في الجدال الدائر حالياً بين العديد من المثقفين والناشطين حول الصعود الإسلامي الحركي الذي رافق التحولات الثورية في العديد من أقطار الأمة، والذي انخرط في سجالاته بعض القوميين العرب، شعرت من واجبي، كأحد العاملين منذ عقود في إطار التلاقي القومي – الإسلامي، أن أُبدِيَ بعض الملاحظات المستندة إلى جملة وقائع ينبغي استحضارها كي لا نستعيد فصولاً مؤلمة من فصول العلاقات المتوترة بين تيارات الأمة، وأحياناً داخل التيار نفسه، بل وداخل الحزب الواحد. أولى هذه الوقائع: أن ما من أحد من القوميين العرب أو الإسلاميين يستطيع أن يقفز فوق فكرة التكامل بين العروبة والإسلام، بين هوية قومية جمعت على مدى القرون عرباً من كل الأديان، وبين عقيدة سماوية تجاوزت رسالتها حدود العرب لتصل إلى البشرية جمعاء وفي كل قاراتها. بل إن أحداً أيضاً لا يستطيع أن ينكر أن كل الصراع الذي دار على مدى العقود المنصرمة، وجرى إظهاره وكأنه صراع بين العروبة والإسلام، كان في جوهره صراعاً سياسياً بين قوى وأنظمة، تماماً كما كان الصراع داخل تيارات تحمل فكراً مماثلاً كالصراع الذي احتدم بين القوميين أنفسهم أو بين الإسلاميين أو بين اليساريين أو غيرهم، وبالتالي لا ينبغي تحميل العروبة أو الإسلام أو كليهما معاً مسؤولية هذا الصراع. ثانية هذه الوقائع: لقد اهتم التيار القومي العربي، من الناحية النظرية، على الأقل، بتأصيل فكري للعلاقة بين القومية العربية والإسلام منذ انطلاقة الحركة القومية العربية المعاصرة بكل مدارسها، فالبعث على لسان مؤسسه الراحل ميشال عفلق أكّد منذ عام 1943 على أن "العروبة جسد روحه الإسلام"، فيما شدّد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في كتابه الشهير "فلسفة الثورة"، على أن "الدائرة الإسلامية" هي إحدى دوائر ثلاث تتحرك ضمنها ثورة 23 يوليو التي قادها في مطلع الخمسينات وترجم موقفه يومها بإرسال بعثات الأزهر إلى العديد من دول العالم، لاسيّما الإفريقية منها، لتعليم القرآن الكريم انطلاقاً من قناعته بأن الإسلام يشكل عمقاً روحياً وحضارياً ونضالياً واستراتيجياً لمصر والعرب، وهو ما اتضح في مؤتمر باندونغ الشهير عام 1955، حيث ضمّ إلى مصر أكبر دولة إسلامية في العالم وهي أندونيسيا بقيادة زعيمها الراحل أحمد سوكارنو، ومعها الهند حيث يقيم مئات الملايين من المسلمين، وكذلك يوغسلافيا الموحدة بقيادة تيتو حيث كان المسلمون يشكلون حضوراً كثيفاً وفاعلاً، ناهيك عن زعماء أفارقة كالغيني أحمد سيكورتوري، والمالي موديبوكيتا، وكلاهما زعيمان لبلدين أفريقيين مسلمين، فشكّل المسلمون قاعدة كبرى في حركة عدم الإنحياز التي تمّ وتجويفها مع تنامي الهيمنة الأمريكية والصهيونية في العالم. ولقد كانت أولى ندوات مركز دراسات الوحدة العربية بعد تأسيسه في أواسط السبعينات من القرن الماضي في بيروت بعنوان "القومية العربية والإسلام"، وضمت أبرز الشخصيات الفكرية والسياسية القومية والإسلامية آنذاك، وخرجت بأن: "الإسلام هو جزء أساسي من المضمون الحضاري للقومية العربية"، تماماً مثلما كانت ندوة الحوار القومي – الديني التي أقامها المركز ذاته في أواخر أيلول/سبتمبر 1989 فرصة لكي يقوم أركان كل من التيارين بنقد ذاتي وشجاع لتجربته مع التيار الآخر، وتمّ خلالها الوصول إلى جملة قواسم مشتركة وضعت التيارين على طريق الدولة المدنية