لأول مرة تقرّر مؤسسة علمية دينية في العالم الإسلامي أن تنخرط في نقاش معرفي (إبستمولوجي) يتعلق بتاريخ العلوم الدقيقة في الإسلام، والذي ظل محصوراً بين الخبراء المختصين في مجالات علوم الرياضيات والفلك والفيزياء ونحوها، أو المختصين في الفلسفة والإبستمولوجيا وتاريخ العلوم. بهذه الإشارة، اختتم إدريس نغش الجابري كلمته التي جاءت في مستهل المجلد الأول من هذا العمل النوعي الذي نحتفي به: نحن في ضيافة كتاب "تاريخ العلوم في الإسلام"، والصادر منذ بضع أسابيع عن مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، والتابع للرابطة المحمدية للعلماء. (جاء العمل في حوالي 800 صفحة، موزعة على مجلدين، الرباط، ط 1، 2014)، وإدريس نغش الجابري، هو مدير مركز ابن البنا المراكشي، وقد صدر له مؤخراً (منذ أسبوعين فقط، كتاب علي بن عبد الله محمد ابن هيدور التادلي الفاسي (توفي في 816ه/1413م)، ضمن سلسلة أعلام ونصوص (1) التي يُصدرها المركز. نعتقد أن مُجرّد صدور العمل طيلة هذه المدة، دون أن نقرأ أي إشارة حول الحدث، علامة فارقة على مكانة العلم والمعرفة في مجالنا التداولي، وخاصة مكانة العلوم الدقيقة. وعندما نأخذ بعين الاعتبار أن العمل صادر عن مؤسسة دينية من جهة (توجد في المغرب الأقصى بالتحديد)، وأنه لأول مرة تسهر مؤسسة دينية على تنظيم من جهة ثانية، فهذا لوحده حدث علمي يستحق التأمل والتنويه، اللهم إن كان متتبعي أداء هذه المؤسسات، يريدون منها أن تتخصّص فقط في إصدار الفتاوى والنوازل وتنظيم ندوات ومحاضرات أصابت العقل الإسلامي الجمعي بالتخمة في الكم، والتواضع في النوع. (في هذا السياق، يفتتح أحمد عبادي، أمين عام الرابطة المحمدية للعلماء، الكلمة الختامية لأشغال هذه الندوة العلمية بالعبارة التالية: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله الذي جعل أشغال هذه الندوة لا تنسلك في سلك المقولة الشائعة "أسمع جعجعة ولا أرى طحيناً، أو رحى تطحن قروناً". (المجلد الثاني، ص 667). مضامين العمل، إذاً، عبارة عن تجميع ندوة علمية دولية، نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء، الرباط، في غضون نهاية فبراير 2010، وتميزت بحضور بعض أعلام هذا العلم، في العالم بأسره، وليس في العالم الإسلامي وحسب، ويكفي أن نشير إلى أن العلامة رشدي راشد، كان ضمن الحضور، وقد كانت محاضرته أولى المحاضرات في أشغال هذا اللقاء العلمي المبارك، الذي تميّز أيضاً بمشاركة بناصر البُعزاتي من المغرب وتوبي هاف من الولاياتالمتحدة، ولائحة عريضة من المفكرين والباحثين المتخصّصين في هذا العلم النافع. (ليس صدفة، أن يكون ركن "شخصيات علمية"، في العدد الأول من مجلة "الدليل" التي يُصدرها مركز ابن البنا المراكشي، جاء مخصّصاً لرشدي راشد بقلم مدير المركز، إدريس نغش الجابري، في سياق تكريس ثقافة الاعتراف) [العدد الأول، يونيو 2013، الرباط، ص 127 ص 145]. تفرعت الندوة على أربعة محاور: 1 التوارث العلمي وانتقال العلوم بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارات المجاورة، وتفرع بدوره على مدارين: تاريخ العلوم في الإسلام: مصادر ومشكلات؛ قضايا في التوارث العلمي بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارات الأخرى، وتميز بمشاركة الأسماء التالية: