زنيبر يبرز الجهود التي تبذلها الرئاسة المغربية لمجلس حقوق الإنسان لإصلاح النظام الأساسي للمجلس    دلالات لزيارة رئيس الصين الودية للمملكة المغربية    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هكذا، عرفت " تشي "
نشر في هسبريس يوم 11 - 05 - 2010

]داخل حجرة صغيرة، بمدرسة قرية لاهيغيرا « la Higuera » البوليفية، أعدم إرنستو تشي غيفارا في اليوم الموالي لاعتقاله وبالضبط 9 أكتوبر 1967. رجل وصفه جان بول سارتر، بكونه : ((أكثر الكائنات كمالا في عصره)). هكذا، انتهت حياة ثوري، قاده طموحه النبيل للتخفيف من آلام المحرومين والفقراء إلى الأرجنتين، غواتيمالا، كوبا، الكونغو وأخيرا بوليفيا. الرئيس أحمد بن بلّة، التقى غيفارا مرارا بين سنوات 1962-1965، داخل الجزائر، التي شكلت أرض ملجإ لكل المناهضين للامبريالية في العالم.[
منذ ثلاثين سنة خلت، استفهم تشي غيفارا ضمائرنا. فيما وراء الزمان والمكان، يتردد نداء "تشي" وعلينا الاستجابة له : نعم، وحدها الثورة قد تصنع من الإنسان كائنا متنورا. نور، رأيناه يشع من جسده العاري، المستلقي في أقاصي نونكوازو Nancahuazu عبر صور كشفت عنها الجرائد ونقلتها إلى مناطق العالم الأربعة. كما أن مغزى نظرته الأخيرة، يستمر تأثيرها فينا حتى أعماق روحنا.
كان "تشي" شجاعا، وشهما واعيا، بجسد أنهكه مرض الربو. حينما، صاحبته بين الفينة والأخرى على مرتفعات "الشريعة" المطلة على مدينة البليدة، ألاحظ بأن حالته تتفاقم، فيكتسي وجهه لونا شاحبا. من قرأ عمله "يوميات بوليفيا"(1)، سيدرك إلى أي حد كانت صحته منحطة، لكنه واجه مع ذلك اختيارات جسدية ومعنوية مهولة، اعترضت سبيله.
يستحيل، التكلم عن "تشي" بغير استحضار كوبا، والعلاقات الخاصة التي جمعتنا، ثم درجة ارتباط تاريخه وحياته بهذا البلد الذي شكل وطنه الثاني، قبل تحوله إلى حيث وجهة نداء الثورة.
تعرفت على إرنستو تشي غيفارا إبان، الأزمة الدولة خريف 1962، نتيجة قضية الصواريخ وكذا حصار كوبا، الذي أعلنت عنه الولايات المتحدة الأمريكية. الجزائر، المستقلة آنذاك حديثا بحيث تشكلت أولى حكومتها، اقتضى الأمر أن أتوجه شهر شتنبر 1962 إلى نيويورك كي أحضر دورة الأمم المتحدة ويُرفع رمزيا العلم الجزائري فوق مقر هاته المؤسسة، تجسيدا لانتصار صراعنا التحرري الوطني ودخول الجزائر منتظم الأمم الحرة.
المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطنية، سبق له أن أكد ضرورة التوجه إلى كوبا بعد مرحلة نيويورك، وستكون أكثر من زيارة، فالأمر يتعلق بموقف وفاء ميز التزاماتنا السياسية. لقد سعت الجزائر، إلى أن تظهر علانية تضامنها المطلق مع الثورة الكوبية، خاصة في تلك اللحظات الصعبة من تاريخها.
