بينهم من ينشطون بتطوان والفنيدق.. تفكيك خلية إرهابية بالساحل في عملية أمنية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    جمهورية بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع 'الجمهورية الصحراوية' الوهمية            الولايات المتحدة تجدد دعمها للمبادرة المغربية للحكم الذاتي كحل جدي وموثوق به وواقعي    تعيينات جديدة في المناصب الأمنية بعدد من المدن المغربية منها سلا وسيدي يحيى الغرب    شركة رومانية تفتح بطنجة مصنعا متخصصا في تصنيع المكونات البلاستيكية للسيارات    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    أشرف حكيمي يجدد عقده مع باريس سان جرمان حتى 2029    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    الرابور مراد يصدر أغنية جديدة إختار تصويرها في أهم شوارع العرائش    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    ولد الرشيد: رهان المساواة يستوجب اعتماد مقاربة متجددة ضامنة لالتقائية الأبعاد التنموية والحقوقية والسياسية    مواجهات نارية.. نتائج قرعة ربع نهائي دوري الأمم الأوروبية    المنتخب الليبي ينسحب من نهائيات "شان 2025"    مجلس المنافسة يغرم شركة الأدوية الأمريكية "فياتريس"    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    التنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب تدعو الزملاء الصحافيين المهنيين والمنتسبين للتوجه إلى ملعب "العربي الزاولي" لأداء واجبهم المهني    بتعليمات من الملك محمد السادس: ولي العهد مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو        تفكيك شبكة تزوير وثائق السيارات بتطوان    أسباب الفيتو الأمريكي ضد مشروع قرار وقف الحرب!    لأول مرة في تاريخه.. "البتكوين" يسجل رقماً قياسياً جديداً    أداء سلبي في تداولات بورصة البيضاء    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    زَمَالَة مرتقبة مع رونالدو..النصر السعودي يستهدف نجماً مغربياً    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    دفاع الناصري يثير تساؤلات بشأن مصداقية رواية "اسكوبار" عن حفل زفافه مع الفنانة لطيفة رأفت    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !        تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"بحث" قبول صلح الحديبية دنيَّة في الدين أم استجابة لموازين القوى؟!
نشر في هسبريس يوم 10 - 11 - 2014

في السنة السادسة من الهجرة رأى النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا أنه يطوف بالبيت ومعه المؤمنون.. فأذَّن في الناس بالعمرة.. وخرج قاصداً مكة ومعه ألف وأربعمائة من الصحابة يريدون العمرة ويسوقون الهدي، ولا يخفى على قارئ ما هي الحالة النفسية التي سيطرت على كل من المهاجرين والأنصار، فالمهاجرون أُخرجوا من ديارهم وأرضهم وأهليهم وأُبعدوا عن المسجد الحرام ومكة المكرمة وهي أحب البقاع إلى الله تعالى وأطهر، ظلماً وعدواناً من قومهم قريش، بعدما تعرَّضوا للظلم والعنت والإيذاء على أيديهم من قبل.. إن الشوق لمكة استمر ست سنوات على أقل تقدير فقال قائلهم: "ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي اذخر وجليل"..
أمَّا الأنصار فكانوا كسائر العرب يحجون ويعتمرون أيضاً فالعرب يقدسون البيت العتيق، ويفدون إليه من كل فج عميق.. وهم أيضاً في شوق جارف إلى الكعبة المشرفة وقد حُرموا من أداء عبادتهم وهم على الإسلام سنوات.. وكانوا من قبل يأتونها وهم على الشرك فلا يمنعهم من دخول مكة مانع.. "إذ لم تكن قبائلهم في المدينة قد وُضعت على قوائم الممنوعين من دخول مكة بعد!!" ولم تكن الكعبة المشرفة ولا المسجد الحرام ملكاً لقريش ولا غير قريش وإنما هي حرم الله الآمن.. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لدى انصراف الأحزاب من حصار المدينة في العام الفائت قد أعلن عن بداية مرحلة جديدة من الصراع بين المسلمين وأعدائهم: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا".. إذن لقد آن الأوان للمسلمين أن تقر أعينهم بمرأى الكعبة المشرفة من جديد.. بل الأعظم من ذلك كله في قلب النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، هو يقينهم في وعد الله تعالى:"إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ"القصص85..
