لازمتان أساسيتان ترتبطان بالحديث عن موضوع القراءة بالمغرب: تقيد اللازمة الأولى القراءة بشرط وجودي في الخطاب الثقافي المغربي هو الأزمة. و تعمم اللازمة الثانية المسؤولية. تتبنى اللازمة الأولى حكما نمطيا جاهزا؛لأنه يذهب مباشرة إلى النتيجة،ولايخوض في عواملها المركبة التي تجعل التساؤل التالي مشروعا: هل نحن مجتمع قارئ تاريخيا؟ هل راكمنا ما يؤكد أن المغرب كان قد رسخ ثقافة القراءة، ووضع أسسها وبنياتها ؟ لنعد إلى التشخيصات التي تكاد تجمع على خلاصة واحدة؛ وهي الإقرار بوجود أزمة للقراءة بالمغرب. وهو حكم بقدر ما يعبر عن واقع، فإن منطوقه يؤدي إلى إشراك الضحية في المسؤولية، ومنح صكوك البراءة لمن ينبغي أن يتحمل وزر ذلك. فما الذي تقدمه التشخيصات؟ سنعتمد في هذا الباب على معطيات تقترب من الصدقية، وسنستعين بالتاريخ لنبين أن فعل القراءة ذاته طارئ على المغرب، وأن ترسيخ تقاليد القراءة لم يكن يوما هدفا أو طموحا رسميا، وأن الدولة لم تضع استراتيجية محددة لتقوية شروط القراءة، وأن أقصى ما عبرت عنه في لحظات تاريخية معينة كان عبارة عن إعلان نوايا . لنبتدئ بالمعطيات (التاريخية) وبعض الإشارات الاقتصادية التي تمدنا بعلامات محملة بالدلالات: الإشارة الأولى: أكدها تقرير الخمسينية في شقه المتعلق بالأبعاد الثقافية والفنية والروحية....والذي بين أن المغرب لم يعرف دخول المطبعة إلا في سنة 1865 متأخرا عن البلدان المغاربية (الجزائر 1845 )- (تونس 1860 )، وعن لبنان (1610)، وسوريا (1706) ومصر (1798) واليمن (1827)... أما بنية النشر الحديثة فلم تر النور إلا ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي في ارتباط مع عدد من التحولات الاقتصادية والسياسية والسيوسيوثقافية التي ترجع أساسا إلى تراجع إنتاج دور النشر اللبنانية مع ظروف الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982، وإطلاق سياسة التعريب التي فتحت حاجات جديدة على مستوى الإنتاج المكتوب باللغة العربية. ويعلل التقرير هذا التأخر بكون الاهتمام بالشأن الثقافي لم يكن ضمن مشروع يسعى إلى تحقيق تحديث ثقافي؛ أي إن التأخير لم يكن عفويا، بل كان إراديا ومقصودا؛ الإشارة الثانية: تأخر تكوين وزارة للثقافة إلى سنة 1969 ، بمعنى أن الثقافة ليست أولوية، ولم تكن كذلك؛ الإشارة الثالثة: النسبة المائوية المخصصة لوزارة الثقافة ضمن المالية العامة للدولة، والتي لم تتجاوز نسبة 0,63 في المائة برسم السنة المالية 2013. فما الذي يعنيه كل ذلك؟ إنه يعني أن القرار العام لم يسر، يوما، في اتجاه تقوية شروط الحضور الثقافي بشكل عام وضمنه القراءة. ولذلك فإن النتائج لايمكن أن تكون مختلفة عن المقدمات، بل إنها لاتسوغ الحديث عن الأزمة بقدر ما تدفعنا إلى الجهر بتحديد المسؤوليات؛ إذ كيف يمكن بناء مجتمع قارئ في غياب تام لشروط ذلك، وهو غياب في قاعدة التأسيس. دليل ذلك أن المغرب طبع ما بين 1865 وبداية الحماية 500 عنوان فقط؛ أي طيلة ما يقارب نصف قرن من الزمان ،وبلغ عدد ما نشر من 1955 إلى 2003 (15513) عنوانا فقط. ومابين 1995 إلى 2003 (8064) عنوانا.