صبيحة يوم 15 أكتوبر 1962، استقبلني الرئيس جون كينيدي في البيت الأبيض، حيث دارت بيننا مباحثات صريحة وحادة حول موضوع كوبا. حين طرحت عليه سؤالا مباشرا : "هل ستنتهون إلى مجابهة مع كوبا ؟"، لم يترك الشك يحوم حول أهدافه، فأجاب: "لا، إذا لم توجد صواريخ سوفياتية. لكن، نعم في حالة العكس". حاول كيندي، الإصرار كي أعدل عن فكرة السفر إلى كوبا انطلاقا من نيويورك مباشرة، بل ذهب إلى حد استحضار احتمال مهاجمة طائرة القوات الجوية الكوبية التي ستقلني، من طرف أفراد قوى المعارضة الكوبية المستقرة ب ميامي. أمام هاته المخاطر التي لم أتبينها جيدا، أخبرته بأنني ثوري جزائري فلاّق fellaga ضد فرنسا، بالتالي، لا ترعبني تهديدات الحركيين harkis سواء كانوا جزائريين أو كوبيين.
وصلنا إلى كوبا يوم 16 أكتوبر، استُقبلنا بابتهاج شعبي فائق الوصف. بناء على البرنامج، يفترض أن تجري المباحثات السياسية بين الوفد الجزائري والكوبي داخل مقر الحزب ب هافانا. لكن الأمور، جرت بطريقة مختلفة كليا، فما إن وضعنا حقائبنا في المكان المخصص لإقامتنا، حتى كسرنا البروتوكول، وانساب حوار مفتوح بين فيدل، غيفارا، راوول كاسترو ثم المسؤولين الذين كانوا برفقتي. دام، اللقاء ساعات وساعات، طبعا نقلت للقادة الكوبيين طبيعة الإحساس الذي احتفظت به جراء حديثي مع الرئيس كينيدي. حين، انتهاء وقائع جلسة ملتهبة تمت على طاولات متلاصقة أطرافها، لاحظنا بأننا استنفدنا عمليا جدول الأسئلة التي علينا دراستها، ولم يعد هناك من داع كي نلتقي ثانية في مقر الحزب. لذا، وباتفاق مشترك، سعينا على الفور إلى تفعيل برنامج زيارة جهات البلد.
وضع، يقدم فكرة عن علاقات تجردت كليا مما تقتضيه قواعد البروتوكول. ثم صار الأمر ميزة أساسية، ومعيار روابط وحدت بين الثورتين الجزائرية والكوبية، وكذا العلاقات الشخصية بيني وفيدل كاسترو ثم تشي غيفارا. سيتأكد، هذا التضامن بكيفية واضحة مع أول إنذار حقيقي للثورة الجزائرية، حينما برزت إلى السطح مشكلة تندوف شهر أكتوبر 1963. كان جيشنا فتيا، خرج بالكاد من معركة الحرية ويفتقد لأسطول جوي، بحيث لا يتوفر ولو على طائرة واحدة، كما تنقصه التجهيزات الميكانيكية. مع معطيات كهاته، هاجمته القوات المسلحة المغربية على أرض لم تكن تلائمه، فعجز عن توظيف الأسلوب الوحيد الذي يتقنه واختبره خلال معركة التحرير، أقصد : حرب العصابات.
يصعب تجريب ذلك في الصحراء بامتداداتها الواسعة والمكشوفة، على عكس جبال الأوراس، دجوردجورا، شبه جزيرة كولو أو تلمسان، باعتبارها فضاءات معتادة للجيش الجزائري حيث استوعب آلياتها وأسرارها. هكذا. قرر أعداؤنا ضرورة تكسير اندفاع الثورة الجزائرية، قبل أن تصبح قوية جدا وتهيمن على كل مجالها.
الرئيس المصري جمال عبد الناصر، هيأ لنا بسرعة التغطية الجوية التي شكلت نقطة ضعفنا. أما فيدل كاسترو، تشي غيفارا، راوول كاسترو ومعهم كل القادة الكوبيين، فقد بعثوا لنا كَتيبة تتألف من اثنين وعشرين مصفحة إلى جانب مئات الجنود، توجهوا نحو "بيدو" جنوب سيدي بلعباس، وقد قمت بزيارتهم، مظهرين استعدادهم لخوض المعركة، إذا استمرت حرب الرمال.
احتوت تلك المصفحات على جهاز للأشعة تحت الحمراء، يمكنها من العمل ليلا، سلمها السوفيات إلى كوبا، لكن وفق شرط واضح يتجلى في عدم وقوعها لأي سبب من الأسباب، بين أيادي بلدان العالم الثالث بما فيها الشيوعية مثل بلغاريا. غير أنه، بالرغم من قيود موسكو، وكسر للمحظور، لم يتردد الكوبيون في إرسال ذباباتهم، دفاعا عن الثورة الجزائرية التي يتربص بها الخطر.
