في الآونة الأخيرة صدر ظهير رسمي عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب سطر مجموعة من الضوابط في إدارة الشأن الديني، كان على رأسها توجيه توصيات صريحة لأئمة المساجد بتجنب التحزب والانتماء إلى أي تيار سياسي حرصا على عدم زج المساجد وأماكن العبادة في المعترك السياسي بنصرة هذا الحزب أو ذاك. هذا في المجال الديني. بالمقابل، وفي المجال السياسي، نجد حزب العدالة والتنمية الحزب الإسلامي الذي يقود الحكومة الحالية ويشتغل داخل تعددية حزبية مختلفة القناعات الفكرية والأيديولوجية، نجد هذا الحزب لازال يكرس هيمنة الديني على السياسي في هيكلته وتصوره وآليات اشتغاله، ولم يستطع إلى حد الآن الاستفادة من الواقع المحلي والدولي ليسعى إلى بلورة رؤية فلسفية ومعرفية للعمل السياسي متحررة من هيمنة الوصاية الدينية الفجة، وغير منحازة لسلطة الفقيه أو المرشد الديني. يوضح ما ذهبنا إليه هنا ما لاحظناه في المشهد الانتخابي الذي جرى مؤخرا لاختيار رئيس جديد لحركة التوحيد والإصلاح، حيث شاهدنا ترشح عدة أسماء معروفة لتولي هذا المنصب في الحركة. والإشارة هنا إلى تقدم شخصيات تولّت مراكز وزارية كبيرة في الدولة كما هو الحال مع سعد الدين العثماني الذي كان وزيرا للخارجية في الحكومة الحالية قبل أن تسند هذه الوزارة لغيره فيما بعد. وأيضا ترشح مستشار عبد الله بنكيران لنفس المنصب، والذي فاز فعلا برئاسة حركة التوحيد والإصلاح أخيرا ليجمع هذا الأخير بين إدارتين تحت إمرته: إدارة تيار ديني واسع ذي امتداد عالمي، وإدارة مركز سياسي كبير كمستشار لرئيس الحكومة الحالية. أضف إلى هذا ما استدعته حركة التوحيد والإصلاح من شخصيات دينية عالمية كممثل حركة حماس الفلسطينية، وعصام البشير من السودان وعبد الفتاح مورو أحد أقطاب حركة النهضة بتونس بما يوضح أن الحركة تيار عالمي وليس تيارا وطنيا أو محليا فقط. هذه الروائز تنمّ بوضوح عن أن حزب العدالة والتنمية الخط السياسي لحركة التوحيد والإصلاح يعاني من غموض في معايير اختيار رجاله داخل الحركة كما داخل الحزب وفق خصوصية كل مجال من مجالات التسيير، كما أن هذا الحزب لا زال مرتهنا لإشراف التيار الديني الدعوي المتضخّم في الحركة والذي يتحكم بشكل مباشرة في إدارة قرار الحزب وتحديد كيفية اشتغاله. وهذا يبين أن العدالة والتنمية كحزب سياسي لم يستطع إلى حد الآن الاستفادة من خصوصية التجربة الوطنية أو الاستفادة من الواقع السياسي الدولي المعاصر، حتى يبلور رؤية معرفية مستقلة للعمل السياسي، ويحقق لنفسه كحزب سياسي نوعا من الاستقلالية الشفافة عن وصاية التيار الديني للحركة الاستقلالية التي يقتضيها منطق تحرير القناعات السياسية المبنية على المتغيرات الاستراتيجية والجيواستراتيجية. ولعل راهنية السياسي للدعوي في ثقافة تيار العدالة والتنمية يكشف بصريح العبارة عن وقوع خلط في التصور للمجال السياسي، وعدم وضوح في منهجية الاشتغال والتدبير لهذا المجال داخل الحزب. فأن نرى رجلا من حزب العدالة والتنمية مثل سعد الدين العثماني، تولى منصبا وزاريا عاليا في الدولة لمدة ليست بالقصيرة، ثم نراه يترشح فيما بعد لمنصب رئاسة حركة التوحيد والإصلاح، وأن نرى رجلا لا زال إلى حد الآن يشغل منصب مستشارا لرئيس الحكومة يتولى أيضا منصب رئيس