الديمقراطية وتم تجاوز جملة مصطلحات ومفاهيم كانت سائدة، أبرزها مفهوم "أهل الذمّة" وتطبيق الشريعة والتأكيد على دور المرأة في تولي مسؤوليات قيادية وقضائية في الدولة العربية المعاصرة. وكان المؤتمر القومي – الإسلامي عام 1994 من أولى المبادرات التي أطلقها المؤتمر القومي العربي الذي تأسس عام 1990، فالتقى من خلاله شخصيات فكرية وسياسية من التيارين القومي العربي والتيار الإسلامي على رؤى ومواقف مشتركة، لنجد بعدها مثلاً محامين قوميين وناصريين يدافعون عن إسلاميين معتقلين، لاسيّما في مصر، وانطلقت مبادرات دفاع عن قادة أسلاميين في أقطار أخرى، لاسيّما في تونس، وبعضهم بات اليوم يحتل مواقع بارزة سواء في هذين القطرين أو غيرهما من أقطار الأمة. فهل يعقل أن يقود وصول إسلاميين إلى السلطة في بعض الأقطار إلى مبرر لتبديد هذه الإنجازات، إما بسبب تسرّع من بعض الإسلاميين هنا أو بعض القوميين أو غيرهم هناك. وثالث هذه الوقائع: إن انطلاق المشروع النهضوي العربي (عناصره الست: الوحدة العربية، الديمقراطية، الاستقلال الوطني والقومي، العدالة الاجتماعية، التنمية المستقلة، التجدد الحضاري) أتى ثمرة جملة ندوات وحوارات نظمها مركز دراسات الوحدة العربية على مدى سنوات عشر تقريباً وشارك فيها مفكرون وباحثون من تيارات الأمة، قومية وإسلامية ويسارية وليبرالية، مؤكداً على أن العلاقات بين هذه التيارات انتقلت من مرحلة الجدل الفكري والشعارات العقائدية إلى مرحلة التلاقي حول مشروع نهضوي وبرامج تفصيلية تنبثق عنه، بل أكّد أن الالتزام بهذا المشروع هو مقياس الانتماء القومي العربي المعاصر، وأنضوى في ضوء هذا المقياس إسلاميون ويساريون وماركسيون وليبراليون وطنيون في إطار المؤتمر القومي العربي وشاركوا بدوراته السنوية الاثنين والعشرين، كما تلاقوا في إطار مؤتمرات شقيقة كالمؤتمر القومي – الإسلامي، والمؤتمر العام للأحزاب العربية، ناهيك عن دورات خمس للمؤتمر العربي العام والعديد من الملتقيات العربية الدولية التي انعقدت في اسطنبول ودمشق وبيروت والخرطوم والجزائر. ولم يكن سهلاً التعرّف، خلال هذه المؤتمرات إلى جذور الجذور الفكرية للكثير من المشاركين من خلال كلماتهم، فقد كانت الرؤية مشتركة، وما كان يبرز من خلافات كان حول قضايا سياسية يختلف حولها قوميون مع بعضهم كما يختلف إسلاميون ويساريون وليبراليون مع زملاء لهم في التيار ذاته. رابع هذه الوقائع: كانت في أن غالبية القوميين العرب كانوا في مقدمة الذين احتضنوا حركات المقاومة، لاسيّما الإسلامية منها كحزب الله، وحماس، والجهاد، ودافعوا عنها ورفضوا كل محاولة لمحاصرتها تحت هذا الاعتبار أو ذاك. فالجميع التقى حول المقاومة العربية والإسلامية في فلسطين والعراق ولبنان رافضاً كل التنظيرات المشبوهة التي حاولت أن تقيم الحواجز بين أبناء الأمة وحركات مقاومتها. خامس هذه الوقائع: أن الحركات التي ترفع شعار الإسلام، كما الحركات والشخصيات التي ترفع شعار القومية، ليست واحدة، بل كنا نجد إسلاميين يقاومون المحتل، في العراق مثلاً، فيما كان إسلاميون آخرون يختارون طريق التعامل مع الاحتلال والوصول إلى السلطة على متن دباباته، وكذلك كان هناك قوميون، بأكثريتهم، يرفضون المحتل الأمريكي، فيما كان بعض القوميين ينضوون في مؤسساته ومشاريعه. سادس هذه الوقائع: إن التحولات الشعبية الثورية التي