عندما نُشاهد التطورات بتونس، ونعاين المشهد السياسي نكاد نجزم أن بلاد ثورة الياسمين تعيش تجربة ديمقراطية فريدة من نوعها، تستحق التأمل والدراسة. مرت أربع سنوات الآن على خلع الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، وبعد هذا التحول الهام في تاريخ تونس استطاعت هذه الدولة الصغيرة أن تتبوأ مكانة تجعلها من أفضل البلدان العربية بعد موجة "الربيع"، حيث أنها تجنبت الاستقطاب بين الإسلاميين والعلمانيين، من خلال المسارعة إلى تكوين تحالف "الترويكا" الذي ضم حركة "النهضة" وحزب "المؤتمر من أجل الجمهورية"؛ وذلك بعد إجراء أول انتخابات ديمقراطية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يوم 23 أكتوبر 2011، 89 مقعدا في المجلس التأسيسي لصالح حركة "النهضة الإسلامية" (أغلبية مريحة) أي ما يقارب 41%، و 29 مقعدا لصالح حزب المؤتمر من أجل الجمهورية العلماني أي ما يقارب 13%. إيمانا بمبدأ إعطاء كل ذي حق حقه، لم يختلف دعاة العلمانية بتونس عن الإسلاميين، حيث وضع كلا الفريقين مصلحة الوطن صوب أعينهم مستحضرين بذلك روح المواطنة واستشراف المستقبل. هذه هي العناصر التي كونت الخلطة السحرية لاستقرار تونس، عناصر جوهرية ساهمت في إيصال سفينة الوطن إلى بر الأمان. فكل طرف رغم اختلاف إيديولوجيته ، تمكن من التجرد من الحسابات السياسوية والحزبية الضيقة، وركز على المستقبل وإرساء أسس الديمقراطية والحرية حتى تتجاوز تونس الحرة مرحلة حرجة، والمتعلقة أساسا بما بعد الثورة التي غالبا ما تحمل ما بين طياتها هزات ارتدادية خطيرة تقلب مجرى الأمور. يعود فضل الاستقرار الذي تعرفه تونس إلى الشعب التونسي الذي قد يختلف عن الشعوب العربية عموما، فلا أحد ينكر أن المواطن التونسي أظهر منذ الأمد و خلال هذه السنوات مستوى عالي جدا من الرقي والوعي الحضاري ووطنية منقطعة النظير جنبت وطنهم وموطنهم أزمات واضطرابات كادت أن تجهض أحلامهم، حلم الحرية والاستقرار. ولأن لكل بلد حكماء يبصمون التاريخ ببصمات ذهبية، فشخصية زعيم النهضة راشد الغنوشي أسهمت إلى حد كبير في استقرار تونس بعد مرحلة " الربيع العربي"، الذي كان يردد في كل مناسبة عبارته الشهيرة "تونس أولا، والنهضة ثانيا"، جميع المؤشرات تبين أنه نجح بالفعل في ذلك واليوم يقطف المواطن التونسي الثمار. وكيف لا ينجح وهو الذي صرح أمام الملأ للمجتمع الدولي خلال مشاركته بالمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، حيث قال"كان لدينا خياران، إما أن نبقى في السلطة ونخسر الديمقراطية أو أن نكسب الديمقراطية ونتخلى عن السلطة"، موضحا كيف تنحت الحكومة بقيادة "النهضة"، لصالح حكومة تقنوقراطية يرأسها مناضل كبير وحكيم من طينة منصف المرزوقي، وذلك من أجل مصلحة تونس لا غير، نعم هذه هي الديمقراطية التونسية حيث التنازلات المؤلمة من أجل مصلحة الوطن والمواطنين. هذا السلوك الاستثنائي ينم عن حكمة وتبصر زعيم مثل رشيد الغنوشي، مما يؤكد أن القيادات المحلية هي مفتاح الاستقرار والتطور والتنمية. في خضم التجربة الديمقراطية التونسية لا بد من استحضار الوثيقة الدستورية، والتي تعتبر من أكثر الدساتير تطورا في العالم العربي، فهو دستور منعش للآمال يؤسس دولة مدنية حاضنة لحرية التعبير واستقلال القضاء، ويؤسس كذلك لبناء ديمقراطية تدعم الحقوق والحريات، ويمنح حقوقا متساوية للنساء والأقليات، ولقد تمت الموافقة عليه بصورة واسعة من قبل أغلبية الإسلاميين. لحدود الساعة حصد "نداء تونس" حوالي 38 بالمائة من مقاعد البرلمان مقابل نحو 31 بالمائة حققها حزب "النهضة"، ليصبح نداء تونس هو المكلف بتشكيل الحكومة ولكن يستوجب عليه التحالف مع أطراف سياسية أخرى لضمان الأغلبية البرلمانية. رغم أن حزب "نداء تونس" يُعيد رموز نظام بنعلي، إلى الساحة السياسية وبالتالي فهذا الأمر يخيب آمال بعض الشباب بتونس، إلا أن سلطة صناديق الاقتراع تظل الأقوى، وهذه هي القاعدة الديموقراطية، رغم تعاقب الحكومات يظل الأهم بيد الشعب التونسي، فهو لن يقبل اليوم بالظلم والعدوان والدكتاتورية، وفي يده دستور قوي قائم على التفريق بين السلط وتشريك المواطنين في صنع القرار. وأختم بالعبارة الشهيرة لأحمد الحفناوي "هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية"، لحظة إرساء أسس الديمقراطية الحقيقية بتونس، فمزيدا من الاستقرار والنجاح والنمو لهذا البلد الشقيق.