رشدي راشد، محمود حمزة، محمد أبلاغ، توبي هاف، أحمد السري، عبد المالك بوزاري، ماهر عبد القادر محمد علي، فلوريال سناغوستان، كريمة الصالحي؛ 2 الإسهامات العلمية الإسلامية: أُسُسها وتجلياتها، وتفرع على مدارين: الإسهام العلمي الإسلامي في المجال الرياضي، والإسهام العلمي الإسلامي في علوم الطبيعة، وتميز بمشاركة الأسماء التالية: إدريس لمرابط، يوسف قرقور، وفاء عبد الرحمن النعسان، رولاند لافيت، محمد هشام النعسان، حامد عبد الرحيم عيد ومحمد باسل الطائي؛ 3 المفاهيم والمصطلحات العلمية في التراث العربي الإسلامي، وتفرع على مدارين: اللغة العلمية: نشأتها وتطورها؛ وظيفة المفاهيم في النصوص العلمية: نماذج خاصة، وتميز بمشاركة الأسماء التالية: نشأت الحمارنة، عبد المجيد نصير، بناصر البُعزاتي، وإدريس نغش الجابري؛ 4 نظام العلوم ودور المؤسسات، وتفرع على مدارين: تداخل العلوم وتكاملها؛ أبعاد مؤسسة وآفاق مستقبلية، وتميّز بمشاركة الأسماء التالية: فؤاد بن أحمد، عبد المنعم الشقيري، وخلدون ضياء الدين. ليس هيّناً تلخيص مُجمل مضامين هذا العمل، فنحن إزاء 23 بحثاً مقدماً للندوة الدولية، إضافة إلى أربعة مداخلات في سياق الاحتفاء بأهل الندوة (كلمة أحمد عبادي باسم الرابطة المحمدية للعلماء، وكلمة أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية التي احتضنت الندوة، ألقاها عبد اللطيف بربيش، وكلمة إدريس نغش، إضافة إلى الكلمة الختامية لأشغال الندوة)، لذلك ارتأينا في هذا العرض العابر العروج على مضامين بعض مداخلات الندوة التي جاءت فيها المداخلات باللغات الثلاث: العربية والفرنسية والإنجليزية. العناصر المُميزة للعلم العربي "العلم العربي وتجديد تاريخ العلوم" هو عنوان محاضرة رشدي راشد (من جامعة باريس 7 فرنسا)، واشتغل بداية على طرح الأسئلة المتعلقة ببداية دراسة تاريخ العلوم العربية: متى وأين؟ قبل أن يرتحل فيما بعد مع الكيفية التي تعامل بها المؤرخون مع الإسهام العلمي العربي، كما حاول استخراج العناصر المُميزة للعلم العربي في المرحلة الكلاسيكية، مبيّناً كيف أن البحث في تاريخ العلوم العربية يُجدد مجال تاريخ العلوم بصفة عامة، مستشهداً في الأخير على هذا التجديد بنماذج من الجبر والهندسة ونظرية الأعداد. [ص 37 ص 55] في ورقة محمود الحمزة (من معهد تاريخ العلوم والتكنولوجيا التابع لأكاديمية العلوم الروسية موسكو)، وجاءت تحت عنوان "دراسة المخطوطات الرياضية العربية والإسلامية في روسيا"، نأخذ علماً بأن دراسة المخطوطات العلمية في روسيا بدأت منذ حوالي 60 عاماً بالضبط وذلك مع نشر أول دراسة معمقة ليوشكيفيتش عن الجبر عند عمر الخيام (1948). ومن المعروف بأنه تأسست مدرسة كاملة سوفييتية لدراسة تاريخ الرياضيات العربية والإسلامية توزعت فروعها في مدينة موسكو ولينينغراد (سان بطرسبورغ حالياً) وقازان وطشقند وباكو ودوشنبيه وغيرها. كما عمل العشرات من المختصين السوفييت في اللغات والعلوم الدقيقة على ترجمة مخطوطات عربية نادرة محفوظة في مكتبات تلك المدن في الرياضيات والفيزياء والطب والفلك والهندسة والصيدلة وغيرها. (تم التركيز في روسيا على دراسة الرياضيات في المشرق العربي دون أي اهتمام برياضيات المغرب العربي والأندلس لأسباب تتعلق قبل كل شيء بندرة المخطوطات المغاربية