من البديهي جدا، أن الولايات المتحدة الأمريكية، لها أيادي فيما وقع بتيندوف، فالطائرات المروحية التي نقلت الجنود المغاربة، ربابنتها أمريكيون. هي حتما، نفس دواعي التضامن الدولي، التي دفعت قادة كوبا، كي يرحلوا إلى ما وراء المحيط الأطلسي، نحو أنغولا وغيرها.
الوقائع، التي سبقت مجيء الفوج المدرّع، جديرة بأن تروى، ما دامت تُبيّن أكثر من غيرها مستوى العلاقات الخاصة مع كوبا. فخلال زيارتي لهذا البلد شهر أكتوبر 1962، شدد فيديل كاسترو على التزام بلده، بمنح مساعدة إلى الجزائر تقدر ب 2 مليار فرنك فرنسي. ونظرا، للوضعية الاقتصادية التي تعيشها كوبا، لم يكن بالإمكان توفير معونتها بالعملة الصعبة، بل في شكل مادة السكر. رفضت الأمر، إيمانا مني بأن كوبا تحتاج في ظل ظروفها إلى سكرها أكثر منا، لكن كاسترو لم يرغب في الاستماع.
بعد مرور سنة تقريبا،رست سفينة ترفع العلم الكوني بميناء وهران، وفي بطنها حمولة السكر التي وعدنا بها، ثم تفاجأنا أكثر حينما وجدنا معها عشرات الذبابات ومئات الجنود الكوبيين، جاؤوا لنجدتنا. وعلى ورقة انتزعها راوول كاسترو من دفتر مدرسي، كتب لي رسالة مقتضبة توضح موقفه التضامني. طبعا، من غير اللائق، أن نسمح لهذه السفينة تعود فارغة، لذلك ملأناها بسلع جزائرية، واستنادا إلى توصية السفير جورج سيرغيرا « Jorge serguera » ، أضفنا أيضا بعض الخيول العربية. هكذا، دشنت كوبا والجزائر، مقايضة خالية من أي طابع تجاري، متموضعة تحت سمة تضامن شكل عنصرا جوهريا لعلاقاتنا بالنظر إلى الظروف و(الإكراهات).
ظل تشي غيفارا مدركا خاصة للقيود المتعددة التي تعرقل وتضعف فعلا ثوريا حقيقيا، بل وحدود تحيط بكل تجربة حتى الأكثر ثورية، حين تصطدم مباشرة أو غير ذلك، مع القوانين الشرسة لقانون السوق وكذا، العقلية الميركانتيلية. لقد، انتقد ذلك علانية أثناء اللقاء الإفريقي الآسيوي، المنعقد بالجزائر شهر فبراير 1965. أيضا، الظروف المحزنة، لما آلت إليه قضية الصواريخ التي تم تنصيبها في كوبا، وطبيعة الاتفاق الذي وقعه الاتحاد السوفياتي مع الولايات المتحدة الأمريكية، كل ذلك أحدث شعورا بالمرارة. وقد كانت لي، بهذا الصدد سجالات قوية مع السفير السوفياتي بالجزائر. حيثيات، تزامنت مع الوضعية التي اتسمت بها إفريقيا، مما خلق ممكنات ثورية هائلة، دفعت "تشي" كي يعتبر بأن الحلقة الأضعف للإمبريالية، توجد في قارتنا، بالتالي ينبغي عليه من الآن فصاعدا تكريس كامل قواه قصد مواجهتها.
حاولت أن أشرح له، بأنها ليست أفضل طريقة من أجل المساعدة على النضج الثوري الذي يزداد داخل قارتنا، فإذا كان يفترض في كل ثورة مسلحة، بل ويتحتم عليها إيجاد روافد خارجية، فإن الأفق يلزمها كذلك، التفكير في تجذير قواها الذاتية التي ستسندها. مع ذلك، تمسك تشي غيفارا بأن يكون انخراطه مطلقا وجسديا، هكذا ذهب إلى كابيندا (أنغولا) وكونغو- برازيفيل، مرات عديدة.
