نُشر للمفكر المغربي المتميز الدكتور عبد الإله بلقزيز في جريدة "المساء" المغربية في عددها ال2457 (الأربعاء 20 غشت 2014) مقال تحت عنوان: "الجزيرة وداعش...من الجماعة إلى الدولة" يحذر فيها من هول خطورة هذه القناة التي تحولت، حسب رأيه، ليس فقط لتلميع "الإخوان" حصراً، "وإنما هي كانت -وما تزال- منبر حركات "الإسلام الحزبي" و"الإسلام الجهادي" في كل أقطاب العالم. وشد الأستاذ انتباه القراء ودعاهم إلى الا يغضوا الطرف عن قناة الجزيرة "القناة الوحيدة التي كانت تبث منها رسائل أسامة بن لادن، وما تزال تبث الرسائل الصوتية لخلفه أيمن الظواهري" واسترسل قائلا إنها "القناة الوحيدة التي تلمّع صورة "أنصار الشريعة" والجماعات المسلحة في ليبيا، وتتفوق على نفسها في الدفاع عنهم في مواجهة الجيش وخليفة حفتر". وحذر الدكتور من أن "جدول أعمالها (قناة الجزيرة) أوسع مما نتصور". وليعزز فكرته تساءل:" أليست (قناة الجزيزة) المنبر الإعلامي الأول ل"القاعدة" في اليمن "والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" مثلما كانت منبر أبي مصعب الزرقاوي و"القاعدة في بلاد الرافدين؟". ووصف القناة ب"المجاهدة" التي تتحاشى ذكر عبارة "داعش" مما "يعزى...إلى خوفها من تهديد الأخيرة من الانتقام" منها و"من كل من نطق اسم "الدولة الإسلامية" مختصرا". لكن الأستاذ يعود ويكتشف سرا أهم من سر الخوف ويتمثل في أن القناة تسمي التنظيم ب"الدولة الإسلامية" عوض نعتها ب"داعش" ل"ترسيخ عبارة "الدولة" في وعي المشاهدين ولا وعيهم، وتطبيعها واستبداهها بداهة من يقول بوجود دولة مثل مصر أو فرنسا أو ألمانيا!". ولعل القارئ يتلمس في أسلوب المفكر المغربي الهجاء عنده كسلاح سياسي دون مراعاة للحدود الاخلاقية، وتشاؤمه من واقع متصدع لحساب واقع أكثر شناعة لمحاصرة الآخر بالتسطيح الفارغ بواسطة قناة اخبارية. نحن هنا لن ننصب أنفسنا مدافعين عن قناة الجزيرة، بل صلب الموضوع هو ما جاء على الدكتور بلقزيز الذي تهجم على هذه القناة دون غيرها، ربما لأنه يحمل في نفسه شيئا من الحقد على القناة لأنها لا تستضيفه لإبداء آرائه القومية، أو لأنها ليست "ناصرية علمية" بالقدر المطلوب كما هي قناة "الميادين"، قناة غسان بن جدو، البعثية السورية التي تستضيفه ليتحامل على الفكر الإسلامي وعلى الإخوان في مصر حالما بإحياء "الإيديولوجية العرقية" بكل ألوانها النازية والفاشية. فقناة الجزيرة "المجاهدة"، على حد وصف الدكتور، اصطفت إلى جانب الإخوان وحماس وداعش والنصرة وغيرها من الحركات الإسلامية "الإرهابية" الراديكالية، إما عن قناعة أو عن "خوف" من داعش (يستعمل الاستاذ الخوف كعامل نفسي ومؤشر جيد قد يدفع الشخص ان يكون أكثر تيقظاً) حتى لا تهاجمها في عقر دارها، كما تفعل هذه الجماعات مع نظام بشار السوري المجرم الذي يدك البنايات فوق رؤوس مواطنيه ويجرب عليهم المواد الكيماوية السامة كما علمه والده حافظ السفاح الذي تعلم فنون القتل والسجن والإبادة -إلى جانب صدام حسين ومعمر القدافي- من كبيرهم جمال عبد الناصر. لماذا لا يجابه استاذنا، بنفس المقياس الذي تعامل به مع قناة الجزيرة، تطرف "الفكر" البعثي العربي العنصري الذي تروج له قناة الميادين، ويفضحها ويفضح أوهام التطرف القومي الذي تسبب، منذ مجيئه إلى الحكم والى غاية سقوطه، في الكوارث العسكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، كوارث لا تزال الشعوب العربية تدفع ثمنها غاليا؟ المؤسف في الامر أن هذا "الفكر" المتخلف لايزال يجد من يمجده ويقدم إليه خدمة جليلة ويحاول إحيائه مثل قناة "الميادين" ونخبة من المهووسين بالقومية العربية. نحن هنا لا نختلف مع الدكتور في أن حرب الإبادة التي تشنها عصابات داعش وحلفاؤها على المواطنين المدنيين عمل بربري وهمجي تدينه الأخلاق والمواثيق الدولية؛ ولكن الذي نختلف معه فيه هو أن يغض الطرف ويذهب إلى أبعد من ذلك ليساند، مباشرة على قناة الميادين، بربرية فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة التي ذهب ضحيتها، بين عشية وضحاها، أكثر من أربعة آلاف متظاهر مسالم. والكل شاهد مباشرة على قناة الجزيرة المجزرة التي حدثت في حق هؤلاء المعتصمين السلميين، وكيف ان الجرافات جرفت جثث الموتى وكأنهم بقايا من القمامة. أين تختلف هنا همجية الناصريين عن الداعشيين؟ لنكن صريحين ونسلم بصحة الاشياء حيث نقلت على الاقل القناة "الجهادية" هذا الحدث المروع، فيما كانت النخبة الناصرية منشغلة بزرع الفتن على قناة الميادين "الواقعية"، مصرة على أن المتظاهرين خارجون على القانون ويستحقون الموت والزوال (أليس الموت واحدا؟). هكذا يمارس أستاذنا الخلط المغلوط والمقصود ليشن الحرب على قناة الجزيرة من على منبر قناة الميادين، على كل من يخالفه الرأي بشكل لا يخلو من سوء نية لتصفية الحسابات. كان احرى بهذا المفكر المغربي، لو كان صادقا مع نفسه، أن يفضح تطرف قناة الميادين التي لا تفتح المجال إلا أمام الناصريين المعصومين من الخطإ والى كهنته الذين يزعمون أن لا حل ولا خلاص للخروج من الأزمة في مصر إلا بالرجوع إلى "فكر أبي القومية العربية"، عكس قناة الجزيرة التي تفتح المجال أمام كل الآراء دون استثناء أو حدود أو وطأة ضغط. والمتتبع لقناة الميادين يتنبه أنها تتعامل مع بربرية الداعشيين بنفس الطريقة التي تتعامل بها قنوات الإعلام الغربي ببث نبإ قتل الايزيديين الثمانين بدم بارد قبل التأكد من صحة الخبر، ليتبين لاحقا أن الخبر ليس بالصحيح تماما. إن تصرف قناة الميادين اللاأخلاقي والمنافي لكل الأعراف المهنية والصحفية المزورة للإخبار لصالح طرف على طرف، يحتم على أستاذنا أن يخلع عنها قناعها كما حاول فعل ذلك مع قناة الجزيرة. ربما أنشئت قناة الجزيرة، كما يحلو لأستاذنا ترديد ذلك، للدعاية للدين السياسي أو بالأحرى، وكما جاء على لسانه، لتبني "التطرف الإسلامي". نفس الشيء ينطبق على قناة الميادين التي أنشئت بعد الربيع العربي للدعاية الحصرية للقومية العربية والتباكي على سقوط الدكتاتوريات العربية