فلنقل في وصف حالة الصحابة النفسية والإيمانية عندما خرجوا من المدينة محرمين بالعمرة إلى مكة المكرمة: كانوا في غاية اليقين أن الإيمان معهم، وأن الحق معهم فهم أولى بالبيت من المشركين الذين صدوهم عنه، ورغبة الاعتمار متحققة لديهم، ووعد الله يحدوهم، ورؤيا النبي- ورؤى الأنبياء حق ووحي- تبشرهم، ومن قبل ذلك وبعده معية الله تعالى تظللهم وتكلؤهم وترعاهم.. فهل تراهم بعد كل ذلك يشكُّون ولو للحظة واحدة في دخول مكة والطواف بالبيت؟!
ورغم هذه الأجواء الإيمانية التي لاشك فيها.. برَكَت ناقته القصواء فزَجَرَها الناس، يقولون:"حَلْ حَلْ" لتقوم فلم تقم فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء؛ أي: حَرَنت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بِخُلُق ولكنْ حبسها حابس الفيل، والذي نفسي بيده لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زَجَرَها النبي -صلى الله عليه وسلم- فوثَبت فعدل عن قريش حتى نزل بأقصى الحديبية.. ويضع النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأجواء أول خطة سلمية عرفها التاريخ البشري.. فالقادة والحكام يضعون الخطط الحربية، أما النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها".. فتكون هذه أول خارطة طريق في التاريخ المكتوب أو المعروف!
ويرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان سفيراً إلى قريش موضحاً رغبة المسلمين في الاعتمار دون سواه.. الاعتمار سلماً، دون التعرض لأهل مكة بشيء، فما لهم أن يفعلوا غير ذلك وهم محرمون بعمرتهم.. لكنَّ قريشاً تحتجز عثمان وتصل الأنباء إلى معسكر المسلمين بالحديبية بأنه قُتل.. ويتأزم الموقف.. ويأخذ النبي صلى الله عليه وسلم البيعة من أصحابه على قتال قريش طالما منعوه من البيت وجزاء قتلهم لسفيره إليهم.. فبايعوه -كما تقول بعض الروايات- على القتال حتى الموت.. وسُميت تلك البيعة ببيعة الرضوان وباركها المولى عز وجل من فوق سبع سماوات.. ووصلت حالة التأهب القصوى نفسياً ومعنوياً وإيمانياً إلى عنان السماء.. وقد أعد الصحابة رضوان الله عليهم للشهادة في سبيل الله عدتها.. لقد آن لهم أن يفتحوا مكة وأن يزيلوا منها رجس المشركين والأوثان على السواء.. وفي هذه الأثناء يظهر عثمان بن عفان وتبدأ المفاوضات بين قريش وبين النبي صلى الله عليه وسلم!..
تغيرات دراماتيكية في غاية الحدة.. انفعالات نفسية ومواقف إيمانية تنتقل من غاية التجرد الروحاني استعداداً للعمرة.. إلى غاية الاستعداد للقتال حتى الموت.. والنبي صلى الله عليه وسلم ووزراءه يقودون دفة المفاوضات بمنتهى الحكمة والمهارة ويصدرون الرسائل الإعلامية في غاية الذكاء والدقة.. فيحيِّدون سيد الأحابيش بإطلاق الهدي في استقباله.. ويفتُّون في عضد عروة بن مسعود الثقفي، الذي جاء ينتقص من معنوياتهم، ويحقر من إيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيجيبه ابن أخيه المغيرة بن شعبة بما يخلع قلبه، ويُغلظ له الصدِّيق أبو بكر القول، فيعود إلى قريش مخذولاً محذراً من حب الصحابة لنبيهم وافتدائهم له بكل شيء.. وتستمر المفاوضات استعداداً لإبرام صلح يوقعه عن قريش سهيل بن عمرو.. ويحز الأمر في نفوس المسلمين الذين عصفت بهم المحنة من أقصاها إلى أقصاها.. واعتصرتهم العاطفة الإيمانية والأشواق النورانية.. ثم لماذا يصطلحون؟ ومع من يصطلحون؟ وعلى أي شيء يصطلحون؟
وتثور الأسئلة.. وتظل ثائرة:
ألم تكن الشرعية الإيمانية المطلقة مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه؟
ألم يكن العرف الإقليمي العام بين العرب جميعاً ألَّا يُصد قاصد للبيت عن زيارته؟ ألم يكن المشركون هم العدو المعتدي الذي أخرجهم من ديارهم وأهليهم؟ ألم يكن أبو سفيان زعيم قريش هو الذي قاد المعارك والحروب ضدهم في أُحد والأحزاب؟ ألم تكن قريش يومها تضم حفنة من مجرمي الحرب الذين مثلوا بشهداء الصحابة في غزوة أُحد.. والذين ارتكبوا أبشع الجرائم في حق المسلمين؟! ألم يكن المسلمون على الحق؟ ألم تكن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حقا؟ ألم يكن وعد الله تعالى بأن يردهم إلى معاد مكتوباً في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ لم والحال كذلك يعطون الدنيَّة من دينهم، كما تساءل الفاروق عمر بن الخطاب ؟
إنَّ التاريخ ولاسيما سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ليس مجرد سطور تُقرأ، ولا حكايات تُروى.. وإنما حياة ومشاعر، وأحاسيس بشرية.. فلنتعامل معها تعامل الحياة والأحياء.. ما ظنكم بامرئ استعد للحج أو العمرة.. وأحرم بها في مطار بلده، وبينما يتوجه إلى الطائرة التي تقله إلى الأراضي المقدسة.. فإذا بقرار حرمان من السفر يصدر في حقه في التو واللحظة، كيف يتعامل مع الموقف والحالة النفسية؟ كيف إن كان قرار المنع ظلماً وعدواناً وتعنتاً.. ثم يُطلب منه ضبط النفس في التعامل مع مانعه وصاده عن سبيل الله؟!