رفض الطائرة الخاصة، التي أردت وضعها رهن إشارته بغية ضمان سرية كبيرة بالنسبة لتحركاته، لذا، استنفرت مختلف السفارات الجزائرية على امتداد كل المنطقة، قصد مساعدته. كنت أجتمع معه، بعد كل رحلة له إلى إفريقيا، حيث نقضي فترات طويلة ونحن نتبادل الأفكار. وخلال كل مرة، يعود مندهشا للغنى الثقافي الذي تتصف به القارة، لكنه في الوقت ذاته، يكشف عن عدم رضاه بخصوص علاقاته مع الأحزاب الماركسي المنتمية للبلدان التي زارها، مبرزا المفاهيم التي تثير غضبه. لقد خاب أمله، بعد تجربته في "كابيندا" Cabinda ثم ازداد الأمر، مع وقائع حرب العصابات مثلما شهدتها منطقة" " ex-stanleyville (2).
إضافة إلى صنيع "تشي"، اهتدينا وجهة سبيل ثان بهدف مد العون للثورة المسلحة غرب الزايير، وقد تجلت المساهمة الجزائرية من خلال إرسالها لأسلحة، عبر جسر حقيقي أقامته مصر، في إطار اتفاق بين جوليوس نيريري (تانزانيا)، عبد الناصر (مصر)، موديبو كايتا (مالي)، كوام نيكروما (غانا)، جومو كينياتا (كينيا) وسيكوتوري (غينيا). بينما، التزمت أوغندا ومالي بتقديم أطر عسكرية. وبمبادرة مني، اجتمعنا في القاهرة بغية تفعيل لبنات مخطط الإنقاد هذا، لكن ما إن شرعنا في تنفيذ خطواته حتى وصلتنا إشارة إحباط من قبل قادة الكفاح المسلح. هكذا، للأسف، وبالرغم من مجهوداتنا، جاء موقفنا متأخرا جدا، ثم ضاعت الثورة في وحل الدم بعد اغتيال باتريس لومومبا.
خلال إحدى زياراته للجزائر، نقل إلي تشي غيفارا التماسا من فيدل. ذلك أن كوبا، تعيش أجواء ظروف مراقبة صارمة، لذلك يصعب عليها تهيئ شيء جدي لصالح أمريكا اللاتينية، وإرسال جنود وكذا مجموعة أطر عسكرية، حصلت على تكوين في كوبا. بوسع الجزائر، إنجاز مهمة كهاته ؟ المسافة ليست عائقا جوهريا، بل على العكس، قد تخدم السرية التي يتطلبها نجاح العملية. دون تردد وعلى الفور، أجبت ب "نعم"، ثم بدأت عملية موضعة بنيات جديرة، باستضافة الحركات الثورية لأمريكا اللاتينية، تحت الإشراف المباشر ل تشي غيفارا.
إذن وبسرعة قدم ممثلو تلك الحركات إلى الجزائر، وقد اجتمعت بهم غير ما مرة صحبة "تشي". واستقرت، قيادتها العليا، بمرتفعات الجزائر، في منزل ريفي كبير يسمى "سوزيني" تحيط به الحدائق، قررنا رمزيا منحه إليهم، فضاء مشهور توارثناه جيلا بعد جيل. وفترة كفاح التحرير الوطني، شكل مركزا للتعذيب، مات داخله مجموعه من المناضلين والمناضلات. ذات يوم، قال لي تشي غيفارا : ((أحمد، لقد تلقينا ضربة قوية، فبعض العناصر التي تدربت في بيت "سوزيني"، أمسكوا بها على الحدود الفاصلة بين بلد وآخر (لا أتذكرهما حاليا)، وأخشى أن يكشفوا عنا نتيجة التعذيب)). انشغل باله، وخشي من افشاء سر المكان الذي نتمرن فيه على العمليات العسكرية، وسيدرك أعداؤنا الطبيعة الحقيقية لشركات الاستيراد والتصدير التي أنشأناها في أمريكا الجنوبية.
