ما أكثر الناس الذين يعضون على الهوية بالنواجذ خوفا من التيه، وبحثا عن الأمان النفسي، أو درءا لضعف يستشعرونه لأسباب شتى، أو خوفا من مجهول لا قدرة لهم على المجازفة لولوجه أو الإرتماء في أحضانه، وقد يكون هذا التمسك بالهوية تبريرا لإخفاقات تراكمت في سنوات العمر، أو تفسيرا يزيف حقيقة صادمة تأبى النفس الإعتراف بها. ههنا تبدو الهوية مجرد مخدر موضعي لا يغير من الواقع شيئا، تكون مجرد تعبير عن مأساة الإنسان في هذا الوجود، لكن التمسك الجنوني بالهوية لم يكن يوما دافعة للتطور أو رافعة للتقدم، بل يحيل الإنسان إلى ضفدعة تظن واهمة أن العالم ليس شيئا آخر غير الغدير الذي تعيش فيه، ويتعاظم الوهم في إدراك الضفدعة حتى تظن سيادتها وجبروتها على الحشرات التي تحوم حولها هي سيادة على الدنيا ومن فيها، و أن سلطانها لا يوازيه سلطان آخر. صحيح أن الإنسان يحتاج في دلج الحياة إلى معلم repère يحدد به موقعه في هذا الوجود، لكن هذا المعلم قد يتحول إلى قيد يمنعه عن السياحة في الحضارة الإنسانية، هذا القيد الذهني هو نتاج القناعات الخاطئة والمعتقدات الخرافية التي تعشش في الذهن بفعل التنشئة الإجتماعية والاستعمال الإيديولوجي للهوية من طرف السياسيين أو رجال الدين وكل أصحاب المصالح حتى من التجار و المنتجين بل حتى من المتسولين. لقد ألف الفيلسوف داريوش شايغان كتابا سماه "أوهام الهوية" وفيه يبين كيف يسيطر هذا النوع من الإعتقاد على البنيات الذهنية لعامة الناس ويجد من يكرسه ويحمي استمراره من النخبة التي تتألف من المفكرين والإيديولوجيين ورجال الدين والأدباء والشعراء والفنانين، و تتسم أوهام الهوية بالإرتكاس والماضوية، تضحي بالحاضر من أجل الماضي ولا يوجد مستقبلها في عالم الواقع وإنما في عوالم أخرى غيبية. هذا ما تفعله الإسلاموية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وفي المغرب تفعله فئة ثانية بالإضافة إلى الفئة الإسلاموية وهي الفئة المخزنية، تحاول الأولى أن تطوي الحاضر وتفتح صفحة الماضي الصافي المجيد بالإرادة الإلهية المتجسدة في الأرض من خلال التشريعات الدينية المطبقة بحذافيرها موظفة التجييش لعواطف الجماهير، بينما تحاول الثانية تجدير ماض في الحكم يتسم بالسيادة المطلقة للحاكم وحاشيته، وتتمسك بالتقليد وتفرضه من خلال تدبيج الخطابات الإعلامية والشعرية والفنية، وباعتماد التكرار حد الملل تتحول البنيات التقليدية إلى واقع لابد منه فتستسلم له الجماهير، وهذه الأخيرة تمارس دورها القهري على الأفراد الواعين بتلك البنيات الجامدة والمعارضين لها فيستسلمون بدورهم لجبروت الجماهير، خصوإصا وأن المخزنية تتحكم في كثير من المؤسسات الإقتصادية والإجتماعية وتملك سلطة القرار، لذا فإن اجتثاثها يحتاج إلى قوة جماهيرية كبيرة وتحويل اتجاه وعي تلك الجماهير، وهو أمر يتطلب زمنا طويلا، و عادة ما ينفذ فيه صبر الساعين إلى إعادة تشكيل وعي الجماهير، أما الإسلاموية فأمر مواجهتها أيسر من الاولى لو كانت الفئة العريضة من الجماهير متعلمة، لأنها تعتمد بشكل كبير على تفشي الجهل والأمية وضعف القراءة وغياب القدرات النقدية. لكن مع ذلك فإن الفئتان معا تتعرضان للتهديد الدائم من نمو الوعي النقدي في أي لحظة، مما يدفعهما إلى التوحد