ما أقدم عليه وزير التربية الوطنية رشيد بلمختار لا يمكن أن يوصف إلا بانقلاب حقيقي على قرارات الدولة والتزاماتها وبرامجها، بل وعلى الحكومة ذاتها التي ينتمي إليها. ولست أدري إن كان يدرك أبعاد ما صرح به عندما اعتبر أن ترسيم لغة معينة لا يعني بالضرورة تدريسها، وعندما أنكر مسلسل إدراج اللغة الأمازيغية في النظام التربوي الذي انطلق منذ 2003، معتبرا أن الدستور لا ينصّ على ذلك وأن لا حديث في الموضوع إلا بعد إنشاء المجلس الوطني للغات وإصدار القانون التنظيمي للغة الأمازيغية، وأن وضعية اللغة الأمازيغية في التعليم "غير واضحة"، وهو التصريح الذي جاء ليبرر الإجراءات التي اتخذها الوزير مع الدخول المدرسي الحالي، والتي نسبها إليه مندوبو وزارته في العديد من المناطق، حيث وجّه بموجبها المدرسين المتخصصين في الأمازيغية لتدريس العربية والفرنسية، لا نعرف إن كان الوزير يدرك دلالات وأبعاد تعليماته الفوقية، لكن من المؤكد أنه وجّه للتوافق الوطني وللمصالحة الوطنية، وللنموذج المغربي في تدبير التنوع اللغوي والثقافي ضربة موجعة، نتمنى أن يتداركها ذوو العقول من حكماء المغرب وأبنائه. يواجه الوزير بتصريحه وإجراءاته الارتجالية الخطيرة ثلاث مشكلات: مشكلة المرجعية السياسية والقانونية والحقوقية "الواضحة" لمأسسة الأمازيغية في التعليم، والتي تراكمت فيها الكثير من الوثائق الرسمية والأوراش العملية الكبرى التي أشرفت عليها الدولة ومولتها من المال العام، في إطار سياسة معلنة كانت موضوع إجماع الطبقة السياسية المغربية، وأصبحت نموذجا يقتدى في كل شمال إفريقيا، وكان من نتائجها تكوين ما يقرب من 14 ألف مدرس خلال العشر سنوات الأخيرة، وإصدار مقررات دراسية غطت سنوات التعليم الابتدائي إلى السنة السادسة، وإدراج مصوغتها في مراكز التكوين، وإصدار العديد من المذكرات الوزارية، من الوزير عبد الله ساعف الذي وضع "منهاج اللغة الأمازيغية في التعليم"، عبر الوزير الحبيب المالكي الذي وقع اتفاقية الشراكة مع المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وأنشأ لجنة مشتركة مع أخصائيي بيداغوجيا الأمازيغية، والتزم بتكوين المكونين وبإصدار المقررات الدراسية، وتوفير الإمكانيات اللوجستيكية لعملية تعميم تدريس الأمازيغية، عبر الوزير امحمد اخشيشن الذي عرفت العملية في عهده بعض الفتور لكنه عقد اجتماعا موسعا مع المجلس الإداري للمعهد الأمازيغي من أجل تدارس سير العملية، وانتهاء بالوزير محمد الوفا الذي اتخذ عدة إجراءات هامة مثل اتخاذ المدرسين المتخصصين وتعميم الأمازيغية لتبلغ مليون تلميذ، وكتابة واجهات المؤسسات التعليمية باللغة الأمازيغية، وإقرار مناصب مالية لمدرسين جدد من خريجي مراكز التكوين. كانت قرارات الوزراء السابقين هامة جدا رغم كل العراقيل التي كانت تتخبط فيها العملية، بسبب نقص الموارد البشرية وضعف الاعتمادات المرصودة ومعاكسة بعض المسؤولين الجهويين والمحليين لاختيارات الدولة، لكن لم يسبق أن وجدنا أنفسنا أمام وزير يتنكر للمشروع من أساسه ويشكك فيه أو يتجاهله بالمرة، مع