لغة حية.. يقتلها أبناؤها..بالجهل، والتجاهل..وهذه أصوات من مختلف الأرجاء، ومنها منظمة اليونسكو، تحذر من أن العربية ستنقرض مع حوالي 3000 أخريات قبل نهاية القرن الحالي..وأصوات ترد: لا يمكن أن تنقرض، بدليل قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا...)، وكذا: ﴿إنّا نحن نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون﴾..التوجه الأخير، المستند إلى آيات بينات، يعتبر أن العربية لغة مقدسة، وبالتالي هي محفوظة.. لكن مفتي الديار المصرية، ما بين 2003 و2013، الشيخ علي جمعة، أفتى بعدم قدسية اللغة العربية.. وقال في مؤتمر بالقاهرة، عام 2007، نظمته اليونسكو، وشارك فيه حوالي 500 من علماء 19 دولة: إن القرآن الكريم لا يشتمل على جميع اللغة العربية من جذورٍ وتراكيبَ ومعانٍ، وإنما على نسبة ضئيلة منها (أقل من 30% من الجذور العربية) وأن تلك النسبة الصغيرة في سياقاتها ودلالاتها المحددة هي التي تستمد قدسيتها من القرآن الكريم، وأمّا غالبية اللغة العربية، فليست مقدّسة، ولهذا فهي عرضة للتغيير، وطبعاً للانقراض كذلك. هذا مضمون كلمة مفتي الديار المصرية.. و في نفس المؤتمر تحدث اللغوي السعودي أحمد محمد الضبيب، مفسرا الآية القرآنية ﴿إنّا نحن نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون﴾، فقال: إن الله سبحانه وتعالى لم يتعهّد بحفظ اللغة العربية أو ضمان بقائها، وإنما ضمن حفظ "الذِّكر" (وهو القرآن الكريم). ولهذا فإن اللغة العربية يمكن أن تنقرض ويبقى الذكر الحكيم بشريعته. وضرب مثلاً لذلك بانقراض اللغة العربية في إيران بعد أن كانت لغة البلاد الرسمية والثقافة فيها، وبقي القرآن الكريم في تلك البلاد. والمثل ينطبق على إسبانيا كذلك، فقد انقرضت اللغة العربية هناك وبقي ثمة مسلمون يهتدون بالقرآن. وهكذا يكون الشيخ المصري قد أفتى بعدم قدسية اللغة العربية.. واللغوي السعودي يرى أن الله لم يتعهد بحفظ اللغة العربية..وبطبيعة الحال، الرأي رأيهما، وما يهمنا هو أن نبحث سويا عن أفكار لإنقاذ العربية، لأن الخطر محدق فعلا بهذه اللغة التي مضى من عمرها حتى الآن حوالي 2000 سنة.. وخلال هذه المدة صمدت، وظلت وعاءا لخلق إبداعات، وحضارات.. كما تلقت رسالة السماء التي نزلت بأمر القراءة: اقرأ.. فهل عندنا منهجية لقراءة ما كتبه ويكتبه مبدعونا، وما يبدعه العالم؟ لماذا اختفت الترجمة من ساحاتنا؟ أليست الترجمة أساسية للاطلاع على ثقافات وتقنيات العصر؟ تقلصت القراءة، ومعها اختفت الترجمة..وشحت المكتبات.. وما زلنا نعيش على الأطلال.. أطلال حضارة الماضي التي تمت خلالها ترجمة الفلسفة اليونانية، فجرى بفضلها تنوير الفكر العالمي.. وما زال الغرب إلى الآن يتحدث بتقدير عن علمائنا الكبار.. بينما نحن أحرقنا كتب ابن رشد.. وهذه كانت من علامات الانهيار الحضاري.. فهل نحن الآن مستعدون لإصلاح ما أفسدته عصور غابرة؟ ولماذا يقرأ العالم بمستويات مرتفعة، ونحن من أقل الشعوب قراءة؟ من المسؤول عن اللاقراءة؟ هل في أقطارنا منهجية تعليمية لتشجيع القراءة؟ هل عندنا منهجية لنشر ثقافة القراءة؟ وأسئلة أخرى كثيرة.. والعربية تحاول الصمود.. وهي حاضرة في المنابر الأممية.. هي من اللغات الست المعتمدة في منظمة الأممالمتحدة.. ومن المفروض أن تكون دائما منطوقة مسموعة في منابر الأممالمتحدة.. فلماذا ما زال مندوبو الدول العربية يفضلون التكلم هناك بلغات أخرى غير العربية؟ لا جدال في كون اللغات الأخرى عالمية متألقة..ولكن عندما يتكلم المندوب الأمريكي بالإنجليزية، والإسباني بالإسبانية، والفرنسي بالفرنسية، والصيني بالصينية، والروسي بالروسية، من حقنا أن نتساءل: لماذا لا يتكلم العربي باللغة العربية؟ أليست لغة معتمدة في الأممالمتحدة؟ هذه من العيوب التي يقدمها العالم العربي عن نفسه إلى المنتظم الدولي.. خطاب يعلن به أننا لا نحترم العربية، حتى وهي لغتنا الرسمية.. ومن مندوبينا يفهم الغرب أن العرب يساهمون، هم أنفسهم، في تصفية العربية.. وهذا ما يفسر ناقوس الخطر الوارد إلينا من اليونسكو.. وإنه من العيوب الدبلوماسية للغة الضاد.. وتواكبه عيوب في سياسات داخلية، لأن الخطر عندما يهدد اللغة، فهو من خلالها يهدد الهوية الثقافية.. ومن عيوبنا الداخلية تجنب تطوير العربية.. وهذا ما لا يجعلها لغة التواصل الفعلي بين مختلف فئات المجتمع، في الأوساط السياسية والاقتصارية، وشوارع التجارة وغيرها، وبالتالي لغة محورية تلتقي فيها مختلف اللهجات..واللهجات تحيط كل لغة في العالم.. ولا أمة في العالم صنعت حضارة بدون لغتها الوطنية.. وهذه اللغة الأساسية يبدأ بناؤها من المرحلة الأولى للدراسة، وتستمر إلى الجامعة، فما بعد الجامعة.. وفي الحياة اليومية لجميع الناس.. وقد تكون للبلد لغات كثيرة، ولهجات، ولكن يتوجب تنمية لغة تواصلية أساسية لكل مكونات المجتمع.. هذا أساس بناء اللغة.. وأساس حماية اللغة من الاندثار.. فلغة يتكلم بها الناس، وتشتغل بها مراكز الأبحاث، والإدارات، والمتاجر، والمصانع، والمنتديات، هي لغة محمية من الآفات.. لغة تبقى نابضة في العلاقات.. وفي كل الحياة اليومية.. وتبقى لغة لا تموت.. فأين هي اللغة العربية من كل هذا؟ [email protected]