في نشراتها الإخبارية المقدمة على مدار اليوم، كما في شريط الأخبار المثبت في أسفل الشاشة، «تنفرد» قناة «الجزيرة» القطرية بعدم تسمية حركة «داعش» بهذا الاسم المختصر، مثلما يفعل السواد الأعظم من القنوات الفضائية والصحف، في البلاد العربية والعالم، مصرة على تسميتها «الدولة الإسلامية»! وتزيد على ذلك -في الشريط المكتوب من غرفة التحرير والمبثوث على الشاشة- بأن تضع مزدوجين على عبارة إرهاب «دليل التحفظ» كلما اقترنت هذه العبارة بوصف أفعال «داعش» من قبل من يصفونها بذلك، وهم الأكثرية الكاثرة من البشر في الكرة الأرضية. لا نعتقد أن استنكاف القناة «المجاهدة» عن ذكر عبارة «داعش» يعزى إلى خوفها من تهديد الأخيرة من الانتقام من كل مَنْ نطق اسم «الدولة الإسلامية» مختصرا (وهو التهديد الذي رفعته «داعش» في وجه أهل الموصل بعد احتلالها أرضهم)، كما لا نعتقد أن القناة أرادت بهذا أن تتحرى الدقة في التعيين، لأنها -هي نفسها- لم تعودنا على تسمية «حماس» ب»حركة المقاومة الإسلامية» ولا تسمية «فتح» ب»حركة التحرير الوطني الفلسطيني»، لتشهد لها التسميتان -وسواهما- بتحري المهنية. ولذلك لا نتزيد أو نتجنى حين نقول إن الغاية من هذا الانفراد بإيراد التسمية كاملة إنما هي ترسيخ عبارة «الدولة» في وعي المشاهدين ولاوعيهم، وتطبيعها واستبداهُها بداهة من يقول بوجود دولة مثل مصر أو فرنسا أو ألمانيا! قد يكون الأمر مدعاة غرابة بالنسبة إلى كثيرين، فالقناة المشار إليها معروفة بانحيازها إلى «جماعة الإخوان المسلمين»، وبشدتها تجاه مخالفيهم (إلى الحد الذي رتبت فيه على بلادها ودولتها تأزيما للعلاقة بمحيطها العربي الخليجي، وبمصر وسوريا والجزائر وغيرها)، بل يذهب كثيرون -عن حق أو ظن- إلى القطع بأنها قناة التنظيم الدولي ل»الإخوان المسلمين»، أو المنبر الإعلامي الرسمي لخطابهم وسياستهم.. إلخ؛ فكيف لها في نظرهم أن تصبح، إذن، منبرا لتهذيب صورة «داعش» في نشراتها الإخبارية، وإغداق صفة «الدولة» عليها مئات المرات في اليوم الواحد؟ والحق أن هذه «النازلة» لا تعدو أن تكون أحد أمرين: إما أن مغازلة القناة ل»داعش» ونظيراتها تنتمي إلى سياسة إخوانية لا تجد حرجا في توسل حركات العنف التكفيرية أداة للضغط على خصومها، وتصفية الحسابات معهم بعد ضربهم الخناق على «الجماعة»، وإما أن جدول أعمال القناة أكبر من «الإخوان المسلمين» -كما نتخيل- ويتسع لحركات إسلامية أخرى غيرها. وفي الحالين: أكانت القناة مبرمجة على الموجة الإخوانية، ومتكيفة مع مروحة خياراتها التكتيكية، أم تتسع ل»الإخوان» وغيرهم وفقا لما هو مطلوب منها أداؤه، فإن القناة تؤدي دورا إعلاميا في غاية الخطورة، وأقل ما يمكن أن يوصف به هذا الدور أنها تضع نفسها تحت تصرف مشاريع العنف والتكفير والفتنة والحرب الأهلية: إخبارا وتبشيرا بها. وليس يعسر على المرء أن يجد، في سوابق أداء «الإخوان» والقناة معا، ما يستدل به على الفرضيتين، فمن جوف الأولين خرجت جماعات العنف والتكفير، مثل «الجهاد الإسلامي» و»الجماعة الإسلامية» و»الطليعة المقاتلة» و»الجماعة الإسلامية المسلحة».. وها هو أحد شبابها السابقين -من القطبيين- زعيما لتنظيم «القاعدة» اليوم. وهل في وسعنا أن ننسى أن «الإخوان المسلمين» السوريين تحالفوا مع «جبهة النصرة» (الفرع السوري لتنظيم «القاعدة»)، وحين وضعت الإدارة الأمريكية «جبهة النصرة» على قائمة المنظمات الإرهابية، دافع عنها «الإخوان» بشدة معتبرينها حركة «جهادية». هكذا تصح فرضية الاستصحاب الإخواني لجماعات العنف والتكفير، والتجلي الإعلامي لذلك التآلف في أداء القناة. ثم إن القناة، من وجه ثان، ما تكرست لتلميع «الإخوان» حصرا، وإنما هي كانت -وماتزال- منبر حركات «الإسلام الحزبي» و»الإسلام الجهادي» من المِلل والنحل كافة: هل ننسى أنها القناة الوحيدة التي كانت تبث منها رسائل أسامة بن لادن، وماتزال تبث الرسائل الصوتية لخلفه أيمن الظواهري؟ وهل ننسى أنها القناة الوحيدة التي تلمّع صورة «أنصار الشريعة» والجماعات المسلحة في ليبيا، وتتفوق على نفسها في الدفاع عنهم في مواجهة الجيش وخليفة حفتر (وتحمل على النواب الليبيين لأنهم اختاروا عقد جلستهم النيابية في طبرق -معقل خليفة حفتر- بدلا من طرابلس أو بنغازي: حيث أدغال الجماعات المسلحة)؟ أليست المنبر الإعلامي الأول ل»القاعدة» في اليمن «والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» مثلما كانت منبر أبي مصعب الزرقاوي و»القاعدة في بلاد الرافدين»؟ إن جدول أعمالها أوسع مما نتصوره، فلا يستغربن أحد إن هي أتت الأكثر. المساء : العدد :2457 - 20/08/2014