غالبا مع واقع الموت، ستأخذ حياة رجل دولة، كل دلالتها. يرتبط، مجرى تاريخه الذاتي، بنهر التاريخ الصاخب. يصير، بوسع الأخير، أن يبدي حكمه،مثلما نقول.لم يعد بوسع ذلك الرجل، إضافة شيء،مادام قد دافع عن رسالته. رسالة،أضحت أخيرا، مسموعة. لم يسبق، أن كانت لي معرفة شخصية بعبد الرحيم بوعبيد. المرة الوحيدة، التي اقتربنا فيها، كانت سنة1977،خلال محاكمة الدارالبيضاء،حين حوكمت إلى جانب أربعين من رفاق الاعتقال، بتهمة المس بأمن الدولة. لا أتذكر،جزئيات مرافعته، لكن مابقي عالقا منها،تلك الحماسة التي دافع بها عن حقنا في الأفكار التي آمنا بها، بينما الجميع يعلم، أنه، لايشاطرنا إياها. أبعد من اللباقة الفكرية لموقف كهذا، أستعيد معه اليوم،حدسه لنقاش ومعركة، يهيكلان الحقل السياسي المغربي،شيئا فشيئا،عبر رهانه المركزي على الديمقراطية . قد أفهم، رسالة بوعبيد، كما يلي :لا تنحصر الديمقراطية،في إقامة نظام سياسي،تحكمه القواعد والمبادئ التي نعرفها،دولة القانون،فصل السلطات،التعددية،حقوق الإنسان،إلخ.بل،تتجلى حقيقتها، عندما تصبح محفورة في الذهنيات والسلوكات الفردية والجماعية،ثم نمارسها بإحالة دائمة على إيتيقا فعلية. أفق، يحتم على هؤلاء وأولئك، من يطمحون إلى أن يكونوا ديمقراطيين،خوض معركة دائمة مع ذواتهم ضد المعتاد من الانغلاق والتعصب،وكذا شر السلطة المألوف، الذي يسكن كل واحد منا.إذن،يتحتم على صناع التغيير،الثورة على أنفسهم،وإلا فالنظام الديمقراطي،لن يكون لحظة تأسيسه غير قوقعة فارغة،شجرة بدون جذور ومجرى نهر جاف. يتحتم على المغرب،خلال يوم ما،أن يستوعب كليا تلك الرسالة،وإعادة وصلها بأخرى،مثل التي جاء بها علال الفاسي حين مدح باكرا، إسلاما بوجه إنساني،ينشغل باحتياجات الروح وكذا المدنية المعاصرة.أيضا،ضم الرسالة إلى ما يماثلها،لاسيما ماشكل منذ عشر سنوات،موضوع نهضة ثقافية،عبر المبادرة والمسؤولية المدنية والعلمانية والعدالة الاجتماعية. هي رسائل، تسمح بقفزة ديمقراطية،بقدر طموحنا إليها،وتضمن مرتكزها البشري،كي لا يبقى المغرب منتسبا إلى ديمقراطية فقيرة،بالتالي، ليس عليه فقط النجاح، على مستوى تطبيقها، بل، المساهمة في تطوير الفكر الديمقراطي،بشكل واسع جدا،لأنه ولنفصح عنها، دون مباهاة أو تواضع كاذب،لن تظل فكرة الديمقراطية امتيازا للأوطان ذات الديمقراطية العريقة. لقد رأينا بالفعل،أثناء حرب الخليج، مظاهر النكوص الذي أبانت عنه تلك البلدان، وتلاعباتها بالديمقراطية.أضحى،آنيا مصير الديمقراطية رهانا عالميا،فالنقاش بخصوص القضية،وماتقتضيه من تجديد للفكر،لايمكنها غير أن تنهج مسارا كونيا.قد تتأتى مساهمة كل شعب،بناء على تجربته وعبقريته الثقافية ومحنه.لذا عليه، انتشال نفسه،من الحلقة الجحيمية لاحتقار الذات التي يغذيها الاستبداد وكذا الإذعان للأقدار. سأنهي،هاته التأملات مع عبد الرحيم بوعبيد،بإشارة شخصية أكثر. التقيت منذ أشهر بمدينة بروكسيل،صديقا مشتركا، فنقل إلي عن الفقيد رسالة غير مباشرة. أخبرني،بأن بوعبيد مدمن على القراءة،معطيا ضمن قراءاته مكانة وافية للأدب،لاسيما،أعمال أهل وطنه،فأدركت لحطتها بوجود حوار سري،بيننا خلال كل تلك السنوات. لقد شكلت ممكنات حياة كل واحد منا،حاجزا دون أن نلتقي هنا أو هناك،كي نفصح بصوت حي عن ماعشقناه حتى النخاع وسقى حساسيتنا ثم أغنى أحلامنا. لكن، ماجدوى التحسر راهنا، على كل ذلك؟فالعمل الأدبي يشبه قنينة، يلقى بها وسط البحر،سينتهي بالوصول إلى ملتقطيه الحقيقيين، أولئك من ينتظرونه نظرا لمعرفتهم، أنه سيحمل لهم حرقة الأسئلة ذاتها وكذا نفس التطلع إلى فجر يستشرف عالما قابلا للحياة،يستحق حزن ومتاعب الناس. حتما،كان بوعبيد حاضرا في سلسلة الحب والحتمية، مرخيا السمع للغة التي اختارت القلق بدل اليقين. رجل سياسة، ناضل على امتداد حياته، بتجلد نادر، من أجل قناعاته ومثله العليا. لكن ما يجعله أيضا،أكثر قربا مني،تناوله ضعف المشاريع الإنسانية وكذا تعقد الميكانيزمات التي تنظمها.لم يؤلم هذا المحارب،الذي لايكل،تحمل ضعفه الذاتي،هنا يكمن سر قوته الهادئة،تلك المتعلقة برجل عرف كيف يواجه مصيره دون عجرفة أو ضعف. باختصار،هو إنسان بالمعنى الحقيقي للكلمة. هامش : *Abdellatif Laâbi :les rêves sont têtu ;écrits politiques ;eddif ; paris ; 2001 ;pp85 89