شهدتها أقطار عربية عدّة كانت ثمرة تلاقي الإسلاميين والقوميين واليساريين والليبراليين، وإن كان علينا أن نعترف أن الوصول إلى السلطة في بعض هذه الأقطار قد أدى إلى خلافات، وربما صراعات، بين أبناء الثورة عموماً، ولم ينحصر الخلاف أو الصراع بين تيارات، بل كان وما زال، قائماً داخل كل تيار أيضاً. سابع هذه الوقائع: أن بعض التصريحات والتصرفات غير السليمة التي ترافقت مع صعود بعض الحركات الإسلامية على لسان بعض رموزهم، والتي انطوت على خروج صريح عن ثوابت باتت من مبادئ الأمة، كالموقف من القضية الفلسطينية والهيمنة الأمريكية وكرفض إثارة النعرات العرقية والطائفية والمذهبية التي يدينها الإسلاميون الحكماء والواعون كما يدينها القوميون وغيرهم من الواعين والحكماء من التيارات الأخرى. وإذا كان هناك من توجهات إقصائية لدى بعض المدارس الإسلامية، فعلينا أن نتذكّر أن معظم التيارات السياسية التي وصلت إلى السلطة، في ظروف سابقة، لم تكن بدورها بريئة من مثل هذه التوجهات، ولا مجال هنا للدخول في أمثلة وتفاصيل معروفة للجميع. ثامن هذه الوقائع: أن الالتزام بالديمقراطية يقتضي من كل تيارات الأمة أن تحترم خيارات الناس كما حملتها صناديق الاقتراع، تماماً مثلما يقتضي الالتزام بأبسط المبادئ الديمقراطية أن يحترم الفائز حق من لم يحالفه الحظ بالفوز المعارضة والاعتراض والسعي لكي يتحوّل هو الآخر إلى أكثرية في دورات انتخابية قادمة. بل أن أبسط المبادئ الديمقراطية هو احترام منجزات حققتها أقطار معيّنة في مجال تفاعلها مع روح العصر، وخصوصاً في مجالات العلم والثقافة والفنون والإبداع، وما نجم عن هذا التفاعل من نمط حياة حديثة لا يمكن تجاهله، بل أن الديمقراطية تعني خصوصاً احترام التنوع القائم في بعض المجتمعات باعتبارها مصدر غنى وثراء في هذه المجتمعات، وتعبيراً عن روح الانفتاح والمحبة والتفاعل التي حرصت عليها مختلف الأديان وفي مقدمها الإسلام. وفي هذا المجال فإن القيادات الإسلامية الواعية والمخلصة مدعوة بالدرجة الأولى إلى لقاء لمناقشة عدد من المواقف السابقة والتي سبق الاتفاق العام حولها. تاسع هذه الوقائع: أن تمتلك التيارات السياسية، غير الإسلامية، الشجاعة الكافية لأن تعترف بأن للصعود الإسلامي البارز والراهن أسبابه الذاتية المتصلة بدور الحركات الإسلامية وتضحيات مناضليها في مقاومتهم لأنظمة الاستبداد والفساد والتبعية، وبقدرتهم على التعبئة والتحشيد وبناء علاقات متبنة مع الجماهير، كما أن لهذا الصعود أسبابه الموضوعية المتصلة بعدم استفادة التيارات الأخرى، لاسيّما القومية منها، من الفرص التي أتيحت لها في العقود الماضية، وخصوصاً أنها لم تنجح دائماً في ترجمة مبادئها وبرامجها بالشكل المناسب بعد وصولها إلى السلطة، بل أحياناً بدت بعض ممارساتها على نقيض مع هذه المبادئ والبرامج. إن سرد هذه الوقائع بات ضرورياً اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لكي نمتلك جميعاً، إسلاميين وقوميين ويساريين وليبراليين، القدرة على استخلاص الدروس والعبر من تجاربنا القديمة والحديثة، فلا يتحكم غرور القوة بالصاعدين، ولا تتحكم عقدة الانتقام بمن يتراجع دوره ونفوذه، وهو ما يتطلب الإلتزام العميق بجملة مبادئ ينبغي الاحتكام إليها. أول هذه المبادئ: إن أمتنا ما زالت تواجه تحديات خطيرة، سواء ما هو خارجي مرتبط