حركة التوحيد والإصلاح، فهذه وغيرها مؤشرات فعلية على الخلط الحاصل داخل العدالة والتنمية بين الديني والسياسي بشكل هجين: الخلط بين رجل الدين المتفرغ للمجال الديني في أعلى مستوياته داخل التيار وبين رجل السياسة الواجب أن يتفرغ لإدارة العمل السياسي ممارسة وتطبيقاً، وكأنه لا فرق بين رجل الدين ورجل السياسة وبين إدارة العمل الديني وإدارة العمل السياسي، فهما حسب هذا الفهم سواء في الاعتقاد والاشتغال والتدبير بحيث يصلح من يدير العمل السياسي لإدارة المجال الديني والعكس بالعكس. من هذا المنظور، نسجل الملاحظات التالية: - النقص الواضح في أطر الحزب وكوادره التي يُملي الحاجة إليها كل مجال من مجالات اشتغال واهتمامات حزب يضع نفسه في واجهة قيادة الحكومة أمام أحزاب وطنية وتاريخية، هذه المجالات التي تتنوع بين المعرفية منها وبين الثقافية والتنظيرية والتدبيرية.... - الخلط الواضح في ثقافة تيار العدالة والتنمية بين المجالات المجتمعية ومتطلبات إدارتها وتسييرها، بما ينفي فكرة التخصص واحترام خصوصيات كل مجال معرفي أو مجتمعي وما يحتاجه كل مجال من رؤية وثقافة متخصصة تستوجب التفرغ واختمار الممارسة في المجال، والاستفادة من التجارب المحققة للتراكم المعرفي والمنهجي والتدبيري وفق مقتضيات كل حقل من الحقول المجتمعية. - خضوع الخط السياسي للعدالة والتنمية لمنطق الوصاية: وصاية ثقافة المرشد. وهذا يجعل الرؤية السياسية في الحزب غير متحررة، بحيث تبقى قرارات الحزب السياسية محكوما في عمومها بإرشادات وتدخلات من لهم معرفة بالدين ولا قِبل لهم بممارسة السياسة والتدبير السياسي. وفرقٌ كبير بين الفقه السياسي والتنظير المثالي وبين الممارسة السياسية العملية والواقعية التي تحتكم لظروف القطاع المجتمعي المدبَّر ولمجال المدافعة ولمنطق الخبرة والحنكة في إدارة الشؤون العامة، والمرونة في الاشتغال، ومراعاة حاجيات القطاعات المجتمعية والفئات الاجتماعية على ضوء الإمكانات المتاحة وما يقتضيه فقه الأولويات، وطبيعة الظروف المحلية والدولية... فإذا لم تراعَ مثل هذه القضايا في العمل السياسي للحزب، فإن هذا الأخير يبقى رهين الابتلاء: 1- يبقى الحزب مبتلى بعقليات لا تستطيع الفصل المنهجي بين الديني والسياسي في ممارسة العمل السياسي. هذا الفصل المجالاتي الذي هو محض مقتضى الممارسة السياسية، وواجب فعل تدبير القطاعات في المجتمع والدولة. 2- يبقى الحزب مبتلى بالرقابة الفوقية غير السياسية التي تمارسها شخصيات دينية كوصاية فكرية ترى نفسها مكلفة شرعاً بالإفتاء بكيفية إدارة المجالات والقطاعات المجتمعية من غير ممارسة إدارتها شخصيا. - كما نسجل غياب الرؤية الواضحة للعمل السياسي في حزب العدالة والتنمية بغياب فقه التجربة السياسية. وهذا يفصح عن النقص في القراءة الواعية للعمل السياسي المعاصر، كما يفصح عن الخلط في الحزب في منظومة المفاهيم والمصطلحات المعتمدة في قاموس رجال حزب العدالة والتنمية، بما لم يحرر هذا القاموس السياسي من المنظور الديني. ومثل هذا الخلط المفهومي وارتهان السياسي للديني بشكله الفجّ الممارس داخل الحزب قد يحُول دون إمكانية التحرير للفكري والأداتي والتنفيذي في الممارسة السياسية لحزب العدالة، مما يحرُم الحزب من إمكانات الانخراط الفعال في تدبير الشأن