بعد الخطاب الملكي الأخير بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لعيد العرش، سيكون بوسع المحللين والكتاب الخوض بجرأة أكبر في شؤون السياسة ومقاربة جدية مؤسسات الحُكم في تعزيز الاصلاحات وبناء النموذج الديمقراطي المغربي، الذي يقوم على فصل السُّلط واحترام الحقوق وترسيخ دور المؤسسات الدستورية، وفق أحكام ومقتضيات الدستور الجديد، الذي صادق عليه الشعب في فاتح يوليو 2011 بنسبة لا تقبل الجدل. وإذا كان فينا من كان يُقدر أن ثمة ترددا في إعمال بنود الوثيقة الدستورية الجديدة، بعد استتباب الأمر لأصحابه، من حيث واجب ترسيخ فضائل الإنصاف الحقيقية وتكريس قيم المصالحة المجتمعية وتعزيز فرص المساواة والمناصفة بين الأفراد في الحقوق والواجبات، والنفاذ إلى عمق المشكلات الاجتماعية ورفع التحديات الاقتصادية وتطوير مقدرات البلاد وتنويع مواردها ومضاعفة إمكانياتها، فإن ثمة بالمقابل من يؤمن، مثلي، بقيمة الإصلاح المنتج، والهادئ والمتوازن، وبأهمية التدرج في مُطارحة الأفكار لتحقيق المطلوب. وحيث أن هذا التدافع الداخلي يفيد دائما في طرح البدائل الممكنة للإصلاح، فإن الوعي المتَّقد الذي جعل المغاربة يعملون، في الماضي، على تحصين الحدود أمام طموحات الغزو الشرقية والغربية، هو بالضبط ما يُحفزهم اليوم على ترسيخ حرية الاختيار وسيادة القرار الذي يؤمن الاستقرار، بما يتناسب مع إمكانيات البلد ويُلائم خصوصياته التاريخية والحضارية والدينية، ويجعله بمنأى عن الكوارث التي تكاد تعصف بعدد من بلدان منطقتنا العربية. ولذلك، نرى الناس يقفون بتلقائية وراء عاهل البلاد، للدفاع عن القيم المشتركة وترسيخ مبادئ الحرية والانفتاح، بما لا يمس بالحريات المدنية والدينية، ولا يتعارض، بالأساس، مع حرية المعتقد، ما دام ذلك لا يمس عقيدة الأمة، ولا يزعزع أركانها، كما تعارف عليها السلف ورسخها الخلف في "عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجُنيد السالك". وإذا كان جلالة الملك محمد السادس، ضامن هذه الحريات، قد باشر الإصلاحات بروح مقدامة قبل فترة طويلة من بداية الربيع العربي، حسب التقرير الأخير ل"أطلانتيك كاونسيل"، وهو مركز أمريكي متخصص في دراسات الشرق الأوسط، فإن ذلك قد مكن البلاد، ليس فقط من الحصول على "أعلى العلامات في الاستقرار، بل أيضا في التقدم في الإصلاحات الاجتماعية والسياسية". وسيجد قارئ هذا المقال من سيقول خلاف هذا الكلام استنادا إلى تقارير دولية أخرى تعتبرها الحكومة أحادية وغير موضوعية، تعزف على نغمة عدم احترام حقوق الإنسان، ومصادرة حرية الأفراد في التعبير والاحتجاج، واستشراء الرشوة والزبونية وفساد القضاء وغياب الشفافية في التنافسية الاقتصادية بسبب تداخل المصالح بين المال والسياسة، وضعف مؤشرات التنمية وارتفاع معدلات بطالة الخريجين واتساع خارطة الفقر وانتشار الأمية. وبغض النظر عن ما تتضمنه التقارير، سواء منها الإيجابية أو السلبية، فإن الميزان الحقيقي لقياس فعالية الأداء الحكومي تكمن في قدرة الحاكمين على توفير الأمن الجسدي والروحي والغذائي والصحي للسكان، بما يضمن كرامة العيش، في ظل المؤسسات وسيادة القوانين التي أبدعتها البشرية وتوافق عليها المجتمع وفق احتياجاته المحلية، وهو ما عبر عنه الخطاب الملكي في مفهوم التوزيع العادل للثروة على كافة شرائح المجتمع. وإذا كان الجميع على وعي بمحدودية الإمكانيات المتوفرة للدولة، في ظل مناخ عالمي متقلب، فإن ذلك لا يبرر أن يتقاعس المغرب، القوي بثروته البشرية، عن تأمين الحد الأدنى من المتطلبات، التي تحد من انعكاسات الأزمة وتقلل من آثارها على الاقتصاد، وذلك بتحصين الدخل القومي وتأهيل قطاع الصناعة وتطوير المقدرات الزراعية واستثمار تحويلات العمالة المغربية في الخارج وتحسين مناخ الاستثمار وتعزيز البنيات التحتية وتنويع مُنتجات قطاعي السياحة والخدمات. ولذلك فإن محطة عيد العرش لهذا العام لن تكون مثل سابقاتها، ذلك أن الاحتفال لا يحمل فقط رمزية التلاحم بين الملك والشعب، وتجديد العهد على الوفاء المتبادل بالالتزامات، بل يحمل في طياته كذلك رسائل جلالة الملك إلى المغاربة بسهره على مواصلة الإصلاح والدفع قٌدما بجهود الدولة لحل المشكلات المرتبطة بتعزيز الأمن والاستقرار وتحقيق رهانات النمو ومعالجة المصاعب التي تعترض الإقلاع الاقتصادي وتحسين بيئة الاستثمار الذي يوفر فرص العمل ومكافحة الفقر والأمية، وإصلاح منظومة التعليم والقضاء والصحة، فضلا عن رفع التحديات الخارجية المتمثلة في قضايا الإرهاب ومشاكل الحدود والمياه وتهريب المخدرات والاتجار في الأسلحة ومكافحة الهجرة غير الشرعية وجرائم الانترنيت والتحكم في التقنية المعلومياتية. ولتحقيق هذه الغايات، لابد من انخراط المؤسسات، بوعي ومسؤولية، في الدينامية الجديدة التي خلقها خطاب العرش، وذلك بتغيير العقليات وتطوير منهجية العمل لتواكب التحولات وتستجيب للمتطلبات وذلك بالقطع مع أساليب الاستقطاب والتوافق والمحاصصة، واعتماد معايير الكفاءة والاستحقاق واحترام مبدأ تكافؤ الفرص، والانفتاح أكثر على النخب الجديدة القادرة على المساهمة في التنزيل الحقيقي لمقتضيات الدستور الجديد. وستكون الاستحقاقات المقبلة، التي تتزامن مع ظهور نتائج الدراسة التي كُلف بها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بالتعاون مع بنك المغرب وبالتنسيق مع المؤسسات الوطنية والدولية المتخصصة لتقويم الرأسمال غير المادي للمغرب، فرصة لتكريس النضج الذي بلغه النموذج المغربي في الديمقراطية والحكامة وترسيخ دور المؤسسات وخلق آليات عملية تمكن من تحسين مبادرات التنمية، التي تفضي إلى ضمان توزيع عادل للثروة بين أبناء المجتمع. *متخصص في سوسيولوجيا الاعلام والاتصال