الذهب يستقر في هذا المستوى    استئناف المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا وموسكو لا تستبعد التواصل مع واشنطن بشأن اقتراح الهدنة    توقعات أحوال الطقس لليوم الأربعاء    انهيار منزل بحي العكاري يخلّف حالة من الهلع ووفاة سيدة    كيوسك الأربعاء | انتعاش متفاوت لسدود المغرب.. بعض الأحواض تجاوزت 50 %    هل سيكون مبابي حاضرا في المباراة الحاسمة أمام أتلتيكو؟    مرتيل.. ضبط مستودع مليء بمواد غذائية فاسدة ومنتهية الصلاحية    الأسلحة والمعادن ‬وإنهاء ‬نفقات ‬المينورسو‮!‬ (‬(3    موتسيبي رئيسا لولاية ثانية للاتحاد الإفريقي لكرة القدم لولاية ثانية    أطعمة يفضل الابتعاد عنها في السحور لصيام صحي    أمن تطوان يجهض عملية تهريب 17 ألف قرص مخدر ويوقف أربعة متورطين    الصين: ارتفاع في إنتاج ومبيعات السيارات في فبراير 2025    مفتي تونس: عيد الأضحى سُنة مؤكدة ولا يمكن إلغاؤه    أمن ميناء الناظور يحبط محاولة تهريب 26 كيلوغراما من المخدرات كانت متجهة صوب أوربا    دعم إفريقي لترشيح السيدة بوعياش لرئاسة التحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان    سان جرمان يتأهل إلى الربع بفوزه على ليفربول بركلات الترجيح    باريس سان جيرمان يقصي ليفربول بركلات الترجيح ويتأهل لربع نهائي دوري الأبطال    الملك يزور ضريح جده محمد الخامس    زلزال إداري يهز قطاع التربية الوطنية بعد إعفاء 16 مديرا إقليميا    انطلاق مسابقات تجويد القرآن الكريم في إطار رمضانيات طنجة الكبرى    تصوير الأنشطة الملكية.. ضعف الأداء يسيء للصورة والمقام    أمطار الخير ترفع مخزون سدود الحوض المائي لأم الربيع إلى 84.5 مليون متر مكعب    الحقائق تنتصر والشائعات تتلاشى    الشرقاوي: وكالة بيت المال القدس الشريف نفذت أزيد من 200 مشروعا كبيرا لفائدة المقدسيين منذ إحداثها    إسرائيل تقترح تمديد وقف إطلاق النار بغزة 60 يوما    وهبي يقْسِم أنه لن يعدل المادة 3 من المسطرة الجنائية للتبليغ عن الفساد    رئيس الحكومة يترأس اجتماعا لتتبع تنزيل ورش الارتقاء بالمنظومة الصحية    اتفاقية شراكة بين وزارة التجارة والصناعة و"التجاري وفا بنك" لتعزيز رقمنة التجار    أنفوغرافيك | المغرب ومؤشر القوة الناعمة العالمية لعام 2025    دوري أبطال أوروبا لكرة القدم.. برشلونة أول المتأهلين إلى ربع النهائي بفوزه على بنفيكا    إجراءات وهبي تثير الجدل.. الغلوسي: إعلان غير مباشر عن "حالة استثناء" في المغرب    مغرب الحضارة الضرورة التاريخية : شركات عمومية للأمن الغذائي    موكوينا يدخل في صراع مع جماهير الوداد    أوكرانيا تقبل مقترح أمريكي بشأن هدنة لمدة 30 يومًا    أمطار الخير ترفع مخزون سدود الحوض المائي لأم الربيع إلى 84.5 مليون متر مكعب    فيديو: أمير المؤمنين الملك محمد السادس يترحم على روح المغفور له الملك محمد الخامس    جائزة القيادة في النوع الاجتماعي: البنك الدولي يكرم لُبنى غالب، عضو مجلس إدارة مجموعة طنجة المتوسط    الأداء السلبي ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    الناصيري ينفي الإساءة إلى حجيب    تلوث الهواء يطال 14 مدينة هندية    الشابي يشيد بقتالية الرجاء بعد الفوز على النادي المكناسي    صيدلاني يشجع الشك في "الوعود الدعائية" للعقاقير الطبية    علماء: الإكثار من الدهون والسكريات يهدد المواليد بالتوحد    بنكيران .. القرار الملكي لا يدخل ضمن الأمور الدينية وإنما رفع للحرج    المسرح يضيء ليالي الناظور بعرض مميز لمسرحية "الرابوز"    فتح باب الترشيح للاستفادة من دعم مشاريع النشر والكتاب هذا العام    كيف يؤثر الصيام في رمضان على الصحة ويحسنها؟    