مرتيل: تجديد المكتب الإقليمي للجامعة الوطنية للصحة    وفاة ملاكم بعد أسبوع من فوزه باللقب الذهبي لرابطة الملاكمة العالمية    تشديد المراقبة بمحيط سبتة ينقل المهاجرين إلى طنجة    تأجيل تطبيق معيار "يورو 6" على عدد من أصناف المركبات لسنتين إضافيتين    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي إلى 45 ألفا و484 شهيدا منذ بدء الحرب    الاحتفاء بالراحل العلامة محمد الفاسي في يوم اللغة العربية: إرث لغوي يتجدد    الداخلة : اجتماع لتتبع تنزيل مشاريع خارطة الطريق السياحية 2023-2026    اليابان.. زلزال بقوة 5.1 درجة يضرب شمال شرق البلاد    ارتفاع ليالي المبيت بالرباط وسط استمرار التعافي في القطاع السياحي    خبراء "نخرجو ليها ديريكت" يناقشون موضوع مراجعة مدونة الأسرة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    هذا ما قضت به محكمة عين السبع في حق محمد أوزال    مدرب الوداد: بالنسبة للمغرب الفاسي كل مباراة ضدنا بمثابة نهائي الكأس    حصيلة الرياضة المغربية سنة 2024: ترسيخ لمكانة المملكة على الساحتين القارية والدولية    مطالب بإنقاذ مغاربة موزمبيق بعد تدهور الأوضاع الأمنية بالبلاد    حجم تدخلات بنك المغرب بلغت 147,5 مليار درهم في المتوسط اليومي خلال أسبوع    ترامب يطلب من المحكمة العليا تعليق قانون يهدد بحظر "تيك توك" في الولايات المتحدة    فرح الفاسي تتوج بجائزة الإبداع العربي والدكتوراه الفخرية لسنة 2025    الجيش الإسرائيلي يحتجز مدير وطاقم مستشفى كمال عدوان    فئات هشة تتسلم مساعدات بالرحامنة    ‪توقيف 394 مرشحا للهجرة في كلميم‬    مجلس الأمن يوافق على القوة الأفريقية الجديدة لحفظ السلام في الصومال    عائلة أوليفيا هاسي تنعى نجمة فيلم "روميو وجولييت"    دراسة: أمراض القلب تزيد من خطر اضطراب الخلايا العصبية    مونديال الأندية.. الوداد الرياضي يشارك في ورشة عمل تنظمها "الفيفا" بأمريكا    تقرير للفيفا يشيد بإنجازات الكرة المغربية في 2024    استثناء.. الخزينة العامة للمملكة توفر ديمومة الخدمات السبت والأحد    مباحثات مغربية موريتانية حول تعزيز آفاق التعاون الاقتصادي بين البلدين    مبادرة مدنية للترافع على التراث الثقافي في لقاءات مع الفرق والمجموعة النيابية بمجلس النواب    سطاد المغربي يهدد صدارة رجاء بني ملال    وفاة زوج الفنانة المصرية نشوى مصطفى وهي تناشد جمهورها "أبوس إيديكم عايزة ناس كتير تيجي للصلاة عليه"    الكعبي ينهي سنة 2024 ضمن قائمة أفضل الهدافين    التحقيق في فاجعة تحطم الطائرة الأذربيجانية يشير إلى "تدخل خارجي"    الرئيس الموريتاني يجري تغييرات واسعة على قيادة الجيش والدرك والاستخبارات    كيوسك السبت | الحكومة تلتزم بصياغة مشروع مدونة الأسرة في آجال معقولة    أزولاي يشيد بالإبداعات في الصويرة    حريق يأتي على منزلين في باب برد بإقليم شفشاون    البرازيل: ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار جسر شمال البلاد إلى 10 قتلى    النفقة و"تقاسم الثروة" و"إيقاف السكن" .. تصحيح مغالطات حول مدونة الأسرة    اقتراب مسبار "باركر" من الشمس يعيد تشكيل فهم البشرية لأسرار الكون    يامال يتعهد بالعودة أقوى بعد الإصابة    لأداء الضرائب والرسوم.. الخزينة العامة للمملكة تتيح ديمومة الخدمات السبت والأحد المقبلين    وزارة النقل تؤجل تطبيق معيار "يورو6" على بعض أصناف السيارات    نشرة إنذارية.. تساقطات ثلجية مرتقبة بعدة مناطق في المغرب من السبت إلى الإثنين    المدونة: قريبا من تفاصيل الجوهر!    بورصة البيضاء تغلق التداولات بالأحمر    ما حقيقة اعتزال عامر خان الفن؟    لقاء تواصلي حول وضعية الفنان والحقوق المجاورة بالناظور    2024.. عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية بين المغرب وقطر    استهلاك اللحوم الحمراء وعلاقته بمرض السكري النوع الثاني: حقائق جديدة تكشفها دراسة حديثة    الثورة السورية والحكم العطائية..    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطاعون الكبير .. عندما فقد المغرب نصف ساكِنته في القرن 18
نشر في هسبريس يوم 25 - 08 - 2014

كان المولى سليمان منشغلا بتوحيد البلاد ومد سلطته إلى النواحي الجنوبية وإخضاع القبائل المتمردة، حين عصف بالبلاد وباء الطاعون في سنتي 1799-1800.