العلم أنه مشروع له صلة بحقل الشرعية السياسية، ويعدّ من عوامل توطيد التلاحم الوطني وإنهاء الميز بين المواطنين، ومن ثوابت السياسات العمومية في مجال التعليم، وليس مجرد إجراء عابر أو مؤقت. المشكل الثاني الذي على الوزير مواجهته هو مشكل اللغة الرسمية، فهو يعتبر أن ترسيم لغة ما شيء وتدريسها شيء آخر، وأن الأول لا يستوجب الثاني بالضرورة، وهذا معناه أن الوزير يتوفر على نماذج للغات رسمية للدول لا توجد معممة في المنظومات التربوية، وفي هذه الحالة عليه إرشادنا إليها، لأنه حسب علمنا فإن اللغة الرسمية للدولة هي لغة مؤسساتها، وهو ما يستوجب تكوين الأطر فيها واستعمالها في مختلف القطاعات الحيوية. المشكل الثالث أن الوزير يرجئ تعميم تدريس الأمازيغية إلى حين صدور قانون تنظيمي خاص بها، بينما الصحيح أن يتابع المسلسل الحالي إلى حين صدور ذلك القانون، وليس توقيف كل شيء، وإلا فسيكون عليه القيام بالشيء نفسه بالنسبة للغة العربية التي يتحدث الدستور عن قانون خاص بها لحمايتها، فإلى حين صدور قانون يحمي العربية علينا إيقاف تدريسها وتجاهلها بالمرة وهذا نوع من العبث لا يقبله منطق سليم. إن المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية المرتقب ملزم بوضع سياسة لغوية لحماية اللغتين الرسميتين واللغات الوطنية والنهوض بها وليس لتبخيسها أو مفاقمة مشاكلها وتعريضها للانمحاء. ويعلم الخاص والعام بأن الأمازيغية إذا كانت قد حققت مكتسباتها في السابق وهي بدون أية حماية قانونية ودستورية، فسيكون من ضروب المستحيل أن يقرر لها وضع في التعليم دون وضعية اللغة الرسمية التي تحظى بها حاليا. وهذا يقتضي من الوزير العمل في انتظار القانون التنظيمي على متابعة خطوات المسلسل الذي انطلق سنة 2003 عوض عرقلته أو توقيفه أو تجاهله. لقد أنكر الوزير أن يكون مصدر التعليمات التي أوقفت تكليفات المدرسين المتخصصين ووجهتهم لتدريس العربية، وفي هذه الحالة عليه محاسبة مندوبي الوزارة ومسؤولي السلطات التربوية الجهوية الذين برروا قراراتهم بأنها "من فوق"، ومعاقبتهم في حالة ما إذا كانوا يفترون على الوزارة، لأنه ثبت لدينا من معطيات ميدانية وشهادات المدرسين وتقارير الجمعيات المحلية بأن كثافة الأحداث والوقائع التي عرفها الدخول المدرسي الحالي بمختلف مناطق المغرب لا يمكن إلا أن تكون بقرار مركزي. نعرف النظرة البراكماتية للوزير، ونعرف العينة من الأطر والمسؤولين الذين يحملونها، إنها النظرة التي تعتبر المغرب بلدا أشبه بمادة خام أو عجين، بلا تاريخ ولا هوية ولا ملامح، ويمكن تشكيله حسب هوى التكنوقراط الذين يمضون إلى أهدافهم من الطرق السهلة: إسقاط تجارب الغير الجاهزة بشكل سطحي على بلد يعاني ضعف الحكامة وفساد المؤسسات وارتباك النخب وتعقد الواقع. صحيح أن الوزراء السياسيين أكثر التزاما ووضوحا في الرؤية وشمولية في الطرح والمقاربة، وصحيح أيضا أن التكنوقراط وإن كانوا يزعمون بأنهم عمليون براغماتيون وأنهم بدون إيديولوجيا، هم في الواقع مصابون بنوع من العمى يجعلهم لا يرون أبعد من أنوفهم.