تعقيب على "إعلان دمشق" مبعث السؤال أعلاه ما لاحظناه من ارتباط وثيق بين النسق اللسني للعربية الكلاسيكية ومعجمها، ومنظومة الفكر الإسلامي التقليدي، وكذا النسق السياسي الإستبدادي للدولة والذي يقوم على الرقابة ومصادرة الحريات و تكريس التقليد والسلفية في الفكر والقيم والممارسة. فالأمر يتعلق بمنظومة بنيوية متكاملة من العناصر اللغوية والدينية والسياسية والسوسيوثقافية المترابطة فيما بينها والتي لا ينفصل بعضها عن بعض، وتشكل بناء واحدا لنظام قمعي مغلق، يكرس التخلف الإجتماعي والقهر السياسي وضمور ملكة الإبداع والنقد وشيوع التقليد والخرافة منذ قرون، حيث تستعمل اللغة العربية لفهم الدين في إطار ضوابط الفكر التراثي، الذي يستعمل بدوره في الدولة كأساس لشرعية مفتقدة ديموقراطيا. معنى هذا أن مسلسل الدمقرطة في حالة ما إذا أخذ مجراه الطبيعي بالضغوط الداخلية والخارجية المعهودة، من شأنه أن يضعف هذا النسق ويفكك بنياته بالتدريج، حيث يفسح النظام السياسي القائم على سمو القانون ومساواة الجميع أمامه و احترام الحريات والتسيير المعقلن للمؤسسات وفصل السلط المجال للمجتمع لأن يعبر عن أفكاره ومواقفه بصدق وعمق ووضوح وبدون التواء أو نفاق أو لغة خشب، مما سيفسح المجال أمام استعمال مكثف للغات الشعبية الحيوية ذات العلاقة بحميمية الوعي الفردي وبتفاصيل اليومي، وهو ما ينجم عنه حتما تحرير العقول من أصنام الفكر السلفي، وفتح منظومة القيم على التحولات الطبيعية التي ستجعل العلاقات الإجتماعية أكثر تحررا وإنسانية، وتجعل الدين نفسه موضوع نقاش وتأمل وبحث خارج ضوابط الفكر الفقهي التراثي. في النسق الإستبدادي، من المعلوم أن السلطة تستعمل كل آلياتها من أجل الإخضاع وإشعار الفرد من "الرعية" بضآلته أما جبروت السلطة عبر تخويفه وتجهيله ومنعه من اكتساب المعارف الأساسية التي تمكنه من التطلع إلى وضع أفضل، و من أهم هذه الآليات بجانب ترسانة "الثوابت" التي تمطرق بها رعاياها يوميا، لغة السلطة التي تتقنها نخبة من الناس ولا يعرفها الباقي، وترتبط بالأوساط الرسمية و بتقاليد البروتوكول الإدراي و المؤسساتي، وتمرّ عبرها تعليمات السلطة و ثوابتها ورموزها و قيمها. ومنها منظومة الفكر التقليدي التي تلعب دورها في جعل "الرعية" تعتبر أوضاعها طبيعية لأنها لا تختلف كثيرا عن أوضاع المجتمع القديم الذي يعايشه الفرد يوميا من خلال أدبيات فقهاء السلف والفكر التراثي القديم، مما يحجمه عن مقارنة حالته بحالة الأفراد في البلدان المتقدمة التي قطعت أشواطا بعيدة في الرقي بالوضعية الإنسانية. لنقارن مثلا بين سلوك رجل السلطة "القبطان" مع "الأهالي" في البوادي خلال مرحلة الحماية، وبين سلوك رجل السلطة المغربي "القايد" بعد الإستقلال مع سكان العالم القروي الناطقين بالأمازيغية، فالأول يتلقى تكوينا لمدة معينة يتعلم فيها لغة السكان قبل كل شيء من أجل التفاهم معهم، وفي حالة ما إذا لم يتلق هذا التكوين يكون ملزما بمرافقة مترجم من أبناء المنطقة، بينما يتمّ إرسال الثاني الذي تتعمد السلطة أن يكون ناطقا بالعربية فقط، لأن عنف السلطة القمعية يتجلى أيضا هنا في اللغة المستعملة، إذ على "القايد" أن يجعل المواطن الأمازيغي متلعثما وعديم القدرة على التعبير السليم أمام السلطة، وهي إحدى آليات القهر التي تجعل المواطن يشعر بدونيته وعبوديته، كما تعطي رجل السلطة امتيازا على غيره من الرعايا. وتعتبر الجملة الزجرية " تكلم بالعربية !"