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد وإنما ننتقل إلى المشاهد الأخيرة قبل إتمام الصلح..
المشهد الأول بنود الصلح:
يرجع المسلمون ولا يدخلون لأداء العمرة هذا العام ويعودون في العام التالي وأن يدخلوا بدون سلاح.
2 - انتهاء حالة الحرب بين المسلمين وقريش لمدة عشر سنوات.
3 - يلتزم محمد برد كل من يهاجر ويسلم من مكة بعد الصلح بدون إذن وليه.
4 - أما من يرتد عن الإسلام فلا يرجع للمسلمين.
5- القبائل التي تريد أن تدخل في عهد محمد فلهم ذلك والقبائل التي تريد أن تدخل في عهد قريش لهم ذلك..
لقد كان للبند الأول والثالث والرابع على وجه الخصوص أشد الأثر والمرارة في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم.. حيث يتحقق صدهم عن البيت الذي خرجوا له محرمين هذا العام.. وعدم السوية في رد من جاءهم من قريش مسلماً وعدم رد قريش من جاءها منهم! ناهيك عن الهدنة والكف عن القتال وهم الذين بايعوا محمداً ورب محمد على القتال حتى الموت منذ قليل!!
المشهد الثاني: تعنت سهيل بن عمرو عند كتابة بنود الصلح.. فيطلب محو أسماء الله الحسنى الرحمن الرحيم، إذ تجهلها قريش.. ويعظم الأمر إذ يطلب محو "محمد رسول الله"، ويكتب بدلا منها" محمد بن عبد الله" فما اعترفوا به رسولاً!
المشهد الثالث: حضور الصحابي الجليل أبي جندل بن سهيل بن عمرو يرصف في أغلاله – وفي بعض الروايات- زحفاً على بطنه فاراً من بطش قريش وعنت أبيه.. ومظهره يفتت أكباد المسلمين، فيتشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ويتعنت سهيل فيقول: لقد أبرمنا الصلح قبل هذا.. وأبو جندل يستجير بالنبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: أتردوني إليهم ليفتنوني في ديني.. والنبي لا يزيد عن قوله: لعل الله أن يجعل لك فرجاً ومخرجاً!!
تضافرت المشاهد الثلاثة لتكتمل المحنة.. لا تحدثني والحال كذلك عن إيمانك اليقيني بأنَّ هذا الصلح في ظاهره وفي وقته وفي وقائعه ومشاهده هو الفتح المبين.. ولا تحدثني أنك تملك اليوم من الحكمة والإيمان واليقين ما يفوق حكمة عمر وإيمان عمر ويقين عمر!! الذي ظل ثائراً حتى خشي على نفسه من مغبة هذا اليوم وما فعله هذا اليوم من معارضة وانفعال.. ولا من الصحابة الذين شهد الله تعالى بيعتهم من فوق سبع سماوات فرضي عنهم أجمعين.. وهم يتلكئون عن تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحل من الإحرام بتحليق رؤوسهم وتقصيرها..
لا تحدثني عن يقيننا الآن، بعدما نزلت آيات الله المكتوبة في كتابه، والمرئية في وقائع التاريخ.. إذ لو كنا معهم لخشينا على أنفسنا الهلاك بالمعصية، أو الموت كمداً وقهراً وغيظاً..
