موكب الاستحقاقات التشريعية آتٍ من هناك! ومع اقتراب المخاض يتسارع إيقاع الركب، وترتفع دمدمة طبول الانتخابات لتختلط بالصهيل والعواء والخوار (وربما –أحيانا- حتى النعيق!)، وليمتلئ فضاء المعركة بأصوات لا تكاد تميز بينها حُداء الموجهين، وإلى أين تقاد كل هذه الجعجعة؟! فما إن يهدأ صليل الألسن الحادة، حتى تبدأ مقارعات الأقلام، لندخل دوامة جديدة من بلاغات الهجوم وبيانات الدفاع.. وهكذا دواليك كلما اقتربت مناسبة سياسية فاصلة! بداية المشهد الأخير من فصول التقاطب السياسي افتتحه بلاغ نشرته وكالة المغرب العربي للأنباء من دون توقيع نسبته لوزارة الداخلية يرد فيه على ما جاء في كلام السيد "عبدالإله بنكيران" خلال افتتاح مؤتمر "جمعية مستشاري العدالة والتنمية" (جَمُعَة). وفي تفاصيل الواقعة، قدم الأمين العام لحزب العدالة والتنمية "عرضا سياسيا"، حسب ما ذكر الموقع الرسمي للحزب (www.pjd.ma)، تطرق فيه لمجموعة من المستجدات على الساحة الوطنية، خاصة ما يهم الوحدة الترابية؛ إضافة إلى ما ميز العمل السياسي خلال الأربعين سنة التي أعقبت الاستقلال، وصولا إلى الواقع الحالي لبعض القطاعات وما تعرفه من اختلالات في الرؤية والتدبير. زيادة على ما يهم التسيير الجماعي والشأن الحزبي الداخلي. إلى هنا بدت كل الأمور طبيعية، خاصة وأن "بنكيران" التزم بنقاط يبدو أنها كانت مُعدّة سلفا (وفي الغالب بشكل جماعي) ولم يكن خطابه مرتجلا، ربما تفاديا لأي احتكاك غير محسوب كما وقع سلفا؛ الشيء الذي تكرر هذه المرة، مع جملة التشكيك في الرواية الرسمية للدولة عن أحداث 16 ماي 2003، حين صرح "بنكيران" بالقول: "إننا نشك في أنهم ربما كانوا يستهدفون بهذه الأحداث الحركة الإسلامية عموما، وحزب العدالة والتنمية خصوصا". وجد المتربصون إذن فرصتهم لتوجيه سهام النقد للعدالة والتنمية والتشكيك في مبادئه ومنطلقاته ومحاكمة نواياه وإخضاع أطروحاته لمحاكم التفتيش والمزايدة السياسية مجددا، ولعل قوة الخطاب المقرون بتحميل مؤسسات الدولة المسؤولية الأكبر في عدة ملفات (مغاربة تندوف، سبتة ومليلية، الفساد الانتخابي، ضعف الحكامة...)، ناهيك عن توجيه النقد لأطراف معينة في المشهد السياسي، زاد من ضيق صدر بعض الدوائر، التي لم تستسغ صراحة الموقف وحجة الواقع، لتجد نفسها مرة أخرى مدفوعة إلى تنصيب نفسها مدافعة عن دولة الحق والقانون وحماية المؤسسات. وبغض النظر عن معنى "التشويش" وعبارة "التحديات" التي يقصدها المنشور، يعترف البلاغ –ابتداء- بأن العمليات الإرهابية "كانت محط إدانة من طرف جميع مكونات الشعب المغربي"، وهو ما يفهم منه أن مكوّن الصف الإصلاحي (بوصفه أحد مكونات الشعب المغربي) بمختلف واجهاته، الدعوية منها والثقافية والسياسية، وبما فيهم "العدالة والتنمية"، أدانوا العمليات الإرهابية، والوقائع تشهد (إلى جانب شهادة الحق من بلاغ الداخلية) أن الإدانة كانت بشكل جماعي معبِّرٍ عن وحدة التوجه الوسطي –على تنوعه- في نبذ الغلو والتطرف كيفما كانت تمظهراته وأياً كان مصدره؛ وبالتالي فأحداث 16 ماي الإرهابية بمنطق البلاغ تنتفي بها –ذاتيا- مسألة المزايدة على "العدالة والتنمية" إلا إذا كانت الداخلية تعتبر الحزب المذكور، ومعه المنتسبين للهيئات الإصلاحية، خارج مكونات الشعب المغربي؛ وربما تلك هي الجريرة التي توقع هواجس بعض الدوائر المتنفذة إداريا في مطبات الخلط والخبط! أو على الأقل هكذا يبدو الطموح منتصبا برغبة القضاء على صوت المعارضة الفعالة والقوة الانتخابية الأولى بالبلد، لتخلو الساحة السياسية من أي منافس جدّي قد يربك حسابات