تساءلنا قبل قرابة سنة: هل تحد حكومة العدالة والتنمية من تدريس الفنون والفلسفة؟ – ينظر مقالنا السابق على الرابط http://www.hespress.com/writers/88559.html - وقد كانت دواعي طرح هذا السؤال هو تحليل المعطيات ومقارنة مؤشرات التدبير الحكومي وما كان يجري بمصر خلال حكم الإخوان بما كان يخطط له على مستوى المغرب خلال بدايات حكومة حزب العدالة والتنمية، ومنها عدم تخصيص مناصب مالية لتوظيف أساتذة المادتين بالسلك الإعدادي مند ثلاثة سنوات، ومحاولة حصر تدريسية المواد الفنية والفلسفة وجعلهما اختيارية، مما يحتم ضرورة التنبيه إلى الأبعاد السلبية لمثل هذه الإجراءات والقرارات التربوية والثقافية على مستقبل البلاد. واليوم، والمغرب يجرأ على فتح ملف رأسماله الغير المادي وهو بصدد جرد وتقييم ثروته في هذا الشأن، حيث تشكل الثقافة والفنون والحرف والمعمار والتراث أهم مكوناته ورصائده، وهو المقوم الذي طالما نبهنا لأهميته القصوى المعنوية والتنموية في تقوية الإمكان المغربي وتطويره وتحريره ووقف نزيف الهدر الذي يطاله... في هذا السياق إذن، نتوقف لنتساءل وبكثير من الاستغراب كيف بنا أن نثمن ونطور رأسمالنا هذا في أبعاده الثقافية والأدبية والموسيقية والتشكيلية وغيرها، ونستفيد منه معنوياً وتنموياً في حين تسعى الحكومة إلى سن إجراءات محاصرة للتعليم الفني وللأنشطة الإبداعية وبتدابير لن ينتج عنها سوى قطع الأجيال الحاضرة والمستقبلية عن ماضيها ومقومها الثقافي الزاخر وإجهاض إمكانيات تطويره واستثماره!؟ وقبل توضيح بعض الواضحات وتقديم أفكار جديدة في هذا الشأن، نشير أننا لسنا مستعدين لهدر مزيد من الوقت في إعادة مناقشة البديهيات أو محاولة إقناع بعض الأطراف المتخلفة عن الركب بحيوية وأهمية تعزيز ودعم تعليم المواد الفنية في المدرسة المغربية، لثقتنا في عدم الجدوى من ذلك... بقدر ما نرمي للفت الانتباه، مجدداً، لما يتبدى كل مرة وبوضوح متزايد وعن تجاهل من محاولات ممنهجة لإفراغ المنظومة التربوية والتكوينية الوطنية من المحتوى الفكري الوازن ومن المضامين القيمية النسبية والحداثية بما في ذلك محاصرة الدرس الإبداعي والفكري الكفيل بخلق مواطن واع ذي شخصية متوازنة وفكر حر وحس نقدي ومناعة وجدانية، مقابل تثمين وتعزيز المقاربات التي تحركها رياح الأدلجة وتيارات الاستقطاب العاتية العابرة للأوطان. وللتذكير، فحضور مادة الفنون التشكيلية في المنهاج الدراسي والبرامج التعليمية وفضاء المؤسسات التعليمية خلال أكثر من ثلاثين سنة الماضية كان حضوراً ممتدا يتجاوز مستوى الفصل الدراسي وبنية استعمال الزمن إلى صعيد الحياة المدرسية والمحيط الاجتماعي والحياة الثقافية والفنية في المجتمع، حيث تؤكد العديد من المعطيات أن إدماج مادة الفنون التشكيلية في مراكز تكوين الأساتذة وفي المؤسسات الثانوية مند حوالي خمسة وثلاثين سنة كان السبب المباشر والرئيسي في التطور العام الذي عرفته وضعية الفنون التشكيلية في الحياة الثقافية وفضاء المجتمع، حيث ساهم التعليم التشكيلي في تكوين أكثر من ثلاثة أجيال من التشكيليين المغاربة الممارسين والملمين بالجانب النظري والنقدي، وفي تنمية التوجيه الفني الذي كان له أثر ملحوظ في ارتفاع عدد المهتمين والمزاولين للمهن الفنية المرتبطة بالتشكيل كالتصميم الإشهاري والطباعي والصناعي وفنون الديكور والتصوير والفيديو والسينما والسينوغرافيا، وللمبدعين في المجال الصباغي، كما كان لحضور المادة أثر ملحوظ على مستوى تطور الوعي البصري والجمالي في المجتمع وامتداداته الثقافية والاجتماعية. ونفس الشيء ينطبق على مادة التربية الموسيقية الفتية التي بدأ أثرها التعليمي يصل إلى محيط المدرسة وفضاء المجتمع. فالتفكير السليم والتدبير البناء اللذان يحركهما فعلاً الحرص على مصلحة أبناء المغاربة وحقهم في تكافؤ فرص التربية والتكوين والتنشئة الاجتماعية، وحقهم في تنمية مختلف مكونات شخصيتهم وانفتاحها بما في ذلك التربية على تذوق الفنون وامتلاك حد أدنى من كفايات الحس والممارسة الجماليين والثقافة الفنية التشكيلية والبصرية