ومع ذلك فقد كان هذا الصلح فتحاً مبيناً أيده القرآن الكريم، ونزل فيه صدر سورة الفتح، حتى يقول عمر معتذراً: أفتح هو؟
لقد كان فتحاً مبيناً.. فما كانت استجابة النبي صلى الله عليه وسلم لبنود الصلح، وقبول مبدأ التفاوض مع زعماء الشرك، وبين ظهرانيهم حفنة من مجرمي الحرب.. سنرى لاحقاً بعد فتح مكة أنه صلى الله عليه وسلم يهدر دمهم حتى ولو تعلقوا بأستار الكعبة، فهم مجرمو حرب بالمعنى المعاصر وبالمعنى التاريخي أيضاً.. ولم يطلب النبي صلى الله عليه وسلم تسليمهم عند الحديبية للعدالة أو القصاص العادل! ما كانت تلك الاستجابة تشككاً في الحق الذي أنزله الله تعالى إليه، ولا في شرعية موقفه في الطواف بالبيت، ولا في رؤياه التي رآها وحياً من ربه.. ما كانت تشككاً ولا دنية في الحق ولا الدين.. فمن ذا الذي يُزايد على يقين رسول الله؟ وثبات رسول الله؟ وإيمان رسول الله؟ وشجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لكن قبول مبدأ التفاوض والصلح كان استجابة لضغط الواقع وموازين القوى على الأرض.. علم النبي صلى الله عليه وسلم – وعلَّمه ربه- أنه لا سبيل إلى إفناء أحد الفريقين.. فلا المسلمون بقادرين على إفناء قريش.. ولا قريش تستطيع.. وأن قريشاً هي حقل دعوة الإسلام المستهدف.. وأن عليه الإبقاء عليهم لدعوتهم ودعوة ذراريهم من بعدهم إلى الإسلام.. إن الذين فاوضوه والذين منعوه سيدخلون فيما بعد في دين الله أفواجاً.. فما جاء الإسلام ليُهلك الناس ولو أجرموا، وإنما جاء ليهديهم إلى الصراط المستقيم.. إنَّ لموازين القوى على الأرض اعتبارات شرعية لا يمكن تجاهلها..
لقد مهد هذا الصلح الأجواء الإقليمية لقبول دعوة الإسلام في جو غير عدائي وغير مستقطب ضد رسول الله ودعوته.. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحترم الأعراف الإقليمية وينظر لها بعين الاعتبار، وإلَّا لمَ ترك المسلمون في مكة أبا جهل يمشي في طرقاتها بعد أن قتل سُميَّة المرأة المسلمة أول شهيدة في الإسلام بحربته؟ ألم يكن في شباب المسلمين في مكة فدائي يبرز لأبي جهل فيرديه قتيلاً بما كسبت يداه؟! ألم يكن منهم علي بن أبي طالب "حيدرة" العرب؟! انظروا إلى إجابته صلى الله عليه وسلم يوم سُئل عن قتل رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول، أجاب"حتى لا تحدِّث العرب أن محمداً يقتل أصحابه".. لقد كان صلح الحديبية فتحاً في موازين القوى والأعراف الإقليمية في زمانه.. ثم كان فتحاً أعطى المسلمين مشروعية إقليمية لقتال قريش إذا نقضوا العهد، وقد نقضوه..
لقد عقَّب المولى عز وجل على صلح الحديبية بآية عظيمة تصف السكينة التي تغشَّت الصحابة رضوان الله عليهم بعدما تبدلت عليهم أشد الحالات النفسية قسوة وإيلاماً.. "إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا" الفتح26..
