لم يكن شعار "فلسطين هي البوصلة" مجرد شعار للاستهلاك السياسي أو الإعلامي، أو خطاباً للمناكدة والنكايات وقد امتلأت بها ساحاتنا الفكرية والسياسية، بل كان دعوة لتصويب الاتجاه الفكري والسياسي في خضم ما مرّ بالأمة من زلازل، وما عصف بها من أهوال، وما أثيرت فيها من عصبيات وغرائز متوحشة أحياناً. كان شعار "فلسطين هي البوصلة" مبنيا في جوهره على ركائز فكرية وإستراتيجية عميقة، مستخلصاً من تجارب وخبرات عديدة، كما من قراءات دقيقة لمجمل التحديات التي تحيط بأمتنا، وأولها دون شك إن كل من حاول الهروب من فلسطين، أو التخاذل في نصرتها، أو التآمر على شعبها، إنما لاحقته نار فلسطين ليكتوي بها، وعصفت به زلازل القضية الأم لكل قضايا الأمة، فيما كل من اختار المواجهة من أجل فلسطين أضاء نورها الدرب رغم ما يكتنفه من تضحيات وآلام. ولو جاز لي أن أعدد أسباب انتكاسات حركات وتيارات عديدة مرت في حياة امتنا وتاريخها المعاصر والوسيط والقديم، لأمكن اختصارها بمعادلة بسيطة إن كل هذه الانتكاسات كانت تقع حين يظن أهلها انه يمكن لهم أن ينأوا عن موجبات الأمن القومي واستحقاقاته، بل ان يجروا مقايضة بين فلسطين وبين أهداف الأمة الأخرى. البعض مثلاً أجلّ النضال الفلسطيني من اجل تحقيق الوحدة العربية، فلم يحقق الوحدة ولم يحرر فلسطين، والبعض ظن انه بعد تحقيق العدالة الاجتماعية يمكنه تحقيق العدل في فلسطين، فإذ به يبتعد عن تحقيق العدل الفلسطيني ولا يقترب من تحقيق العدالة الاجتماعية في بلاده. والمقايضة ذاتها تنطبق على أفكار من نوع تأجيل النضال من أجل فلسطين حتى نحقق التنمية والاستقلال الوطني والقومي، فلم نربح التنمية والاستقلال ولم نقترب بوصة واحدة باتجاه فلسطين. ومع ما يسمى "بالربيع العربي" خرجت أصوات وتنظيرات في أوساط عديدة، بعضها عقائدي تقع القدس في صلب عقيدته، تقول لنحقق الآن الحرية وسنصل إلى فلسطين غداً أو بعد غدٍ، تسرّبت هذه التنظيرات – لسوء الحظ - حتى إلى أوساط حركات مقاومة، وحركات جهادية، فأغرقتها في لُجّة احتراب أهلي ، وانقسام داخلي، وحروب طوائف ومذاهب، وغاب شعار التحرير الأساسي في لجّّة كرنفالات التدمير الذاتي المتنقلة من قطر عربي إلى آخر. انحرف بعض السلاح عن وجهته الأساسية، وابتعد بعض النضال عن غاياته الكبرى، ووجدنا تيارات رئيسية في الأمة، وفي مراحل تاريخية متلاحقة، تحيد عن الطريق الأساسي الذي "بوصلته فلسطين"... وبدا لكثيرين إن فلسطين لم تعد القضية، وأنها تراجعت في اهتمامات الأمة وانشغالاتها الكثيرة إلى مرتبة متأخرة جداً، لولا أن قلة من المجاهدين والمؤمنين والملتزمين بقوا قابضين على جمر فلسطين يواجهون العدوان تلو العدوان، والاتهام تلو الاتهام،" والشيطنة" دائماً وأبداً... في الحرب العدوانية الإرهابية الأخيرة على غزة وعموم فلسطين عادت الحقيقة الفلسطينية ساطعة سطوع الشمس، وانهارت التحليلات والتنظيرات التي تستهوي المتعبين، كما المنحرفين، بل وعادت فلسطين بدماء أطفالها ونسائها وشيوخها، وببطولات مقاوميها، خصوصاً في غزة إلى الصدارة من جديد، وبدا وكأن قضيتها لم تعد القضية المركزية للأمة فحسب، بل باتت كذلك مركز قضايا الإنسانية قاطبة، حتى ظن كثيرون أن جغرافيا العالم قد تبدلت، وسكانها تغيروا، وان العرب قد "فتحوا" بدماء شهدائهم وبطولات أبنائهم قارات الدنيا الخمس بدون قتال، بل بقوة الحق الذي عنه يدافعون . وإذا كان رفع شعار "فلسطين هي البوصلة" ضرورياً في السنوات الثلاث الأخيرة من اجل تصحيح المسار، بعد الكثير من الاعوجاج الذي أصابه، فان الترجمة الفعلية لهذا الشعار، وخصوصاً