والأندلسية في المكتبات الروسية). توقف الباحث مليّاً عند المسيرة العلمية للمستعربة الروسية الشهيرة غالينا ماتفييفسكايا (1930) كنموذج ساطع على دور المستعربين الروس في إحياء التراث العلمي العربي والإسلامي في القرون الوسطى، حيث عملت ماتفييفسكايا مدة 30 عاماً على/ في ترجمة ودراسة المخطوطات العلمية العربية والإسلامية ونشرت مئات الدراسات والبحوث العلمية المعمقة. [ص 57 ص 80] الحقائق المزعجة لتوبي هاف "قضايا في التوارث العلمي بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى" هو عنوان محاضرة توبي هاف (Toby E. Huff) ونتحدث عن الدراسة التي تثير العديد من الأسئلة أخذاً بعين الاعتبار مقتضيات المُسلّمة التي انطلق منها المحاضر، رداً على ما يصفه "زعم بعض العلماء أن هناك إسهاماً عربياً إسلامياً لا يمكن الغفلة عنه في بعض المسالك التي مهدت الطريق نحو الثورة الكوبرنيكية والميكانيكا الجديدة التي تفرد نيوتن بتحويلها إلى فيزياء فلكية وأرضية متداخلة"، مفترضاً أن "جميع مكونات ثورة نيوتن هي إما أوروبية أو يونانية، وأنه لا يوجد إسهام كبير للمصادر العربية الإسلامية فيها. [ص 12 ص 30 بالإنجليزية، في المجلد الثاني، مع ترجمة لملخص الدراسة في ص 111 من المجلد الأول]. سبق للقارئ العربي أن اطلع على بعض أعمال توبي هاف، ونخصُّ بالذكر كتابه "فجر العلم الحديث: الإسلام الصين الغرب" (صدرت ترجمة للعمل عن سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية، وترجم العمل محمد عصفور، الطبعة الثانية، غشت 2000، عدد 260)، وقد نشر مركز ابن البنا المراكشي، قراءة في هذا العمل، كما نطلع على ذلك في العدد الأول من مجلة المركز، فصلية "الدليل" سالفة الذكر، ونقرأ في خلاصة القراءة، أن المؤلف [توبي هاف] "حاول الكشف عن بعض المعوقات السوسيوثقافية والمؤسساتية والعقدية التي كانت سبباً في إخفاق العالم الإسلامي في تحقيق الثورة العلمية التي كانت من نصيب العالم الغربي الحديث، ونذكر من بين هذه الأسباب: سيادة تصور ديني لنظام العالم الطبيعي؛ غياب بنية مجتمعية منفتحة على العلم ومؤيدة له؛ سيطرة النظرة الذرائعية، فقدان النظرة العقلانية إلى الإنسان والطبيعة؛ سيادة الطابع الشخصي في التعليم الرسمي وفي النشاط العلمي على حد سواء". (أنظر العرض الذي حرره الباحث محمد أمين السقال، في فصلية "الدليل"، العدد 1، يونيو 2013، ص 150 ص 160). أحمد علي السري (جامعة الإمارات العربية المتحدة) اشتغل على حنين ابن إسحاق في كتابات ألمانية، ومعلوم أن حنين ابن اسحاق يُعدّ حجر الأساس في حركة الترجمة من الإغريقية إلى العربية، وهي الترجمة التي نقلت العلوم البحتة والفلسفة إلى المجال العربي الإسلامي، وبفضلها بدأ العقل العربي الإسلامي أكثر عملياته العقلية حضورا في الحضارة الإنسانية فاستوعب وصوب وأضاف. [ص 113 ص 156] كما اشتغل ماهر عبد القادر علي (كلية الآداب، القاهرة) على أثر الإسهام الإسلامي في علوم الطب في أوروبا، من خلال كتاب القانون في الطب لابن سينا، منطلقاً من مُعطى مؤرق هو الآخر، مفاده أنه لم يفكر أي باحث عربي على امتداد سنوات طويلة في تحقيق كتاب القانون في الطب لابن سينا (370ه) تحقيقاً علمياً، (الأمر الذي جعل المحاضر يعكف على تحقيقه منذ سنوات إلى أن انتهى من تحقيقه في