المجتمعي داخل البلاد، وصياغة المشاريع التنموية التي تقتضيها الظرفية التاريخية والحاجة القائمة في المجتمع. إن الخلط بين السياسي والديني في ثقافة حزب العدالة والتنمية يفقِّر التجربة والأداء والإبداعية في التدبير للقطاعات الوطنية الحيوية التي يقتضيها التخصص حسب المجالات، ويقتضيها واجب تفرغ أطر الحزب لإغناء ممارساتهم في التجربة السياسية، والإيمان بالتنافس الحر في إدارة شؤون قطاعات الدولة. وهذا الفقر في الفهم والتجربة يُبقي السياسي رهين عقلية التعالي والمثالية في الرؤية والتسيير، ورهين عقلية الاتهام والشتيمة للآخر. في حين أن الواقع المجتمعي اليوم يقتضي المهارة والحنكة والمعرفة المتعمقة بالأشياء والتدبير المحكم، والتخطيط الإستراتيجي وفق الأولويات بمقتضى إملاءات الواقع القائم... كل ذلك في ظل الإيمان بثقافة الانفتاح على التنوع والتعددية، والإيمان بالاختلاف في وجهات النظر مع باقي الشركاء والفاعلين السياسيين في الوطن، والنظر إلى القضايا والمشاكل القائمة بعين الواقعية والإمكانات المتاحة لا بعين التعالي والغوص في المثالية المطلقة والكلام العام المجيّش للأفئدة والوجدانات من غير حلول إجرائية وعملية فعالة وواضحة. وإذا كان الواقع السياسي يقتضي المنافسة والمدافعة مرة، ويقتضي التنسيق والتعاون مرة أخرى مع الشركاء في العملية السياسية، فإن الأمر يستدعي نوعا من الاستقلالية للعمل السياسي عن المجال الديني لتجنب الأحكام المسبقة، وادعاء ملكية الحقيقة الدينية ونفيها عن المنافسين والمخالفين. وارتهان حزب العدالة لثقافة الخلط بين السياسي والديني وعدم وضوح خطوط الفصل لدى رجال الحزب بين المجالين، قد يضخِّم في هذا الحزب الوصايةَ على الأفكار، والاشتغال بثقافة الاتهام والمحاصرة والإلغاء والتبديع والكراهية أكثر من الاشتغال بهموم مقتضيات ممارسة العمل السياسي، وفقه التدبير المجالاتي، ومواجهة المشاكل المتراكمة بروح الحنكة السياسية وخبرة التجربة في إدارة الشأن العام والقطاعات الحيوية ذات الأولوية في المجتمع. وإذا كانت بعض النصوص الدينية تحتاج على مر الزمن إلى إعادة نظر في تفسيرها وتحيينها، فإن فهمنا للسياسة وللعمل السياسي وتدبير مجالاته أحوج من غيره بهذه المراجعة في الأحزاب ذات المرجعية الدينية. كما أن مفاهيم مثل هذه الأحزاب في حاجة إلى إعادة نظر وتخريج وتصحيح وتنقية. ونفس الشيء مع آليات اشتغال هذه الأحزاب التي هي في أمس حاجة إلى نقد صريح من الداخل: نقدٍ يتطلب التحليل والتفكيك والتجديد والتطوير لها، وفي بعض الحالات، في حاجة إلى البدائل والتغيير فيها. كما تتطلب تجربة هذه الأحزاب الرفع من الكفاءة السياسية لأطرها وتحريرهم من تداخل المجالات والزئبقية في تولي المناصب. فالواقع يقتضي تأهيل الكفاءات السياسية، وتقديم أصحاب المشاريع الاجتماعية والتنموية المتحررة من الوصاية والقادرة على الاستفادة من الطاقات وتفجير المؤهلات والإمكانات لخدمة الشعب وبناء الوطن. فالنقد الذاتي الداخلي واجب في حق الأحزاب الدينية مثل حزب العدالة والتنمية، وواجب أن يطال هذا النقد العقليات والقناعات والرؤية ومناهج الاشتغال وآليات التدبير. وإذا غابت جرأة وشجاعة نقد الذات استبدِل تأهيل هذه الذات بنقد الآخر ورمي اللوم عليه بتخطئته وتجريمه دائما.