ومحاولة انقاد آخر معقل للدول البوليسية والقمع الهمجي المعشعش في سوريا. إن الفظائع الدموية التي يقترفها بشار الاسد في حق الشعب السوري، أبوه حافظ الاسد هو من عبّد له طريق المضي فيها (لم توجد حينها لا داعش ولا النصرة) عندما ذبح، في ليلة واحدة، عشرة آلاف من المتظاهرين المسالمين في حماة (كما حصل في مصر مع السيسي) وتحاول قناة الميادين، ومعها أستاذنا، أن يقنعونا أن سوريا تواجه المؤامرة الصهيو-أمريكية لا لشيء إلا لأنها تمثل جبهة المقاومة والممانعة! كيف يمكن لقناة الميادين التي تطبل وتغرد وتزغرد ليل نهار لديكتاتور ومجرم حرب، ومعها شرذمة المثقفين العرب الذين يخافون على وضعهم الاقتصادي أكثر مما يخافون على حرية الشعوب المضطهدة، أن يقنعونا بان حافظ الأسد لم يبع الجولان لإسرائيل؟ لماذا لا تواجه قناة الميادين الحقيقة المرة وتخبر المشاهدين العرب بأن سوريا، حائط الممانعة، لم تطلق رصاصة واحدة على الكيان الصهيوني منذ 1973 إلى يومنا هذا؟ إن الكذب والتزوير للحقائق وفتح باب الفتن هي من خصائص المأجورين المساندين للانقلابات العسكرية، المتحاملين على السوريين والشعوب العربية من جهاد سمي "جهاد النكاح" نحو تغليب العداء لداعش على عداوة وديكتاتورية ودموية بشار الأسد. لماذا يتقزز أستاذنا من برنامج تميل فيه قناة الجزيرة إلى مجاهدي ليبيا ضد خليفة حفتر ولا يتقزز بنفس المقدار من برنامج قناة الميادين "حديث دمشق" المتحيز بالكامل للخراب والدمار والأسلحة الكيماوية التي لا يتهاون بشار في إلقاءها على مواطنيه (كما صنع صدام) والذي يبث مباشرة من العاصمة السورية؟ انه لمن الغريب ألا يفرق أستاذنا بين جهاد الليبيين ضد ديكتاتورية حفتر وجهاد الشعب السوري ضد دموية الأسد وبين محاولة قناة الجزيرة رصد هذا الواقع كما هو! أيجهل أستاذنا بأن خليفة حفتر كان حليفاً وثيقاً للقذافي عينه في الماضي، قائدا للقوات في حربه على تشاد، وتنكر له القدافي عندما وقع في أسر الجنود التشاديين؟ الم تجنده الاستخبارات الأمريكية في تشاد ونقلته بعد ذلك إلى ولاية فرجينيا الأمريكية لإقامة الشراكة وبناء العلاقة الوثيقة مع جهاز الاستخبارات الأمريكية التي دعمت مشروع محاولة اغتيال القدافي؟ وعندما سقط القدافي الم يعد حفتر إلى ليبيا، مباشرة من أمريكا، كقائد عسكري ليخطف الحكم من الثوار الليبيين (كما فعل السيسي في مصر) وليقف حاجزا منيعا أمام قيام أي حكومة ديمقراطية لقلب ليبيا الى قاعدة عسكرية أمريكية؟ أما حافظ الأسد فكل مؤلفات التاريخ تشهد أن الذي أتى به إلى الحكم هي المخابرات المركزية الأمريكية، ونفس الجهاز يحمي بشار الأسد اليوم للبقاء في الحكم. على أستاذنا المحترم أن يتساءل لماذا تتهيأ أمريكا حاليا لشن الحرب على داعش داخل سوريا؟ أليس حريا بها أن تشن الحرب على الديكتاتور بشار الدامي وعلى داعش المجرمة في نفس الوقت لتخلص المنطقة من شرور هؤلاء المجرمين؟ هذا هو الواقع كما يجب أن يكون وليس "الواقع كما هو" دون وازع من ضمير أو عقل يقظ.