إن فتح النقاش حول مرتكزات الإصلاح ببلادنا يقودنا بشكل مباشر للحديث عن مجالات هذا الإصلاح و أنساقه و كيفية تصريفه, أو بمعنى أوضح ماهية و جوهر الإصلاح الذي نريد مباشرته من اجل بناء مغرب قوي و محصن يعتز كل أبناءه بالانتماء إليه. فالإصلاح و كما سبقنا أن قلنا في مقالنا السابق "مرتكزات الإصلاح" يجب أن يكون شاملاً، يطال كل المجالات و الأنساق الاقتصادية و السياسية والثقافية والفكرية أيضا لأنه لو لم يتحقق الإصلاح في كل هذه المجالات بطبيعة الحال؛ فسيكون حصاده و ثماره متواضعة للغاية. المجال الاقتصادي: لا يمكن اليوم الحديث عن إصلاح اقتصادي ببلادنا بدون الحديث عن اقتصاد السوق، وبطبيعة الحال لا توجد نسخة واحدة لهذا النهج الاقتصادي , فهناك نسخ متعددة و متنوعة لهذا النظام , و اقتصاد السوق الذي نتكلم عنه هنا ليس هو ذلك النهج الشره الذي يعمل بالمنطق الرأسمالي الصرف، ويتجاهل البعد الاجتماعي, فالمقصود هو اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يراعي بشدة البعد الاجتماعي و الظروف الاجتماعية الصعبة للمجتمع المغربي. وتبنى الليبرالية الاقتصادية يعني ابتعاد الدولة عن كل ماهو اقتصادي أو بمعنى أوضح اتجاه الدولة نحو خوصصة مشاريعها و مرافقها المرتبطة بالاقتصاد , و هو مايترتب عنه مجموعة من الآثار السلبية و الجانبية و التي يتوجب علينا وضع مجموعة من الآليات و الميكنزمات المرافقة و المواكبة لعملية الخوصصة لمواجهة تلك الآثار و ذلك من خلال إصلاح المنظومة المالية و النقدية و الضريبية و الجمركية.... . المجال السياسي: الإصلاح السياسي هو مجال شائك يهدف بالأساس إلى إرساء الديمقراطية و قواعد الحكامة الجيدة بمعنى أن تصبح الدولة فعالة و ناجحة في التعامل مع قضايا المجتمع وفي حل مشكلاته و ذلك من خلال اعتماد النزاهة و الشفافية و المحاسبة و إشراك كافة التعابير المجتمعية في صنع القرار و كذلك من خلال إرساء قواعد اللامركزية. ويتكون الإصلاح السياسي من مجموعة من العناصر الأساسية التي تحدد آفاقه و مجال تدخله: الإصلاح الدستوري: يعتبر الإصلاح الدستوري عنصرا جوهريا من منظومة الإصلاح السياسي و تتجلى أهميته بكون لايمكن تحقق إصلاح سياسي بدون إصلاح دستوري يوثق و يمأسس و يحافظ على ديمومة كل ما تم إصلاحه سياسيا , فكل الإصلاحات التي باشرها المغرب خلال العقد الأخير تبقى خارجة عن إطار النص الدستوري الحالي و هو ما يضعنا أمام حالة دستورية أصبحت متجاوزة, فلابد من أن يعدل الدستور لينسجم مع الواقع الجديد للمغرب ، فالدستور هو الوثيقة التي تحدد علاقة الحاكمين و المحكومين ، وكيف تشكل السلطات العامة؟ و ما مدى صلاحية هذه السلطات؟ وما هي العلاقة بين كل سلطة و أخرى؟ المسالة الامازيغية و ورش الجهوية المزمع تنفيذه و دعائم حقوق الإنسان وورش الحريات و مجموعة أخرى من المتغيرات الايجابية التي عاشها المغرب خلال السنوات الأخيرة تدفع بشكل متسارع نحو إقرار نص دستوري جديد يتوافق مع الواقع السياسي الجديد لبلادنا. الإصلاح المؤسساتي: لا بد من إعادة هندسة المؤسسات، وتكوين بنى سياسية جديدة تتوافق مع فلسفة العهد الجديد؛ ووضع قواعد ومعايير للضبط المؤسسي؛ وبعبارة أخرى أن تكون هناك دولة مؤسسات بمعنى الكلمة. إصلاح القضاء: لايمكن أن يتحقق أي إصلاح سياسي بدون وجود جهاز قضائي مستقل و شفاف و نزيه يخضع الجميع لحكمه , و لا تتدخل أي سلطة أخرى في مجرى أحكامه , و تتوفر فيه آليات و ميكنزمات سرعة الفصل في القضايا و التنفيذ العاجل للإحكام. فلا قيمة لجهاز قضائي يصدر أحكاماً لا تُنفذ على أرض الواقع. تجديد الثقافة السياسية: ما قيمة الديمقراطية و نحن لا نحملها داخلنا و ما قيمة أن تكون لنا مؤسسات ثمتيلية و أعضاءها غير ديمقراطيين, و ما معنى أن تكون أحزابنا و جمعياتنا فاقدة للقيم الديمقراطية . فلا ديمقراطية بغير أحرار، ولا ديمقراطية بغير ديمقراطيين؛ فهذا ما قصدته بالثقافة السياسية؛ أي أن نحدد القيم والمعتقدات السائدة بين الناس لتصبح حافزاً على الديمقراطية قولاً وعملاً؛ بغير ذلك لن تتحقق الديمقراطية على النحو الذي ننشده. إن المجتمع يحتاج أفراده لكي يمارسوا الديمقراطية، والتي لا تتأتى إلا من خلال مساهمة كل مكونات منظومة التاطير الاجتماعي علىالتربية على القيم الديمقراطية ، التي تبتدئ من مدرسة إلى أسرة إلى الحزب و الجمعية . يجب علينا اليوم أن نجعل من ممارسة الديمقراطية الطريق إلى تعليم الناس الديمقراطية وهذا ليس بالسهل؛ ذلك أنه من الصعب جداً بناء الإنسان؛ فالبناء المادي سهل غير أن البناء الإنساني صعب؛ ولكنه لا يلبث أن يأخذ فترة وينجح. المجال الاجتماعي إن المجال الاجتماعي يقودنا بشكل مباشر إلى الحديث عن إنصاف المرأة المغربية وتمكينها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً من خلال تشريعات جديدة أكثر جرأة و عمقا تطال كافة الأنساق و المستويات المجتمعية تمكنها من مساواة حقيقة مع الرجل , بالإضافة إلى توسيع شبكة الحماية الاجتماعية لتطال كافة فئات المجتمع المغربي, و إصلاح حقيقي للتعليم، يطال المنهاج ونظم الإدارة، و البنية, والعلاقة بين المؤسسة التعليمية وبين المجتمع، إلى غير ذلك من العناصر. يجب علينا أن نرقى بمؤسساتنا التعليمية لتصبح قادرة على المنافسة وإثبات الذات محليا و عالميا من خلال تأهيل الموارد البشرية العالية الكفاءة، والعالية المهارة القادرة على مجارات كل هذا الزخم الهائل من المنافسة الذي فرضته إيقاعات العولمة على بلادنا . بالإضافة إلى كل هذا وذاك يظهر تجديد الخطاب الديني كأحد أهم عناصر الإصلاح الاجتماعي نظرا لدور الدين في حياة المجتمع. فالخطاب الديني يجب أن يكون عصريا يحث على العلم وأهمية تحصيله, والمنهج التجريبي في التعامل مع القضايا والمشاكل، وكذلك رفض المنهج الغيبي في التفكير. إن تجديد الخطاب الديني بالمغرب يفرض ضرورة إصلاح المؤسسات الدينية و تحصين البلاد من كل الخطابات الراديكالية التي بدأت تنبت بين بعض فئات المجتمع. *الكاتب العام السابق للشبيبة الاتحادية