العام 2008)، وهى مسألة تدعو إلى النظر والدهشة، خاصة وأن كتاب القانون في الطب هو أكبر موسوعة طبية في العصور الوسطى زودت الأطباء، في الشرق والغرب على السواء، بزاد معرفي وعلاجي وجراحي وتشريحي لم يتوافر لعالِم أو طبيب من قبل. [ص 159 ص 211] انتقال المعرفة في الحضارة العربية الإسلامية "انتقال المعرفة في الحضارة العربية الإسلامية الكلاسيكية: حالة مفتاح الطب ومنهاج الطلاب لابن هندو" هو محور دراسة فلوريال سناغوستان (Floréal SANAGUSTIN)، من جامعة ليون 2، فرنسا، واشتغلت على كتاب "مفتاح الطب ومنهاج الطلاب" لابن هندو، المنطقي والطبيب الذي عاش في القرن الرابع الهجري/الحادي عشر الميلادي. مشروع هذا الكتاب الذي بمثابة مقدمة في فن الطب هو تكوين الطلاب على طريقة عقلية، مبنية على أساس المنطق، وجعلهم يكتسبون، عبر مسار تدريجي، معرفة مهيكلة تمكنهم من الابتعاد عن الممارسة التجريبية البحتة، وخلُصت الدراسة إلى أن هذه المعرفة تطمح إلى أن تكون كونية، ما دامت تصل الوسائل الطبية بالعناصر المنطقية والفلسفية. [ص 51 ص 70 من المجلد الثاني، مع ترجمة لملخص الدراسة في ص 213 من المجلد الأول] بالنسبة ليوسف قرقور (المدرسة العليا للأساتذة، القبة، الجزائر)، فقد حاضر في الإنتاج الرياضي بالغرب الإسلامي من خلال الأعمال الرياضية لابن قنفذ القسنطيني (810/1407)، معتمداً على أبرز المصادر الببليوغرافية التي اهتمت بالأندلس. كما توقف عند أهم الإسهامات الأصيلة في ميدان الرياضيات بصفة عامة، والهندسة الأقليدية بصفة خاصة بالأندلس والمغرب ابتداءً من القرن 4ه/10 ميلادي، سيما أعمال الملك الرياضي المؤتمن بن هود ملك سرقسطة. واختتم الدراسة بالتطرق إلى الإنتاج الرياضي بالمغرب العربي، من خلال أعمال ابن البنا المراكشي (ت. 721ه/1321م). [ص 223 ص 261] نأتي لمداخلة رولاند لافيت (فرنسا) والذي حاضر في موضوع: "الصور السماوية العربية والمعرفة التقليدية بالنجوم: كنز ينبغي تقاسمه" (The Arab celestial figures and starlore, a treasure to be shared) وينطلق من مفارقة صادمة لمجالنا التداولي: رغم أن ثلثي الأسماء الشائعة الخاصة بالنجوم في "كتالوجات" النجوم في أنحاء العالم هي في الأصل باللغة العربية، فإن التراث غير المادي والغني جداً الذي جاءت منه هذه الأسماء غير معروف إلى حد كبير. ووجه لافيت الدعوة للمعنيين بضرورة إعطاء أهمية للمعرفة التقليدية بالنجوم عند جمهور العالم العربي. ولكن يجب جمعها، واقتناصها ليس فقط من الأدب الكلاسيكي ولكن أيضاً من الأدب الشعبي والذاكرة الشفوية، ولاسيما ذاكرة البحارة والمزارعين البدو الذين يمارسون المعرفة بالنجوم التي تختفي بسرعة، ثم أيضاً في التقاليد الحضرية: في الأغاني، وما إلى ذلك، معتبراً أن مثل هذه الجهود يمكن أن تؤدي إلى تصحيح الخلل الصارخ القائم اليوم، بين مفهومنا عن أهمية التراث العربي، وبين إعطائه المساحة الكاملة التي يستحقها في هذا المجال. [ص 71 ص 88، مع ترجمة لملخص الدراسة في ص 291 و292 من الجزء الأول] خصوبة المفاهيم للبُعزاتي واستعرض بناصر البُعزاتي (أستاذ الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم بجامعة محمد الخامس، الرباط) معالم مفهوم "الاعتبار" لدى ابن الهيثم، والاشتغال على المفاهيم، من اختصاص هذه القامة