ولأن هذا الطاعون كان الأشد فتكا من سابقيه وكانت له عواقب اجتماعية وسياسية وخمية وصفه الناجون من معاصريه بالطاعون الكبير حتى يميزوه عن الأوبئة التي كانت أخف وطأة منه. رغم أن هذا الوباء كاد يفني المغاربة إلا أن المخزن كان هو المستفيد الوحيد منه، رغم تضرره هو الآخر في جوانب أخرى.
الطاعون الكبير
لقد عرفت بلدان شمال إفريقيا سلسلة من الأوبئة خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، لكن المغرب لم يتأثر بها، إذ نعمت البلاد بعافية دامت نصف قرن، لكنها في الحقيقة لم تكن سوى هدنة انتهت بحلول سنة 1799.
المؤشر الذي جعل الناجين من الطاعون الكبير ينعتونه بهذا الاسم هو أرقام الضحايا التي لم يسق أن حصدها وباء من قبل، حيث وصل عدد الموتى بفاس خلال وباء 1750 إلى 300 قتيل في اليوم كحد أقصى، في حين تضاعف هذا الرقم ثمان مرات في سنة 1799، اي حوالي 2500، كما أشار إلى ذلك الفشتالي في "الابتسام" و محمد الأمين البزاز في "الأوبئة والمجاعات".
والنظر إلى أعراض هذا الوباء كما وصفها معاصروه فإن الأمر يتعلق بالطاعون الدملي. لقد تسرب هذا الوباء إلى المغرب من الجزائر عبر الحدود الشرقية، إذ لم يمر على ظهوره بالجزائر سنة واحدة حتى انتقلت العدوى إلى المغرب. كان من الممكن الحيلولة دون دخول هذا الوباء أو على الأقل التخفيف من حدته لو عمل المولى سليمان بنصائح ممثلي الدول الأوربية المتمثلة في الحجر الصحي، لكن السلطان رفض الأخذ بهذه الإجراءات التي أقامها القنا صلة الأوربيون بطنجة، معتبرا اللجوء إلى هذه الإجراءات الوقائية أمرا مخالفا للشرع.
من بين العوامل أيضا التي ساعدت على انتشار الوباء هزالة المحاصيل الزراعية لسنة 1798، بل وحتى محصول سنة 1799 الذي كان ينتظر منه أن يعوض خصاص السنة الماضية ضاع جراء اكتساح الجراد لبعض المناطق. هكذا مهد الجوع الطريق أمام الوباء وصير أجساد الناس مرتعا خصبا له.
المخزن ينشر الوباء
رغم أن الوباء تسرب من الحدود الشرقية إلا أن أول أعراضه ظهرت بمنطقة الريف ومنها انتقل إلى مدينة فاس وضواحيها... أما المناطق الجنوبية فقد وصلها الوباء عن طريق حركة الجيش باتجاه الرباط والجنوب.
بعد أن انتهى المولى سليمان من تمهيد البلاد قرر زيارة منطقة أسفي وعبدة ليجعلها هي الأخرى تحت حكمه، وليتلقى شخصيا بيعة عبد الرحمان بن ناصر الذي ظل متأرجحا بين الخضوع والعصيان إلى آخر لحظة...
خلال هذه الحركة رافق الموكب السلطاني عدد كبير من جيشي العبيد والوداية المصابين أصلا بالوباء، كان السلطان "قد نهض بجندين، جند من العسكر وجند من الوباء" كما قال محمد الضعيف الرباطي في "تاريخ الضعيف"... فساهمت هذه الحركة في انتقال الوباء من فاس إلى الرباط والمناطق الساحلية.
لقد زادت تنقلات السلطان عبر السهول الأطلسية الجنوبية من سرعة تفشي الوباء، وهو الأمر الذي جعل حركة السلطان محل انتقاد من طرف معاصريه نظرا لانعدام الحاجة الملحة لذلك. يقول صاحب "الابتسام": "لم يكن لسفره دليل ولا موجب".
بحلول شهر أبريل من سنة 1799 بلغ الوباء ذروته بكل من فاس ومراكش، إذ وصل عدد الوفيات، في الفترة الممتدة بين أبريل ويوليوز من نفس السنة، في فاس 1000 في اليوم الواحد. لقد عجز الأحياء عن دفن موتاهم وضاقت المقابر بالجثث ولم يبقى متسع من الوقت لتشييع الجنائز فلجأ الناس إلى دفن الموتى في مقابر جماعية. ففي مراكش التي بلغ فيها عدد الموتى 1800 في اليوم أصبح سكانها عاجزين عن دفن الموتى رغم توظيف حوالي مائة شخص لجمع الجثث من الأزقة.
وبحلول فصل الصيف خفت حدة الوباء بشكل كبير وتقلص عدد الوفيات بشكل ملحوظ. لم تكد البلاد تلملم جراحها حتى ارتفعت حدة الوباء من جديد بحلول فصل الخريف.
الوباء أكثر حدة في الجنوب
كان الوباء أكثر حدة في الجزء الجنوبي من البلاد، أما الجزء الشمالي فلم يتأثر بكيفية خطيرة إلا خلال فصل الربيع من سنة 1800. ففي تطوان لم يظهر الطاعون إلا في فبراير من نفس السنة. وفي مارس ارتفع عدد الضحايا بها ليصل 20 في اليوم، ليصل بعد ذلك في أبريل ما بين 130 و150 ضحية في اليوم، وهو ما شكل ذروة الوباء بالمدينة.
أما في طنجة فلم تتجاوز عدد الخسائر البشرية 30 في اليوم. وبانتهاء سنة 1800 كانت البلاد قد تخلصت من الطاعون، لكن آثاره ظلت بادية على مظاهر الحياة.
كان لوباء 1799-1800 آثار ديمغرافية بليغة، لقد أشار محمد المنصور في كتاب "المغرب قبل الاستعمار" إلى أن المغرب فقد جراء هذا الوباء ما بين الربع والنصف من مجموعة السكان. لقد تقلص عدد السكان إلى درجة عجز فيها الأحياء عن جمع المحاصيل الزراعية.
ففي فاس، وهي أكثر حواضر المغرب سكانا آنذاك، ظلت العديد من المنازل فارغة بعدما قضى الوباء على قاطنيها
المخزن يستفيد من الوباء
كان المخزن هو المستفيد الوحيد من هذا الوباء، فعلى المستوى السياسي ساعد الوباء في دعم جهود المولى سليمان في ترسيخ سلطته، وذلك بإضعاف قبائل عبدة ودكالة المتمردة. من جهة أخرى سهل الوباء على المخزن إخضاع بعض المناطق الساحلية التي طال عصيانها. لقد وجدت هذه المناطق نفسها مجبرة على الخضوع بعد هجرة التجار الأوربيين بعد تراجع التجارة البحرية.
وخلّص الوباء المولى سليمان من خصوم الأمس. فأخواه المولى هشام والمولى سليمان اللذان نازعاه على الحكم لمدة ست سنوات، لقيا حتفهما في هذا الوباء. وهو المصير الذي لقيه العديد من المتمردين. يؤكد صاحب كتاب " المغرب قبل الاستعمار" أن هذا ما جعل القنصل البريطاني يكتب بعد انتهاء الوباء مباشرة: "إن المولى سليمان يتحكم الآن في البلاد بكيفية تامة. فقد أصبح من المستحيل على الأقاليم الساحلية التي فقدت ساكنتها أن تقوم بأي تمرد ذي شأن".
وكان الوباء سببا وراء تكدس الأموال في خزينة المخزن وحل مشاكله المالية. فاستيلاؤه على أملاك العائلات الهالكة مكن المولى سليمان من ثروة هامة. ففي سوس وحدها كان متخلف الهالكين هاما لدرجة عجز معها موظفوا المخزن عن جمعه. وهو الأمر الذي جعله يستغني عن عائدات التجارة البحرية.
لكن هذا الوباء ساهم من جهة أخرى في إضعاف المخزن، فقد تضرر الجهاز الإداري بشكل كبير جراء هلاك العديد من الموظفين الأكفاء الذين يصعب تعويضهم. ناهيك عن هلاك العديد من المناصرين خصوصا الفقهاء والعلماء ومن لهم مكانة في المجتمع. الأمر الذي فتح الباب أمام جيل جديد من العلماء، وجد المولى سليمان صعوبة في مد جسور التواصل معهم.
رغم جسامة الاضرار الديمغرافية للطاعون، استطاعت البلاد تعويضها على المدى المتوسط، نظرا للارتفاع الهام في نسبة الولادات في بداية القرن التاسع عشر، ناهيك عن الرخاء الزراعي ووفرة المحاصيل خلال العقد الأول من القرن التاسع عشر، وغياب الأوبئة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.