فالسكينة السكينة يا شباب المسلمين.. فليست الحمية الجاهلية من صفات المؤمنين.. إننا أمام مشاهد سيرته صلى الله عليه وسلم نقف أمام الحركة بالإسلام في غير تفريط ولا غلو.. إنها حركة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام بالإسلام في الأرض.. ونحن إذ نريد أن نتأسَّى بسيرته صلى الله عليه وسلم في مواقفنا على الأرض، لابد لنا أن نحقق صفة المعيارية الخالدة.. فلا يجوز أن نجعل من نصوص الإسلام قراطيسَ نُبديها حيناً ونخفيها أحياناً.. فإذا كنا بصدد السِلم والدعوة إلى الصلح والموادعة ذكرنا صُلح الحديبية، وقوله تعالى"وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"الانفال61 .. ثم إذا استقر الرأي على القتال والمواجهة أبرزنا قوله تعالى "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه"الانفال39.. فهذا تلاعب بيّن بدين الله ونصوصه المحكمات.. حيث يقول العلماء في تفسير قوله تعالى: "فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ"محمد35: لا تدعوا إلى الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون أي في حال قوتكم وقدرتكم على الجهاد، أي: وإما إن كنتم في ضعف وعدم قوة فلا مانع من أن تدعوا إلى السلم أي الصلح والمهادنة، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي:
السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جرع
يا معشر الشباب ووقود الحراك والحركة اسألوا قادتكم وأساتذتكم الذين يدفعون بكم في أتون الحراك: هل أنتم الآن في حال قوتكم وقدرتكم على المواجهة؟ أم في حالة ضعف وعدم قوة؟.. وما هي علامات ودلائل موازين هذه القوى التي تصب في صالحكم؟ موازين القوى المحلية والإقليمية والعالمية؟ الإعلام الضعيف المهترئ؟.. أم حالة العزلة الاجتماعية والتشكك الشعبي الذي خُطط له بليل وعلى مهل؟.. هل تملكون رؤية إستراتيجية عنواناً للمرحلة: تواجهونهم ولا يواجهونكم؟.. أو تملكون جدولاً زمنياً لتصعيد الأحداث؟.. أو ترصدون الأثر التراكمي لتضحياتكم في الشارع؟! أو تستطيعون تحريك الشارع وتوجيهه نحو إضراب عام أو نحوه إذا دعت الضرورة؟.. أسألكم عن إحصاءات وأرقام ودلائل وعلامات ووقائع وتواريخ متوقعة بشكل مدروس ومخطط له.. لا أسألكم عن كلمات طيبات تتردد عن نصر وفرج قريب، ووعد هو حق في علم الله لكنَّ وعد الله يشترط الأسباب كما أخذ بها سيد البشر عليه الصلاة والسلام..
يا معشر الشباب لا أدعوكم إلى صلح وموادعة، ولا إلى تصعيد ومواجهة.. هذا أمر تحكمون عليه وتختارونه من واقع رصد المتغيرات على الأرض، وإجابة أسئلة الممكن والواقع.. ولكني من خلال هذا البحث أدعوكم إلى احترام قيم المعيارية لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولنصوص الإسلام، بحيث يتم تنزيل الحكم على الواقع.. فلا انتصرت الحركات ولا القوى بالشعارات الإيمانية الرنَّانة.. ولو كان الأمر كذلك، ما لجأ أعظم خلق الله إيماناً وثباتاً وهو النبي الأعظم إلى التفاوض والصلح استجابة لموازين القوى والأخذ بالأسباب، مع تمام التوكل على الله عز وجل.. ولو استجاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشعارات: "ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟.. أوَ لستَ رسول الله حقاً وصدقاً ؟ فعلام نعطي الدنية من ديننا".. لما أبرم صلحاً أعده الله تعالى فتحاً مبيناً..
ما أحوجنا إلى تدبر صلح الحديبية للاستفادة منه في واقع الحال مع التركيز على قضايا محورية هي:
1 – ليس كل دعوة إلى الصلح شكاً في الحق أو انتقاصاً منه، أو ضعفاً واستكانة، أو وهناً وخوَراً.. وإنما استجابة لضغط الواقع وموازين القوى على الأرض.. وقراءة المعطيات والمستجدات، ورؤية المستقبل، وحرث الأرض لمستقبل جديد بعيداً عن حالة الاستقطاب الدائم.
2 – احترام الأعراف الإقليمية والدولية التي رعاها النبي صلى الله عليه وسلم.
3 – عدم تطبيق القصاص على مجرمي الحرب في حال عدم القدرة عليهم، لأنه غير ممكن.. فلا يكلفنا الله تعالى بما لا نطيقه، ولا نحيطه..
4 – القياس على مواقف النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه من باب الاسترشاد في الحركة بالدعوة على الأرض.. مع اليقين التام بأن أطراف الصراع في أوطاننا ومجتمعاتنا المسلمة.. هي أطراف مسلمة.. ولا يمكننا بحال جعل فئة منهما –وإن بدت لنا أنها على الحق- في مقام النبي وصحابته.. ولا فئة أخرى –وإن بغت عليها- في مقام المشركين.. فإن بغي إحدى الطائفتين على الأخرى لم ينفِ عنها الإيمان في قوله تعالى: "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ"الحجرات9
5 – في قبول النبي صلى الله عليه وسلم التفاوض ومن ثم المصالحة مع المشركين من أجل المصلحة العليا تجعل الصلح بين فئتين من المسلمين أيسر وأأكد.. وفي ظروف الهدوء يبرز المجرم إلى حتفه..
وأخيراً أهتف بمقولة الحسن رضي الله عنه وأرضاه سبط النبي وحكيم الأمة وسيد شباب أهل الجنة: إنما كرهت أن أقتلكم على المُلك..
- عضو رابطة الادب الاسلامي العالمية
- عضو الهيئة الاستشارية للاتحاد العالمي للإبداع الفكري والادبي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.