، مفتاح هذه العملية التي تهدف إلى جعل المواطن يشعر في قرارة نفسه بأنه من رعايا الدولة وفي خدمتها، وليس العكس، مما يحتم عليه التجرد من هويته و تقمص هوية الدولة المركزية. وفي مجال القضاء كان قرار تعريب هذا القطاع و فرض العربية كلغة وحيدة في المحاكم يتمّ بشعار رسمي هو التعريب الموجه أساسا ضد اللغة الأجنبية الفرنسية، بينما يكشف الواقع عن أنّ تعريب القضاء قد جعل أغلبية الشعب المغربي خارج إطار التقاضي والمحاكمة العادلين، لأن معنى تعريب القضاء هو منع الأمازيغي أيضا الذي ليس أجنبيا من الكلام بلغته في المحكمة، فلم تكن عبارة :"تكلم بالعربية !" مجرد آلية سلطوية في يد "القايد"، بل تحولت إلى أداة زجرية للإخضاع و الإسكات حتى داخل الفضاء الذي كان مفترضا أن ينقل المغاربة من وصاية الأجنبي إلى مؤسسات التحرر، لدى من يفترض أن يحكم بالعدل وهم القضاة. و قد نبه تقرير الأممالمتحدة الأخير الصادر عن اللجنة المكلفة بالقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري إلى هذا الخلل، و أوصى الدولة المغربية بضرورة تداركه. من أجل حياة أفضل للغة العربية: إن أخطر ما يهدد اللغة العربية اليوم هو بالذات ما يحاول البعض أن يقدمه كآلية "حماية" و"دفاع" عنها، عندما يعمد إلى اعتبارها "لغة القرآن"، لأنّ ذلك في الواقع يقزم وظيفتها ويحصرها في المجال الديني، إن الإعتقاد بأن لغة ما تستطيع الإستمرار في العصر الحالي بالدين و التراث فقط هو اعتقاد خاطئ، ذلك أن لغة الدين يمكن أن تستمر في الصلوات والطقوس لبعض الوقت، لكنها ستفقد بالتدريج ديناميتها الإجتماعية وتنزوي في أماكن العبادة، وستحل محلها بالتأكيد اللغات التي تحظى بسبب عدم قدسيتها بحيوية الإنتاج اليومي وحرارة الفعل البشري في الممارسة والإنتاج والإبداع و الإختراع، وقد تبين أن هذه اللغات بسب عدم قدسيتها بالذات، تتوفر على إمكانيات كبيرة للتطور خلافا للغات الدينية أو ذات الصلة بالكتب المقدسة والطقوس التعبّدية الثابتة والمتوارثة. إنّ الفكرة التي يروّجها البعض عن أن اللغة العربية تحتل دوليا المرتبة السابعة في التداول في الأنترنيت وأن عدد مستعمليها يبلغ 61 مليون هو خطاب مغالط، لأن 90 في المائة من التداول المذكور إنما يخص المجال الديني والنقاشات البوليميكية حول الإسلام و الصهيونية و"مؤامرات الغرب"، و حول ظواهر كان ينبغي أن تختفي منذ عقود، وهي نقاشات فارغة تساهم في تكريس المزيد من التأخر والإنغلاق، لأنها تنتهي إلى إخفاء الأسباب الحقيقية للتخلف، و التي هي أسباب داخلية، بينما نجد أن إسهام اللغات الأخرى يتمّ بشكل وافر في المجال العلمي والتقني وفي ابتكار المناهج و المفاهيم الجديدة الأكثر عمقا وعطاء في الإقتصاد و السياسة والإجتماع و التربية ، والتي تساهم في تطوير رصيد المعرفة البشرية، وهو بالذات ما لم تستطع العربية بلوغه بل تحولت في الآونة الأخيرة بسبب أهلها إلى لغة حربية، لغة تلاسن وسجال. وما يقال عن العربية في الأنترنيت يقال أيضا عنها في الفضائيات، فكون قناة الجزيرة تحولت إلى إحدى أكثر الفضائيات انتشارا في العالم لا يعني مطلقا انتصار العربية أو العرب وتقدّمهم، بل العكس تماما حيث عكست القناة مظاهر تخلف العرب والمسلمين، عندما ننظر إلى مستوى ما تروج له من مضامين وما تشيعه من شعارات وأوهام باعثة على مزيد من تعميق التأخر وترسيخه. إن اللغات التي