رغم أن هذه الفترة تعد فترة التحول الكبرى في هذا المجال. هذا التحديد الكمي ليس مجرد معطيات رقمية، بل إنه يعكس عمق الإشكال الثقافي في المغرب، ويبين أننا لسنا مجتمعا قارئا، وربما لسنا مجتمعا كاتبا أيضا...وبما أن الأمر كذلك، وإذا كنا مصرين على توظيف مصطلح الأزمة فإن ذلك لايقترن براهن الحال بقدر ما يرتبط بأزمة الأسس، نتائجها تسائل الدولة بمؤسساتها المعنية بالشأن الثقافي أو بتدبير الشأن العام المحلي والجهوي والوطني،مثلما تسائل دور النشر وطرق اشتغالها. إنها المسؤولية المركبة التي تفرض تقديم قراءة مغايرة. سنعمل في هذا الجزء على استحضار ما تعتبره الكثير من الدراسات والمواقف الإطار المسؤول عن أزمة القراءة، لكننا سنقدم وجهة نظر مباينة لها. - النموذج الأول( الإعلام ):لإبر از أزمة القراءة بالمغرب يتم عادة تقديم نسب قراءة الصحف. وأعتقد أن الأرقام التي تقدم، عادة، لتبرز تراجع المقروئية لاتطرح السؤال عن نسبة المسؤولية التي يتحملها الإعلام ذاته بمضامينه ومحتوياته ولغته، ومدى قدرته على إثارة نهم قراء جدد. ففي الأرقام التي قدمها "مكتب التحقق من الانتشار" سنة 2013 يبدو الجفاء واضحا في علاقة القارئ بالصحف حيث إن سقف مبيعات الصحيفة الأولى لايتجاوز 90 ألف نسخة يوميا،بينما لاتتجاوز نسبة قراءة بعض الجرائد الحزبية 379 نسخة يوميا. في تفسير نتائج التشخيص يتم ، عادة، الحديث عن غياب القارئ دون أن يتم التساؤل عن الأسباب الأخرى، وعن مسؤولية الخطاب السائد في الإعلام، وعن مدى التزامه بالمعايير المهنية والأخلاقية ناهيك عن احترام الضوابط المعرفية واللغوية. - النموذج الثاني ( المنظومة التربوية) من الأحكام الجاهزة أيضا أثناء الحديث عن أزمة القراءة ربطها بالمنظومة التربوية دون تنسيب هذا الحكم.ففي التعليم ما قبل الجامعي يتم ربط ضعف القراءة بتكريس المدرسة الكتاب المدرسي باعتباره الوسيط المعرفي الأوحد دون العمل على جعل القراءة مكونا مركزيا ضمن المنظومة ككل. وهنا أيضا تواجهنا تساؤلات مركبة أبرزها: ما المعدل الوطني المطلوب من المدرسة ؟، فنحن نريدها أن تقوم بالوظائف البيداغوجية والمعرفية والقيمية، ونحملها مسؤولية أزمة التشغيل، وأزمة القراءة... وهي تهم تضيع بوصلة التحليل. وإذا اقتنعنا أن المدرسة لاتخلق الطلب، بل تلبيه استطعنا أن نجعل المسؤولية خارج نطاقها، إنها مسؤولية تخطيط واختيارات تهم الدولة أولا وأخيرا . وإذا انتقلنا إلى الجامعة لابد من التذكير بأن التقاليد الجامعية في المغرب ليست عريقة؛ فتاريخ تأسيس أول جامعة في المغرب المستقل تعود إلى 1957 بالرباط،وأول شهادة (للباكلوريا المغربية )كانت سنة 1963. لكن ذلك لاينفي عن الجامعة مسؤوليتها في دعم القراءة، بل وجعلها مرتكزا من مرتكزات التقويم... غير أن كل ذلك رهين بإيجاد أجوبة عن تحديات مجتمعية أهمها مراجعة عوامل التمثل السلبي للمؤسسة التعليمية بمختلف مستوياتها،وربطها بإنتاج المعنى وترسيخ القيم الإيجابية، وتجاوز منطق إشاعة الإحساس بلاجدوى المعرفة، والقراءة جوهرها.