بسياسات ألهيمنة الاستعمارية والصهيونية، أو ما هو داخلي متصل بتداعيات عقود من الاستبداد والفساد والتخلّف عاشتها الأمة، وهي ما زالت متغلغلة في العديد من بنانا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن مواجهة هذه التحديات تؤكّد الحاجة إلى الحفاظ على وحدة قوى الأمة وتياراتها، فلا يظن من وصل إلى السلطة أنه قادر بمفرده، وبمعزل عن الآخرين على مواجهة هذه التحديات، ولا يظن من ابتعد عن مقاليد السلطة أن الدنيا قد انتهت مع ابتعاده، وأن لا طريق أمامه لاستعادة نفوذه إلاّ بتحطيم الآخرين ممن تقدموا عليه. وفي هذا الإطار لا بدّ من تحذير ضروري، بأنه إذا كانت القدرات التي يمتلكها من حملته هذه التحولات إلى مواقع السلطة اليوم لا تسمح له بأن يفتح على الفور معارك خارجية، فإنه في الوقت عينه مدعو أيضاً، أن لا تدفعه محدودية قدراته، إلى التنازل عن مبادئه وبرامجه التي ناضل طويلاً من أجل تحقيقها، ويسقط في رهانات خاطئة على الخارج، كما بدأنا نلمس ونسمع ونرى في تصريحات وتصرفات تصدر عن هذه العاصمة أو تلك. وثاني هذه المبادئ: أن نقد أي موقف أو تصرف خاطئ، يرتكبه أي فريق، هو بدون شك، واجب وطني تمليه اعتبارات مبدئية لا يمكن التساهل فيها، بل أن فيه فائدة لمن يوجه النقد إليه، ولكن الانتقال من النقد الضروري إلى القسوة المبالغ فيها سيعيد العلاقات بين تيارات الأمة إلى زمن دفعت فيه الأمة غالياً من استقلالها ووحدتها وتنميتها واستقرارها ورسالتها. النقد هنا ضروري أمّا القطيعة المدمّرة فهي ضرر، والخلاف في الرأي مهما اشتد يجب أن لا يحوّل بلادنا إلى ميادين لصراع عقائدي وسياسي دموي أو مدمّر، خصوصاً أن تكاتف جهود القوى الحيّة وحكماء الأمة يمكن له أن تجد حلولاً لكل أزمة، وتفاهماً لكل خلاف. ثالث هذه المبادئ: أن قضايا كبرى عاشتها، وما تزال، الأمة، كقضايا الحرية والتحرير، والوحدة والتقدّم، والعدالة والتنمية، ينبغي أن تبقى حاضرة في وعي الجميع، كما في ممارساتهم، فلا ينبغي اعتبار التدخل الأجنبي، بأي من أشكاله، وجهة نظر، ولا مهادنة العدو الصهيوني وأسياده مسألة خاضعة للتكتيك على حساب الاستراتيجية. وليس المقصود بهذا الكلام إحراج أحد أو إرباكه أو اتهامه بالتفريط، ولكن في الوقت ذاته ليس المطلوب السكوت عن أي سلوك ينطوي على التفريط بثوابت آمنت بها الأمة على مدى قرون وما زالت، وقد دفعت في سبيلها أعظم التضحيات، أياً كانت الاعتبارات الحاكمة لهذه التفريط. ورابع هذه المبادئ: إن التمسك بهذه المبادئ لا يعني أبداً، القفز فوق تفاصيل مؤرقة تقض مضاجع كل أبناء الأمة، بل إننا ندرك، كما بات معروفاً، أن الشياطين تكمن في التفاصيل، وأن لا طريق لمحاصرة هذه الشياطين (الآتية من معاقل العدو وأسياده أو من عروش بعض أتباعهم في منطقتنا، وهم معروفون)، إلاّ باعتماد حوار هادئ وهادف وعميق وجريء وصريح، يشارك فيه كل أهل النهضة بالأمة والساعين إلى وحدتها بعيداً عن تضليل فاق كل التوقعات، وعن تسطيح مضلّل أعمى العديد من الأبصار، وعن تعتيم مخلّ بات مسيطراً على العديد من العقول، وعن إثارة عصبيات مدمّرة أعاقت على مدى عقود نهضة الأمة واستقلالها وتقدمها، وافسحت في المجال لأن يصبح بعضنا عاملاً في خدمة مخططات أجنبية دون أن يدري، ناهيك بسيطرة أحقاد وصفها يوماً ثائر كبير كفلاديمير ايليتش لينين بأنها "موجه سيء في السياسة".