بعد كل ما تكبدته الأمة من خسائر جسيمة على كل صعيد، هو "إن فلسطين تجمعنا" في دعوة جامعة نُخضع معها كل صراعاتنا وخلافاتنا وتبايناتنا لصالح الصراع الرئيسي والتناقض المركزي مع العدو الصهيوني وحلفائه الاستعماريين. وما يعزز من سلامة هذا الشعار – الدعوة هو أن استعراضاً سريعاً لتاريخنا الحديث، كما القديم، يثبت بما لا يدع مجالاً للشك إن ما من مرة انزلقت الأمة إلى صراعات بين مكوناتها وتياراتها وقواها إلا ووقعت في مهاوي الهزيمة، وأتون التخلف والجهل وثالثهما التعصب ورابعهما الضعف والهوان. لقد شهدت العقود الستة الماضية، بشكل خاص، كل أنواع الصراعات بين تيارات، وداخل كل تيار، وبين أحزاب، وداخل كل حزب، وبين مكّونات، وداخل كل مكّون، فماذا حصد الجميع، بل ماذا حصدت الأمة كلها من جراء هذه الصراعات سوى النكبات والنكسات وبحار الدم والدمار تملأ بلادنا الواسعة. لم يكن في صراعات الداخل وحروبه رابح أبداً، إلا إذا أعتبر البعض إن إمساكه بتلابيب "بعض" سلطة هنا أو هناك لبعض الوقت، وبكثير من المساومات والتنازلات، هو ربح، ولكن في هذه الصراعات كانت الأمة دائماً خاسرة، وكذلك كياناتها الوطنية، ناهيك عن القوى ذاتها التي خسر مناضلوها حرياتهم في أحيان كثيرة، وحياتهم في بعض الأحيان، كما خسرت تلك القوى من سمعتها الكثير الكثير لا سيّما لدى من اعتبرت نفسها أنها قامت من اجلهم وللدفاع عن وجودهم ومصالحهم وهويتهم. شعار "فلسطين تجمعنا" ليس دعوة للقفز فوق خلافات وتباينات فكرية وسياسية قائمة بيننا، ومن المستحيل أن تذوب، ولكنها دعوة لإدارة الاختلاف بما يغني مسار الوطن والأمة ومصيرهما، كما لتنظيم التباينات بما لا يسمح بانزلاقها إلى مدارج الفتنة الدموية. شعار "فلسطين تجمعنا" هي دعوة لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين تيارات الأمة، عروبية كانت ام إسلامية أم يسارية ام ليبرالية وطنية، تنطلق ان ما من تيار واحد قادر على مواجهة التحديات كافة، بل إن ما من تيار إلا وبداخله اجتهادات وتمايزات، تجعل من بعضه مثلاً أقرب إلى بعض التيار الآخر من قربه إلى بعض المنتمين إلى تياره. لقد عاشت أمتنا في العقد الأول من هذا القرن أياماً ذهبية، ازدهر فيها منطق المقاومة وخيارها وانجازاتها في كل ساحة عرفت احتلالاً، وتحرك معنا فيها كل أحرار العالم الذي تحولت شوارع عواصمه ومدنه إلى شوارع عربية بفعل عدالة قضايانا ووحدة أبناء الأمة حولها. بالتأكيد، لن نستطيع تحقيق هذا الشعار الوحدوي الجميل "فلسطين تجمعنا" بدون حكمة في المراجعة وشجاعة في التراجع، لا سيّما إن القوى المتربصة بأي وحدة أو تقارب أو تلاقٍ كبيرة، بعضها بالتأكيد مشبوه، لكن بعضها الآخر مسكون بالتعصب والتخلّف وثالثهما الجهل. لهذا البعض، صادق النية والدوافع والموجود في كل التيارات، نقول لقد جربنا جميعاً أسلوب الإقصاء والإلغاء والاجتثاث بحق بعضنا البعض، وصدّقنا جميعاً، في مرحلة او أخرى ان حسماً لصالحنا قد يتحقق في أيام أو أسابيع أو حتى أشهر، فماذا كانت النتيجة؟! مزيداً من الدماء والدمار والخراب ومزيداً من الهيمنة الأجنبية على مقدراتنا وقراراتنا. إن شجاعة المقاومين الأبطال في غزة، كما في كل فلسطين، تحتاج منا بالمقابل إلى شجاعة سياسية وفكرية مماثلة، شجاعة في بناء الجسور بين تيارات الأمة ومكوناتها من اجل تحصين المتاريس في وجه الأعداء. حينها فقط نكون قد أعطينا لشعار"فلسطين هي البوصلة" معناه الحقيقي. فهل نجرؤ؟! - الامين العام السابق للمؤتمر القومي العربي ، رئيس المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن