أتاتورك في اسطنبول وحولها إلى دولة مدنية عاصمتها أنقرة، وكانت أبرز تلك الحركات "جماعة الإخوان المسلمين". وما زاد من الغضب الإسلامي على أتاتورك هو إقدامه على إحلال نظام علماني على الفور، تجلى في إسقاطه لمنصب الخليفة وإبداله بمنصب الرئيس، الذي تولاه حتى وفاته عام 1938، وحظر المظاهر الدينية وإقحام التعاليم الغربية في مناهج التربية والتعليم، بلغت درجة منع تداول وكتابة اللغة العربية، واسبتدالها باللاتينية، لتصير لغة تركية موحدة. إلا أن الأتراك اليوم، يرون في "إصلاحات" أتاتورك السياسية والاقتصادية، وإرساءه لدعائم دولة حديثة، شكل بشكل كبير أرضية خصبة لزرع لبنات تركيا الحالية، التي تعانق التقدم وتزاحم دول الغرب الكبرى في الاقتصاد والقوية في العالم والسياسة، وهو ما فطن إليه الرئيس الحالي للبلاد، رجب طيب أردوغان، الذي خرج بحزبه ذي الأصول الإسلامية، من خندق "الدعوة والتربية" إلى ورش "الإصلاح والتنمية". أردوغان.. أتاتورك الإسلامي تمكن أتاتورك بهذه السياسة من خطف تركيا من وعائها الإسلامي وخندقتها داخل وعاء لا يحتمل سوى العلمانية رؤية سياسية وفكرية واجتماعية، حيث إن الحكومات التي أعقبت فترة حكمه ظلت وفية لهذا النهج، بل حتى مؤسسة العسكر ظلت لعقود حامية تركيا من أي محاولة ﻷسلمة الدولة والمجتمع. مع ظهور التجربة الإسلامية لحزب السلامة الوطني، مع نجم الدين أربكان، خلال سبعينيات القرن الماضي، بدأت مظاهر تحول جديد تزعزع صورة العلمانية داخل تركيا، رغم سعي النظام الذي ورث تركة أتاتورك إلى قمع تلك الحركة وباقي التيارات المحاكية لها، إما بالسجن أو النفي وحتى الإعدام، مقابل توطيد أنقرة لعلاقاتها مع الغرب وإسرائيل، حماية لتلك التركة. اليوم، وبعد 76 سنة على وفاة باني جمهورية تركيا ما بعد الخلافة، يرى البعض أن تجربة حزب العدالة والتنمية، التي أفرزتها عقود من الصراع الإسلامي-العلماني، تحاول استرجاع إسلامية تركيا "المخطوفة"، من علمانية أتاتورك، في شكل حداثي وعصري، وبلبوس إسلامي معتدل، مع الزعيم أردوغان، الذي بات يطلق عليه الأتراك لقب "اتاتورك القرن الواحد والعشرين".