تناول السمك يتيح تطور الشخصية الاجتماعية عند الأطفال    حتى ‬لا ‬تبقى ‬الخطة ‬العربية ‬الإسلامية ‬لإعمار ‬غزة ‬معطلة ‬    تنظيم الملتقى الأول ل''رمضانيات السماع و المديح للجديدة    الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.. من الشعارات الانتخابية إلى محكّ السلطة    ‬"وترة" يدخل دور العرض بعد رمضان    شخصيات عربية وإفريقية وأوروبية بارزة تنعى الراحل محمدا بن عيسى    برعاية إبراهيم دياز .. أورنج المغرب تطلق برنامج Orange Koora Talents    ملخص كتاب الإرث الرقمي -مقاربة تشريعي قضائية فقهية- للدكتور جمال الخمار    "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ..؟" !!(1)    الأمازِيغ أخْوالٌ لأئِمّة أهْلِ البيْت    القول الفصل فيما يقال في عقوبة الإعدام عقلا وشرعا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البُرقع ودائرة المعتوهين
نشر في هسبريس يوم 07 - 11 - 2014

تتوسع مساحة الخِمار داخل الفضاء العمومي الفرنسي والأوروبي. يتسم، بكونه يثير ويؤثر حتى على الليبراليين، ذوي الثقافة التعددية الأنجلوساكسونية. هذا، الإخفاء للوجه، يرعب. معيار، هوية حقيقية، يتلاشى. كيف، نحترم طهارة الجسد ؟ ألم يحتم التوسع القديم لقانون "امتلاكك جسدك" L'habeas corpus، وجها وجسدا ظاهرين، تسهل معرفتهما من خلال تناسب للاسم والوجه، ثم تشتغل دون التباس الوضعية المدنية، وكذا العقد الديمقراطي ؟
إخفاء الهيئة، يحجب نور الوجه، مجال التجلي الرباني، الملهم للعقل والقلب في الإسلام. لقد، تمثّل المتصوفة دليل الإلهي، في معجزة الحضور الإنساني، خاصة عندما يزينه الجمال النسائي. حيث؛ نرتقي ثانية من وجه إلى وجه، فالمرئي واللا-مرئي، ثم الإنساني والإلهي، حسب الحديث النبوي (استعادة للتوراة) الذي يقول بأن الإنسان جاء وفق صورة الله...، هكذا فخلود الوجه الإلهي باعتباره مطلقا، يعكس أثره على المرتكز الذي ينزع إليه كل وجه إنساني.
حجب الوجه بقماش أسود، يشبه الكساء الذي يلف الكعبة (يسمى أيضا بُرقع)، يلغي عن الإنساني ذلك الوضوح، كما يقتضيه السياسي والجمالي مثل الإتيقا والميتافيزيقا. قناع، ينتفي معه الوجه، يغيّب إشراقات الغيرية التي تناولها إيمانويل ليفيناس ، ثم نلتقط أصولها طيلة عشرة قرون من التقليد الإسلامي، وهو يتأمل المواجهة الصريحة مع الإلهي، حيث يتحقق التميز الإنساني.
ستنسحب الهيأة المحتجبة، من الدائرة الحضرية وكذا العلاقة البين ذاتية أو الروحية. نفي للوجه، الذي هو أيضا حسب ليفيناس Levinas "موضع انفتاح إيتيقي لا نهائي". النقاب، أو البُرقع باعتباره امتدادا للحجاب، يشكل جريمة تطمس الوجه، وتسد المنفذ الدائم نحو الآخر. قطعة ثوب، تحول النساء إلى سجن أو تابوت متحرك ينبت في قلب مدننا مجموعة أشباح تعيق اختراق المرئي إلى الحقائق اللامرئية.
مُنع أخيرا، ارتداء النقاب، داخل الفضاءات المدرسية والجامعية لمؤسسة الأزهر المتواجدة بالقاهرة، أعلى هيئة سنية. وقد، ذكر رئيسها السيد الطنطاوي، بأن النقاب ليس إلزاما إلهيا "فريضة" ولا ممارسة ثقافية "بدعة"، بل عادة. أما، علي جمعة مفتي مصر، فقد أكد هاته الحقيقة قائلا: يتعلق الأمر بعرف عربي، غير إسلامي، وبأن الإسلام يمكنه إبطاله.