نحتقرها اليوم، بسبب كونها لغات التخاطب اليومي و نسميها "عاميات" أو "لهجات" هي المرشحة لأن تكون أكثر حيوية عندما يتمّ الإهتمام بها مؤسساتيا وربطها بدينامية المقاولة، وهو ما حدث للغات الغربية التي كانت قبل قرون لغات شعبية كالفرنسية والإيطالية والإسبانية والسويدية والفلامانية وكانت مثار احتقار وازدراء رجال الدين والأعيان الإقطاعيين، عندما كانت اللاتينية وحدها لغة الكنيسة ولغة الكتابة والعلم والتأليف. إن هذه الدعوة السلفية التراثية والمحافظة إلى الدفاع عن العربية، لا تبشر بخير بالنسبة للغة العربية التي لا ينتظرها مع هذا النهج مستقبل زاهر بقدر ما ينذر بإقبارها التدريجي. والحل الوحيد الكفيل بإنقاذ اللغة العربية هو إدراجها بشكل إيجابي في مسلسل الدمقرطة والتحديث السياسي والفكري الشامل، وتطويرها عبر تحديث بنياتها ومعجمها وتحريرها من منظومة الفكر التقليدي وجعلها تستوعب الروح العلمية و الإنفجار المعرفي الحادث في العالم و الذي ما انفكّ يبهر العالم باكتشافاته المتتالية. من أجل تحديث اللغة العربية لا بدّ من تحويلها إلى مؤسسة اجتماعية منفتحة على نتائج العلوم العصرية وعلى تحولات المجتمع والقيم، وهو ما يعني حتما تقاربها مع اللغات الوطنية الأخرى وفقدانها لصورتها "المتعالية" التي كانت تخنق فيها، والتي أفقرتها وجعلتها مهددة في وجودها أمام منافسة لغات التواصل الجماهيري واللغات الأجنبية، و هو ما يعني أيضا قبولها لتقاسم الفضاء مع عناصر التنوع اللغوي الوطني الخلاق، و تخلي حُماتها عن التفكير في فرضها ك"لغة وحيدة" للمغاربة و لكل الوظائف عبر اقتراح قوانين لاعقلانية و مثيرة للسخرية، لأن هذا علاوة على أنه غير مجدي من الناحية العملية، يساهم في كهربة الأجواء السياسية و توتيرها. لقد ارتكب المدافعون عن اللغة العربية المجتمعون في دمشق خطأ فادحا، و فتحوا على أنفسهم بابا كان الأجدر بهم إغلاقه حتى لا يصيبهم منه ضرر يؤول بجهودهم إلى الفشل الذريع، وهو اعتبارهم في بيانهم بأن الخطر الذي يهدد العربية والتحدي الكبير أمامها هو ما أسموه"انتشار العاميات ومزاحمتها للفصيحة، والسعي إلى تحويل اللهجات المحلية من المستوى الشفهي إلى المستوى الكتابي، وتقعيد اللهجات العامية وشرعنتها ووضع أنظمة نحوية وصرفية ومعاجم لها". وهم بذلك اختاروا أن يتحولوا من مناضلين ذوي شرعية في مواجهة اللغات الأجنبية، لغات الإستعمار سابقا، إلى أدعياء بدون حقّ وإلى دعاة فتنة في أوطانهم، مهمتهم محاربة تراث بلدانهم وهوياتها وخصوصياتها اللغوية والثقافية، وهدفهم الرئيسي معاكسة تيارات وحركات اجتماعية نابعة من صميم تحولات واقع مجتمعاتهم، بل الأكثر من ذلك المشاركة ب "إعلان دمشق" في الدعاية لنظام مخابراتي قمعي هو النظام السوري، الذي بذل جهدا كبيرا في "خدمة اللغة العربية" بطمس اللغات والثقافات السورية العريقة وإبادتها. بل إن عبقرية المجتمعين في دمشق سمحت لهم بالإنضواء تحت راية هذا النظام العسكري بالسعي إلى تشكيل ما سموه "هيئة عليا أو اتحاد لجمعيات حماية اللغة العربية في الوطن العربي مقره في دمشق". إنها لعمري معركة خاسرة سبق لي أن حذرت منها من يريدون حماية اللغة العربية بالمغرب، عندما لفتت انتباههم قبل عامين إلى الفرق بين الدفاع عن العربية في مقابل اللغات الأجنبية ، و بين استهداف التنوع الوطني لصالح اللغة الرسمية. و لنا عودة إلى الموضوع على مستويات أخرى.