ضد التغيير المحتمل، والتحالف ضد الوعي النقيض الذي قد يزحف على الجماهير لسبب ما، وقد يكون هذا السبب اجتماعيا أو اقتصاديا مثل غلاء الأسعار أو تردي الخدمات الصحية أو فضيحة سياسية تنفجر هنا أو هناك، تتوحد الفئتان خصوصا أن ما يجمعهما أكبر مما يفرقهما، فالإرتكاس والماضوية وعبادة البدايات والشرعية الدينية المزعومة خصائص مشتركة بينهما، وكل هذه الخصائص تصب في مكان واحد هو "أوهام الهوية" التي تكرس تخلف المجتمع ومعه تتكرس السيادة والمصلحة السياسية واحتكار الثروة زمنا أطول، هاهنا تتحول الإسلاموية إلى مخزنية والمخزنية إلى إسلاموية، قد يعارض بعضهما بعضا في العلن ولكنهما متفقان سرا، و لا يحتاج هذا الإتفاق إلى عهد مكتوب او ميثاق بينهما، ولا يحتاج حتى إلى لقاء بين القادة، فهو لقاء يتم في عوالم الذهن، في الحاضر ضد الحاضر والمستقبل ومن أجل الماضي الممتد في غير شروطه التاريخية،ويتم حشد الجماهير لتعارض مصالحها في سعادة وحبور، لتهتف ضد تطورها ومن أجل جمودها وتخلفها، ولتنقض على الوعي السليم المستحضر للشروط التاريخية فتغتاله، ومعه تغتال مستقبل أبنائها من الأجيال اللاحقة والتي تليها. لا تملك الإسلاموية الماضوية ولا المخزنية الإرتكاسية سلطة على الشروط التاريخية، ولا تملك أدنى قدرة لمواجهتها أو الإنتصار عليها، ولكن الجماهير تملك هذه السلطة وتلك الإمكانية، لذلك فإن الفئتان معا تحركان تلك الجماهير موظفة سلاح "أوهام الهوية" لتوقف عجلة التاريخ، بل لتغير اتجاه دورانها حتى تنقلب مسرعة إلى عصور غابرة تجد فيها قيادات الفئتان معا مصالحها المادية والسياسية، لكن تلك القيادات لا تركب أبد العربة التي تحركها تلك العجلات، وإنما تركب عربة أخرى في أوربا وأمريكا حيث سلامة المسار وصحة الإتجاه، إنها توظف تلك الأوهام لتصادر حق الحياة في الحاضر و حق الانسجام مع حركة التاريخ وشروطة من الجماهير وتأخذ منها ثروتها لتنعم بها حياة حقيقية في عوالم التاريخ، حتى وإن كانت تلك القيادات تعيش وسط تلك الجماهير وتمشي معها في شوارعها إلا أنها تصنع عوازل بينها تستورد إليها شروط الحياة الحقيقية، وتطل من النوافذ من حين لآخر لتطمئن أن تلك الجماهير تحرس مصالحها بكل أمانة وتخدمها بكل عبودية وخضوع، بل تحارب بعضها بعضها إن اقتضى الأمر ليبقى الأسياد في راحتهم، و حتى لا يعلو صوت يقض مضاجعهم، و إن بدا من الجماهير بعض التذمر عادوا وجددوا خطاب الأوهام، وأحيوا الخضوع المطلق وسدوا الثقوب التي تسرب منها بعض الوعي بعدما يجففون آثاره في الجماهير. إن الإسلاموية و المخزنية أخطر ما يهددنا اليوم، لأنهما يفصلان الجماهير العريضة عن واقعها، و يحولانها إلى أنعام تعيش لتأكل بدل أن تأكل كي تعيش، تلخصان تطلعاته في المعيش اليومي، و تحولان حقوقه في الحرية و الكرامة والعدالة الإجتماعية إلى أحلام يقضي حياته في انتظار تحققها، وما إن تفرجا عن جزء من أحدها حتى تجهزا عن غيرها جملة وتفصيلا، لان الإرتكاس منهجهما الوحيد ولا يملكان غيره لضمان الإستمرار، و هاهما اليوم في المغرب قد كشفا عن تحالفهما بشكل جلي لتكريس التخلف والفراغ، و لاستمرار الهيمنة و الاستبداد، و تستمران في اعتقال التطلع الحضاري للإنسان داخل سجون أوهام الهوية [email protected]