دلائل إسلامية، يمكننا توظيفها إذا أقرت اللجنة البرلمانية، قانونا تمنع بموجبه تماما ارتداء الحجاب. لن، أستحضر هنا، صعوبات تطبيق قاعدة كهاته، بل سأحاول فقط تقديم إجابة على اعتراضات الحقوقيين، حينما يستندون إلى واجب الحرية الفردية وكذا احترام تصرف المرء في جسده كما يرتضي. مبرّر، يتمسك به أصحاب البُرقع سواء في فرنسا أو مصر. يبدو لي، من اللائق أن لا نتخلى عن هذه الفكرة، كما يصنع الحقوقيون حينما يلتمسون عدم الالتفات إلى هذا المبدأ، والاحتماء بالكرامة ثم خاصة المساواة، باعتبارهما عمليان أيضا قانونيا.
بالنسبة للحرية، أريد استعادة تعريف ظريف للديموقراطية، ورد عند الأمريكي "مارك توين" Marc Twain. فهي، تنهض على ثلاثة عوامل : ((حرية التعبير، حرية الوعي، ثم الحرص على عدم الإساءة للأولى أو الثانية)). أفسر، هذا الاحتراس مع "إيريك فوجلان" Eric Voegelin، باعتباره حكمة في التمتع بالحقوق وفق شروط. وألحّ مع نفس الباحث السياسي الجرماني الأمريكي، عن الكياسة الضرورية من أجل تشغيل مجتمعاتنا : ((كل من له فكرة ثابتة يتوخى فرضها، أي جميع من يبتغي تفسير حرية التعبير والوعي، في أفق أن يخضع المجتمع لما يعتقده جيد، فإنه يفتقد لتلك الصفات الضرورية التي تجعل منه مواطنا ديموقراطيا)). إشكالية، كهاته سبق لأرسطو معالجتها، بناء على الانشقاق المُنظّم سياسيا)الأزمة التي تحدث نزاعا( ، إذا تشبثت برأيي، فإن تصدّعا ثانيا يمكنه التأسّس، ذلك جوابنا على الحرية الفردية كما يدعيها أنصارالخِمار.
بخصوص كرامة المرأة ومساواتها، فالبُرقع يسيء إليهما حتما. لقد تبلور هذا الأخير، انطلاقا من الحجاب، ثم عمل على تجذيره، بالتالي لا تختلف طبيعتهما، بل يتحدّد التمايز في درجاتهما، التي هي قبل ذلك تحقير للمساواة والكرامة المشتركتان بين جميع الأجناس. منذ نهاية القرن التاسع عشر، امتدح الإصلاحيون الإسلاميون عدم ارتداء النساء للحجاب، ودافعوا عن موقفهم بناء على ثلاثة مبادئ : الحرية، المساواة والكرامة.
تجلى المسّ بالمساواة في الآية القرآنية، والتي شكلت إحدى مرجعيات الكتاب المقدس، لتأصيل مبدأ الحجاب : الآية 31 (السورة 24)، مؤسسة للا-تماثل أضر بالنساء، الملتصقة بهن خاصية الإغواء والرغبة، مما يقود إلى الفتنة. تدعو هذه المتوالية، للفضيلة والحشمة، تتوجه بخطابها إلى "المؤمنين والمؤمنات"، وتحثهم على : ((أن يغضوا البصر))و ((صيانة جنسهم)). لكنها أضافت، مسألة الاحتراس من النساء (من هنا اللاتماثل)، إقرار يوظفه الفقهاء كي يأمروا بارتداء الحجاب. كذلك، أوّلت الآية بشكل آخر، حيث الحشمة تقتضي من النساء الاقتصار على إخفاء وحجب نصفهن الأعلى.قراءة، الثيولوجيين التوفيقية، تكشف عن الحالة الأنثروبولوجية البطريركية، التي تسند إلى النساء صفة إغواء تنتهي بالفتنة.
والحال، أنه لا شيء في الحقل النفسي أو الاقتصاد الجنسي، يبرر إسناد هاته الخاصية إلى النساء، بل ولم تبرهن البيولوجيا ولا التحليل النفسي، على حقيقة اختلافهن الجنسي. يتعلق الأمر هنا، برؤية ذكورية تجاوزها التطور الأنثروبولوجي للمجتمعات المعاصرة، يؤطره حق يشدد على المساواة والكرامة، المشتركتان بين البشر دون تمييز للجنس.