التمكين السياسي للوافد الجديد في جولة الاستحقاقات المقبلة. العزف على وتر "الإرهاب" بأنامل الداخلية من خلال البلاغ الذي التقطته وكالة المغرب العربي للأنباء وسارعت ببثه كما تفعل مع أخبار حزب "البام"، لا يحمل في طياته أي خير يبشر بالتزام المؤسسات الرسمية الحياد في التنافس السياسي-الانتخابي؛ وفسح المجال للجميع -على قدم المساواة- لإبداء الرأي في مختلف الأحداث التي تعرفها الدولة، والتعبير عن المواقف السياسية تجاه القضايا التي تمس الشعب في أمنه النفسي والاقتصادي والروحي والاجتماعي والإداري... وما يعزز "عدم براءة" البلاغ ويؤكد نظرية تنويع التكتيك في تحجيم أداء "العدالة والتنمية" الميداني، هو أن واجهة الجرار الإعلامية ولسان حاله الجديد/القديم "لاماب" (وكالة المغرب العربي للأنباء طبعا!) ملأت صفحاتها السياسية بأخبار التنديد باختطاف المناضل "مصطفى سلمة ولد سيدي مولود"، ولم تترك اسم شخصية ذاتية ولا معنوية (يمكن أو لا يمكن تخيلها!) إلا ووضعت اسمها ضمن قائمة المنددين والمطالبين بالإفراج عنه، باستثناء "عبدالإله بن كيران" الأمين العام لحزب العدالة والتنمية الذي بدأ خطابه بتحية خاصة للقيادي السابق في "البوليزاريو" ونوه بموقفه الوطني في الدفاع عن مبادرة الحكم الذاتي من داخل مخيمات العار بتندوف. وكم هو مؤسف أن تلتقط الوكالة المتحيزة خبر التنديد من صحيفة غابونية في مجاهل إفريقيا وتتجاهل موقفا قويا داعما خرج من القاعة المغطاة التابعة للمركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله بعاصمة المملكة! فهل نعول على مثل هذا الإعلام المدجّن للإسهام في بناء صرح التنمية والديمقراطية؟ وهل أعمت الحسابات السياسية الضيقة بصيرة البعض حتى أضحى التنافس الانتخابي وتحقيق المكاسب الحزبية أولى من القضايا الوطنية، ناهيك عن تقويض المؤسسات السياسية والإعلامية وتوظيفها لبلوغ غايات يتيمة؟! مثل هذه "التحديات" هي التي وجب على وزارة الداخلية (كمؤسسة رسمية) أن تلتفت إليها وتدق ناقوس الخطر بشأن تصاعد حدتها، وما تنتجه من اختلالات عميقة تشوه صورة الخطاب الرسمي الواعد بالديمقراطية وجودة الحكامة وحسن التدبير... فعلى من تزايد الجهات التي تصدر مثل تلك البلاغات التي تريد لوزارة سيادية أن تصبح رهينة مواقف حزبية وحيدة ينعم فيها المؤسسون بنفوذ مستدام؟! إن أكبر مؤامرة تستصغر ذكاء المغاربة اليوم، كما في السابق، هو ترويج خطاب رسمي معسول لا يمت للواقع بصلة، وهو أشبه بمن يرش الملح في صحن فارغ ليلهي به البطون الجائعة؛ لدرجة أصبحت معها المؤسسات فاقدة لأي مصداقية، وأي خطاب يصدر عنها –ولو كان حقا- يُلحَق بسمعة المؤسسة الموسومة بأبشع صور الأنانية والانتهازية في الثقافة الشعبية والمخيال الجماعي. ولعل المقاطعة السياسية والانتخابية، وعزوف المجتمع عن مسايرة ركب "التحضر الإيجابي" رغم الجهود المبذولة والتراكم المحمود خلال العشرية الأخيرة، لأكبر دليل على أن المغاربة أذكياء بالقدر الذي يميزون فيه من يشوش فعليا على مواطنتهم وعلى جهود بلادهم في تحقيق الديمقراطية والتنمية الضامنتين للاستقرار والطمأنينة. ومازالت الأشهر القليلة المقبلة كافية ليبرهن كلٌّ من موقعه عن مدى احترامه لمبادئ التنافس الشريف في إطار الديموقراطية الحقة، وبالتالي احترامه لتطلعات المغاربة في بزوغ فجر جديد يعيد للسياسة ولو جزءا من سمعتها المهدورة بفعل مغامرات الدوائر المتمسحة بالأجهزة الرسمية، والتي تخطئ حساباتها مع التاريخ والوطن، وتفوت على الأمة فرصا ثمينة للتقدم والرقي والازدهار. وإن غدا لناظره قريب!