وتمكين المنظومة التربوية من تجاوز ما يعتبر اختلالات كبرى مثل:الإخفاق في مجال محاربة الأمية و الهدر المدرسي ومحدودية الفعالية الاجتماعية للمدرسة العمومية،والحسم في تدبدب الاختيارات اللغوية التي أدت إلى انعدام الأمن اللغوي المتمثل في العجز عن التعبير عن الفكر بواسطة الكلمات، والتواصل الفعال مع الآخرين. وتجاوز النظرة التبخيسية للعلوم الإنسانية بدعوى أن البلاد تحتاج الأطر التقنية والعلمية في غياب أي دراسة علمية تؤكد فعلا طبيعة المهن التي سيحتاجها المغرب في أفق السنوات القادمة. - النموذج الثالث( الأسرة): تؤكد التشخيصات العفوية أن أزمة القراءة ترتبط بمسؤولية الأسر التي لم تعمل على ترسيخ قيمها في الأبناء،ولم تجعلها جزءا من معيشها اليومي.هذا الحكم يتحدث عن الأسرة المغربية دون استحضار الشروط السوسيو ثقافية التي تعيشها، ويتحدث عنها باعتبارها ممتلكلة لقرارها المعرفي والاقتصادي.وفي هذا الإطارنذكر بنتائج البحث الوطني حول الإستهلاك ومصاريف الأسر لسنة 2000-2001، وكذا البحث الوطني لمستوى معيشة الأسر 2007المنجزان من قبل المندوبية السامية للتخطيط حيث تم التأكيد على أن نسبة النفقات المخصصة لمجموع مكونات "التعليم والترفيه والثقافة" لا تتجاوز 3،6% من مجمل نفقات الأسرة المغربية. ولنا أن نتصور حصة اقتناء الكتاب داخل هذه الخانة الكبيرة التي يحظى فيها التعليم بالحصة الكبرى. ومعنى ذلك أن قيام الأسرة بدورها في تعميم قيم القراءة رهين بتأهيلها اقتصاديا ومعرفيا . - النموذج الرابع (البنيات التحتية): هل صحيح أن ضعف البنيات التحتية عامل مهم في تقوية أزمة القراءة بالمغرب؟ سنحاول فحص هذا الحكم بطريقتين:الطريقة الأولى وصفية تعتمد لغة الأرقام،والطريقة الثانية تستحضر تجربة مدينة الدارالبيضاء في هذا المجال. فما الذي تقوله الأرقام؟ تبين الأرقام أن هناك نقصا كبيرا في مجال البنيات المكتبية،حيث إن هناك مكتبة لكل 100000مواطن،ويصل العجز حسب معايير اليونسكو إلى 4000 مكتبة (أرقام وزارة الثقافة). لكن لغة الأرقام تواجه مأزقا حقيقيا عندما نستحضر الحكاية الثقافية لمدينة الدارالبيضاء التي تضم أكثر من عشرين مؤسسة جامعية، و مئات المؤسسات التكوينية والتعليمية، و أكبر سوق للكتاب بتواجد مقرات معظم دور النشر الوطنية، و جل المؤسسات الإعلامية وشركات الإنتاج الثقافي والإبداعي،و بها ينظم أكبر معرض ثقافي دولي بالمغرب،وتتواجد بها أكبر مكتبة في العالم مخصصة للغرب الإسلام،و تستقر بها جل البعثات الثقافية الأجنبية بمراكزها المتعددة، و تنظم بها عدة مهرجانات خاصة وعمومية في ميادين ثقافية مختلفة، و تتوفر على قاعات للعرض،ومعاهد موسيقية، ومدرسة للفنون الجميلة ..... لكن هل الدارالبيضاء مدينة القراءة؟ مدينة الثقافة؟...