لأول مرة ، وبعد مضي زمن طويل ، على تشرذم الطبقة العاملة بين ولاءات نقابية متطاحنة ، تتوحد من جديد ، كما كان عليه الأمر عندما أبصر المغرب نور الاستقلال ، لما كانت النقابة العمالية الواحدة ، ذراع الحركة الوطنية في وجه الاستعمار والاستغلال . وفي شبه إجماع نقابي ، لم يتخلف عن اللحاق به ، سوى من يرتضع ضرع الرضا الحكومي ، قررت الشغيلة المغربية توقيف الدورة الاقتصادية ليوم 29 أكتوبر 2014 ، بخوض إضراب عام في كل المرافق والمؤسسات، خصوصية وعمومية، عبر ربوع كل الوطن . وقد توحدت الطبقة الكادحة وراء الجسم النقابي الموحد ، لتنذر أولئك الذين يستفيدون وحدهم من هذه الدورة الاقتصادية للبلاد ، كي لا يبقى لسان حالهم وواقعهم ، يردد الشعار البائد: "المغرب لنا لا لغيرنا" ، ولكي يستشعر جميع الذين يستظلون بسماء المغرب ، ويمشون في مناكب أرضه ، أن المغرب للمغاربة أجمعين ، وأنه ليس حكرا بثرواته وخيراته وامتيازاته ، لفئة دون أخرى ، أو لنخبة أقلية ، دون السواد الأعظم من الأمة . ويأتي هذا الإضراب العام ، في سياق زمني ، اكتوت فيه الطبقات الشعبية الكادحة والمحرومة ، من لهيب مسلسل الزيادات في أسعار المواد الحيوية والخدمات ، بما استنزف القدرة الشرائية للمواطنين ، واستنفذ صمودهم وصبرهم . فما إن يبتلع المواطن غصة جلد ظهره بزيادة ما ، وما إن يعض على نواجذه صبرا واحتمالا وتجاوزا ، حتى يفاجأ بهبوب عاصفة أخرى من الزيادات . ليس هذا فحسب ، بل إن هذا المواطن المسلوخ الجلد ، بسياط الزيادات ، أصبح في حالة من الرعب النفسي ، مما يقصف به ، صباح مساء ، من نذر وخيمة ، حول أن القادم أدهى وأمر، وكأن سياط الزيادات التي تسلخ جلده، ليست سوى آلة تمرين مرير ، لمواجهة مناشير أخرى تنشر لحمه وتقطعه إربا إربا ، كي يكون قربانا على مذبح صناديق الحكومة ، التي لم يعد لها هذه الأيام ، سوى معزوفة يومية ، تعزفها على أنغام شعار "الإصلاح" ، تردد وتعدد من خلالها: كارثة الصناديق ، من صندوق المقاصة إلى صندوق التقاعد ، إلى غيره، والحبل على الغارب ... بعد الفاتح من يوليوز 2011 ، تأبط المغرب دستوره الجديد ، الذي أسس نظريا لمغرب جديد ، ارتسمت فيه حقوق الإنسان ، وحقوق المواطن ، معالم بارزة ، من خيار ديمقراطي لا رجعة فيه ، إلى ضمانات في العدالة والكرامة والمساواة . واحتفى المواطن البائس الفقير ، بهذا الفتح الدستوري ، الذي يبشره بالمساواة في حقوق المواطنة وواجباتها ، وأن لا فرق بين أسود سواد الكدح ، وأبيض بياض النعمة ، لا فرق بينهما ، في تحمل تكاليف المواطنة ، وفي التنعم بخيراتها ومكتسباتها . غير أن هذا المواطن البائس الفقير ، والذي يمثل السواد الأعظم للأمة في هذه البلاد ، والذي يمثل الطليعة ، بل الطلائع التي صنعت تاريخها وسؤددها وانعتاقها ، عندما كانت هذه الطلائع الشعبية ، في خط النار الأول ، في مواجهة آلة القتل والفتك الاستعماري الفرنسي والإسباني ، في البوادي والجبال والقرى والمدن ، وعندما كانت تساق في طوابير التعذيب والمهانة والإذلال ، في