قبل الوصول إلى البُرقع، ينبغي موضعة الإقرار بالحجاب داخل مجتمع يبغض النساء وينبني على الفصل بين الأجناس، انطلاقا من تراتبية تنظر إلى النساء باعتبارهن مثيرات للشهوة أكثر من الرجال. يجب، أن نلاحظ بداية، بأن الأمر الذي فرض الحجاب على النساء، انبعث من واقع نشأة الإسلام منذ خمسة عشر قرنا. مجتمع عشائري - يحث على زواج الأقارب- حيث الهوس بسلالة النسب، وعدم انفصال الجنسانية عن الأخير.
الدليل، هو أن النساء اللواتي انقطع عنهن الطمث، اعتبرن غير ملزمات بالخضوع لتعليمات المقطع القرآني الثاني، الذي وظفه الثيولوجيون، قصد تأسيس الدعوة إلى الحجاب.
يعمّق البُرقع، انشغال الرجل بعدم ضبط حرية المرأة وهاجس عجزه عن توثيق نواة ذريته التي سينتقل بواسطتها الاسم والثروة. غير، أن البنية الأنثروبولوجية التي شكلت روافد للحجاب، تجوزت كليا نتيجة تعميم وسائل منع الحمل، وتوضح معها فعليا الجنس والنسب ثم المتعة والنسب. بالتماس المتعة وحدها،تنتظم أنطولوجياالحرية والمساواة بين الأجناس، الذين يلتقون عند الكرامة ذاتها. هاته الوضعية، تنعكس على صرح النظام القانوني، ثم تموقع وضعية الإنسانية المعاصرة، بعيدا عن التقاليد القديمة التي تواصل نسج خطابها حول الإسلام بطريقة تثير الجدل.
كذلك تستلزم إشكالية البُرقع تأملها انطلاقا من جانبين. يرى الأول، مواجهة مجتمع بقي مشدودا إلى التعبد، ومجتمع آخر انتقل من التعبد إلى الثقافة. مجتمعنا، يقارب التعبدي مثلما يفعل مع الثقافي. ثم، حينما يحس بتجمد للفكر داخله، قد يركض نحو التعبدي القائم في أطرافه، داخل فضاء يرسمه المنزل أو المعبد. وحينما يموضعه في المركز، فإنه يوظفه عبر تعددية أشكاله مستبقا كل نزوع استثنائي.
أيضا، مع البُرقع، نجابه استراتيجية للتدمير البطيء، وفيما وراء حالات نادرة تظهر انتسابا دينيا صارما، لا يجب أن يغيب عن بالنا، أن إسلاميين وكذا سلفيين تقاة يطبقون وصايا المجلس الأوروبي المتعلقة بالفتوى. بناء عليه، ينبغي على المناضلين العمل من أجل تفعيل المساواة، كي يحصلوا داخل أوروبا على صفقات تخدم التشريع الإسلامي.
هو إذن، الجهاز القانوني المدني، من يستهدفه البُرقع خفية. كما، لو أن راديكاليته قد تجعل الحجاب مستساغا ومقبولا أكثر، علينا الانتباه كي لا يأخذنا هذا الفخ. يجب، أن نرى، إذا كان ضروريا الإجابة بقاعدة أو تكفي تعبئة مصادر القانون الموجودة سلفا، قصد التصدي لهجوماته المتكررة.
سجال، يفرض علينا تراجعا قياسا لما وصلت إليه الإنسانية. النزاع، بخصوص نفس الموضوع كما حدث في مصر، يُختزل إلى جدال بلهاء. ماذا؟ لأنه يستعيد مواد لاهوتية تهم زمانا آخر هو العصر الوسيط كان على مستوى الفقه الإسلامي أكثر إقناعا من القانون الكنسي، غيرأنه اليوم يخدم تقليدا متجمّدا، يشلّ الإبداع ويعطل التكيف مع تطور العادات.
فلا نوسع، أبدا من باب المحاباة، دائرة المعتوهين.
ترجمة : سعيد بوخليط
*ولد الكاتب والشاعر عبد الوهاب المؤدب، سنة 1946 بتونس (توفي يوم 6 نونبر 2014). شغل منصب أستاذ للأدب المقارن بجامعة "باريس 10". كما نشط برنامج "ثقافات الإسلام" على أمواج قناة "France culture". صاحب مؤلفات عديدة، من بينها :
La maladie de l'islam (Seuil, 2002).
Contre –prêches (seuil, 2006).
Pari de civilisation (seuil, 2009).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.