ترك تشي غيفارا الجزائر، وهو ما تزامن مع الانقلاب العسكري الذي وقع يوم 19 يونيو 1965، ووضعي تحت الحراسة. رحيله عن الجزائر وقتله في بوليفيا ثم اختفائي لمدة خمسة عشرة سنة، ينبغي تأمله في إطار السياق التاريخي للارتداد، بعد فترة انتصارات النضالات التحررية. تقهقر، دق ناقوس الحزن بعد القضاء على لومومبا وأنظمة العالم الثالث التقدمية، كما هو الحال مع نيكروما، كايتا، سوكارنو وناصر إلخ.
أما تاريخ 9 أكتوبر 1967، فقد نُقش في ذاكرتي بحروف من نار، يوم قاتم كُليّا، داخل مجرى حياتي كمعتقل معزول، حين أعلنت مختلف محطات الإذاعة خبر وفاة أخي، وبأن الأعداء الذين حاربناهم معا، أخذوا ينشدون زهوا بما ظفروه. لكن، بقدر ما نبتعد عن هذا التاريخ، وتتلاشى في الذاكرة أحداث حرب العصابات، التي انتهت ذاك اليوم في نانكوازو Nancahuazu، إلا وتحضر ذكرى "تشي"، بين ثنايا فكر أولئك الذين يناضلون ويأملون، فأضحى قطعة من نسيج حياتهم اليومية، أكثر من أي وقت مضى. شيء، لدى "تشي"، بقي ساكنا قلوبهم وأنفسهم، يخفون هذا الكنز في أعمق حيز من كينونتهم، سري وغني جدا، يلهب شجاعتهم ويؤجج طاقتهم.
ذات يوم، من شهر ماي 1972، صمت ثقيل يخيم على زنزانتي التي يحرسها بشدة مئات الجنود، كسرته جلبة كبرى، إنه فيدل، فقط على بعد مئات الميترات من هنا، كما علمت، يزور مزرعة نموذجية قريبة جدا. بالتأكيد، لا يعلم بوجودي بين جدران هذا المنزل الموريسكي المنعزل فوق هضبة، بحيث نرى سقفه، من أعلى قمة الأشجار. حتما، ولما يضمنه من شروط الاختفاء، أختير هذا المنزل سابقا من قبل الجيش الاستعماري، كمكان لممارسة التعذيب.
في تلك اللحظة، سيل من الذكريات قفزت إلى السطح، مجموعة وجوه، وشريط سينمائي بأكمله دحرجه الزمان، تتابع داخل رأسي، ثم توهجت صورة تشي غيفارا في مخيلتي مقارنة مع أي وقت سابق، منذ أن افترقنا.
في الحقيقة، أنا وزوجتي، استمر تعلّقنا ب "تشي" صورة كبيرة له زيّنت جدران سجننا، ونظرته ظلت شاهدا على حياتنا اليومية،أفراحنا وأحزاننا. صورة ثانية، صغيرة اقتطعتها من مجلة وألصقتها على ورق مقوى ثم وضعت لها غلافا بلاستيكيا، رافقتنا دائما في أسفارنا، لأنها أعز ما لدينا، تحتضنها اليوم بلدتي الأصلية "مغنية"، وبالضبط، في منزل أجداد رحلوا عن هذا العالم،حيث أودعنا أغلى ذكرياتنا قبل الذهاب إلى المنفى. صورة إرنستو تشي غيفارا، وهو ممدد، صدره عاريا، جسده يشتعل نورا، كثيرا من النور والأمل.
[email protected]
هوامش :
* أحمد بن بلة : القائد التاريخي لجبهة التحرير الوطنية الجزائرية. أول، رئيس للجزائر المستقلة سنة 1962. أطاح به، الكولونيل هواري بومدين شهر يونيو 1965. زعيم "حركة الديموقراطية في الجزائر".
** – Manière de voir, le monde diplomatique, n° 106 Aout- septembre 2009, PP 74-77.
1 – Enesto Guevara : le journal de Bolivie (Préface de François maspero), la découverte, Paris, 1995.
-2ما يعرف حاليا ب "كيزانغاني"، في جمهورية الكونغو الديموقراطية أو الزايير سابقا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.