سجون الاحتلال ومعتقلاته ومعسكراته ومنافيه وأعواد مشانقه ، وعندما هبت بسواعدها وأكتافها وهزال أبدانها ، بعد كسب معركة التحرير والاستقلال، تشيد صروح الوطن ، فتبني مؤسساته ومشاريعه وورشاته ورأسماله الاقتصادي ، وتشق طرقه في صخور الجبال ، وتسهر ساهدة في حراسة حدوده وأمنه وترابه . هذا المواطن البائس الفقير ، وهو حال السواد الأعظم من الشعب ، يجد نفسه منذ استقلال البلاد ، يتجشم وحده أثقال محن البلاد ، وأزماتها ، وضوائقها ، وسكتاتها القلبية . وكأن قدره المقدور الأبدي ، كتب عليه ، أنه كلما استنزفت صناديق الدولة وميزانياتها ، بسرقات الكبار وبذخهم وتبذيرهم ، أن يملأها المواطن الفقير المعدم ، من أقواته وأنفاسه وشظف عيشه ، وأنه كلما تصدع جدار للوطن ، أن يرأبه بدمائه وعظامه ، وأنه كلما تفتق اقتصاد البلاد وتمزق ، أن يرتقه من لحمه وهزيل عضلاته . وفي الضفة الأخرى ، يزداد أثرياء البلاد ثراءً و سَعَة ، ويتوسعون عقارات وجنات فيحاء ، ورساميل تناطح السحاب ، داخل البلاد وخارجها ، وهم معفون من تحملات أزمات البلاد ومآزقها الاقتصادية ، ولا يضرهم أن تصيب البلاد السكتة القلبية أو السكتة الدماغية ، بالرغم من أنهم أصبحوا يضارعون أثرياء العالم في امتلاك كنوز الرساميل . هؤلاء الأثرياء بنوا أهرامات ثرواتهم من عرق وكدح وسهر وعناء فقراء الشعب ، في معادلة غير متكافئة ، كانت الوطنية فيها شعارا يلهج به الجميع ، وكان الوطن فيها قسمة ضيزى بين هذا الجميع ، غير أن الشعور بالاعتزاز بالوطن الذي أعطى لنخبة الأثرياء بغير حساب ، يقتضي منهم ، أن إذا حلت بالبلاد الأزمات التي تبتلع صناديق الدولة ، أن يفتدوا خبز المواطن البائس الفقير من فائض ثرائهم ، الذي تستفيد منه الأبناك الأجنبية ، وأن يحموا للطبقات الشعبية الكادحة المحرومة ، حدا أدنى من العيش ، بل من شظف العيش ، وفاءا لما تصطليه وتذوقه هذه الطبقات من عذابات ضنك الحياة من أجلهم، ومرارة السخرة والخدمة ، حماية لرساميلهم المتضخمة . المركزيات النقابية التي اختارت للكادحين من الأجراء والموظفين والمستخدمين والمسخرين ، أن يقفوا وقفتهم النضالية في الذكرى السنوية لاختطاف القائد الوطني المهدي بنبركة ، أرادت لصرخة الفقراء أن تمتزج بأصداء الكفاح الوطني ، الذي استشهد من أجله شهيد القوات الشعبية ، حينما كان ينافح عن هذه القوات الشعبية، كي تأخذ نصيبها من خيرات البلاد ، وحينما كان يتصدى للذين يتخذون مكاسب استقلال البلاد ، غنائم تُقتسم بالاستحواذ والاستفراد والاستبداد . وإن وقفة الكادحين والمأجورين في هذه الذكرى التاريخية، هو نداء اجتماعي وسياسي يبعث رسالة تذكر من يهمهم الأمر، بأن الوطن قسمة بين الجميع ، وأن المواطنة التزام دستوري يكفل السواسية بين المواطنين في التحمل ، كما يكفل السواسية بينهم في التنعم ، وأن التدبير الحكومي للأزمات الاقتصادية ليس هو التدمير الناسف للقدرة الشرائية للمواطن ، والإجهاز على المكتسبات الاجتماعية للكادحين، حتى لا تتحول الصرخات إلى ما لا يحمد عقباه .