العلمية التي تشتغل في الهامش، وبعيداً عن الأضواء، ويُعتبر البُعزاتي أحد أعمدة هذا الحقل العلمي، وأبرز فرسانه المشهود لهم بوفرة الإنتاج العلمي، مع رصانة في القول، ودقة في النظر. برأي صاحب "خصوبة المفاهيم في بناء المعرفة" [دار الأمان الرباط، 2007]، فقد أصبح مفهوم "الاعتبار" لدى ابن الهيثم (354-432/965-1040) يُشكل علامة مركزية في تطور المنهج العلمي؛ إذ استعمله ابن الهيثم بكثرة، خصوصاً في كتابه المناظر، وبصورة أقل في كتاباته الأخرى. ويرد هذا المفهوم في صيغ الفعل والمصدر مرتبطاً بمفاهيم أخرى يتلاحم معها، ليشكل المجموع ترسانة مفهومية تعبّر عن مدى غنى النظر الهيثمي في العلم التجريبي؛ منها الاستقراء (بكثرة) والاستدلال والقياس،... من رصد الاستعمال الهيثمي لمفهوم "الاعتبار"، ومن خلال تتبّع التجديد الهيثمي في البصريات والفلك، حاول إبراز المحتوى الدلالي للمفهوم وقيمته الإبستمولُوجية وارتباطه العضوي بآليات الاستدلال لدى أبي علي، خاصة أن هذا المفهوم قريب مما يُسَمى اليوم بالتجريب، لكنه أيضاً متعلق بالبرهنة والاختبار اللذين يطمحان إلى التحقق من الفرضيات في الفاعلية النقدية للعلم. [ص 436 ص 462]. مفهوم "الاعتبار"، يضيف البُعزاتي، ذو جذور تاريخية لدى العلماء السابقين، قدماء مثل بطلميوس وجالينوس، ومتأخرين مثل القوهي وابن عيسى؛ لكنه أصبح ذا حمولة دلالية واستعمال منهجي غني وخصب في سياق العمل التركيبي والنقدي الهيثمي. (عندما يأخذ المتتبع عِلماً بالزمن الذي استغرقه هذا العالِم الفذ من أجل تحرير هذه الدراسة، سوف يشعر بالكثير من الحياء، ويتعلم الكثير من التواضع، قبل أن يُفكر في تحرير دراسات أو إصدار مؤلفات). نُنهي العرض المتواضع ببعض ما جاء في دراسة مدير مركز ابن البنا المراكشي، إدريس نغش، والذي شارك بمبحث "مفهوم الشكوك في التراث العلمي العربي: مرجعيته الثقافية وقيمته الإبستمولوجية"، واجتهد في الإجابة على سؤالين اثنين: الأول: كيف تم تداول مصطلح الشك في المرجعية الإسلامية؟ وهو سؤال مشكل يتعلق بشرعية الشكوك، وذلك بالنظر إلى وجود نصوص قدحية لهذا المصطلح في نصوص الوحي إلى جانب نصوص مدحية، مما يستدعي دراسة مصطلحية لهذا اللفظ في النصوص الإسلامية المبكرة، لعلها تفسر اندفاع الفكر العلمي الإسلامي إلى التأليف في هذا الموضوع بوفرة ملحوظة، وتبني الوجه الإيجابي لدلالة اللفظ وممارسته، حتى صار عند العلماء ضرورة علمية، وفضيلة شرعية، لأنه دليل حصول الاجتهاد في العلم، ولأنه يسمح بممارسة فضيلة التصحيح في العلم؛ الثاني: ما هي القيمة الإبستمولوجية لظاهرة الشكوك في المجال العلمي الإسلامي؟ وهو سؤال مهم يتعلق بوظيفة الشكوك، وذلك بالنظر إلى أنه يتضمن إقراراً باحتمال الخطأ والوقوع فيه، ولذلك فممارسة الردود والنقود والشكوك على نظرية علمية ما قد يُفقدها في لحظة ما من الزمن خاصية اليقين أو الصواب، ولكنه لا يحرمها من شرف الانتماء إلى تاريخ العلم. وبَيّنَ نغش الجابري من خلال دراسة للمصطلح عند الرازي وابن الهيثم، أن الفكر العلمي الإسلامي أدرك مفهوم التراكم والخطأ في تاريخ العلم، كما أدرك مفهوم العائق المعرفي بأنواعه الذاتية والموضوعية. وكلها مفاهيم إبستمولوجية صميمية. [ص 463 ص 535، وجاءت في المجلد الثاني] هنيئاً لنا جميعاً بهذا العمل.