والموسيقية خلال مسارهم التعليمي والتكويني... مثل هذا التدبير يفترض الانكباب الجدي على توفير شروط التربية الفنية وتعميمها بغرض خلق مزيد من الفرص للأطفال والمراهقين المغاربة لاكتشاف مواهبهم وصقلها وتعريفهم بأشكال وأدوات التعبير والإبداع الفني. وهذا ما يتطلب التفكير التربوي الصعب والتدبير الحكامتي الناجع للإمكانات المتوفرة، والوعي بأبعاد ورهانات التربية الفنية والاجتهاد في الرفع من مكانتها وتفعيل وظائفها، أو على الأقل عدم إيكال مسؤوليتها لغير أهلها ممن يجهلها أو يحمل في ثقافته وتكوينه شيء من حتى ومن الضغينة والعداء الإيديولوجي لقيم الفن والحياة ولملكات الإبداع الإنساني. فالتفكير في إنشاء ما سمي ب"مراكز الفنون" بالجهات والأقاليم بل والجماعات كما بلغنا مما راج في اجتماعات إحدى مديريات وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني مع ثلة من التربويين والباحثين، وتثميناً لما قدمه الزملاء خلال الاجتماعات من اقتراحات وجيهة من موقع تخصصهم ودرايتهم البيداغوجية والتأطيرية والميدانية بالموضوع، لا يمكن أن يتم وفق منطق التعليمات وبشكل ارتجالي يفتقر إلى الإحاطة والإعداد الشامل وتوفير شروط الانجاز والنجاح – ينظر بيان جمعية مدرسي الموسيقى الصادر مؤخرا-. فتدريسية المواد الفنية، ونقصد مواد التربية التشكيلية والتربية الموسيقية والفنون التطبيقية والثقافة الفنية، ومناهجها الدراسية بكل من التعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي والتأهيلي بالمدرسة المغربية، ليست مجرد أنشطة ترفيه أو حصص ترف زائدة تثقل كاهل التلميذ، أو أنشطةً هجينة تتنافى والأخلاق وقيم المجتمع كما قد تتوهم أو تزعم فئات سياسية وإيديولوجية متزمتة... فوجود هذا المنهاج وإدماج هذه المواد في المنظومة التربوية يستند إلى الخيارات الكبرى للمدرسة المغربية والفلسفة والغايات التي تؤطرها، والتي هي نتاج سنوات من الكد والنضال والإصلاحات، وتتويج لتطور الوعي العام في المجتمع ونقاشه العمومي... وآخر الوثائق المؤطرة لتدريس المواد الفنية وهو الميثاق الوطني للتربية والتكوين ينص على أن تدريسها يسعى من بين أهدافه الكبرى بالابتدائي إلى تفتق ملكات الرسم لدى المتعلم المغربي، وإلى اكتساب الكفايات التقنية والفنية الأساسية بالسلك الثانوي. وبناءً على هذا فالخيار الحضاري والسياسي والمجتمعي الذي يعكس إحدى أبعاد المنظومة التربوية الحديثة في بلادنا يجعل كل تخطيط أو إجراء سواء على مستوى المناهج التربوية أو تنظيم الحياة المدرسية مطالباً بالاجتهاد في تصريف هذا الخيار وتوفير وتطوير شروط تفعيله، وكل محاولة للالتفاف على الوضع القائم حالياً أو تغييره إلى الأسوأ لا يمكن إلا رفضه، وتوضيح أبعاده وتبعاته السيئة على الحقل التربوي والتعليمي الوطني. فكما بلغنا عن ترتيبات المديرية المعنية بالموضوع، سواء على مستوى تدبير نظام التقويم كجعل تدريس المواد الفنية اختيارياً، أو على مستوى التدبير المنهاجي والزمني كتخصيص أماكن وأوقات معينة خارج استعمالات زمن المتعلمين الرسمية وخارج الفصول الدراسية وفضاءات المؤسسات التعليمية... نثير الانتباه إلى أن كل تفكير ومحاولات من هذا القبيل هي انقلاب صريح على الإطار التربوي العام وعلى المرجعيات القانونية والتعاقدية المؤطرة للمشروع والخيار التربوي والتكويني الوطني. فالتفكير في جعل هذه المراكز بديلاً لعملية تدريس المواد بالمؤسسات وتخصيص أماكن محدودة لإنشائها بعيداً عن مئات المؤسسات التي تدرس بها وأماكن سكنى الأطفال المتمدرسين، وتخصيص أوقات خارج استعمال الزمن العادي لتنشيط هذه المراكز والاستفادة منها كنهاية الأسبوع وما بعد الساعة السادسة مساءً...وتخصيص مراكز محدودة العدد والقدرة الاستيعابية لتعليم الفنون، واعتبار ذلك بديلاً لمنهاجها الدراسي الحالي، كل هذا يشكل مساً صارخاً بحق عموم الأطفال المغاربة وبمبدأ تكافؤ الفرص في التعليم المدرسي. كما أن تكليف المدرسين بمهام التنشيط بدل التدريس هو إجراء مثير للبس ويتنافى والنظام الأساسي لرجال التعليم، وسيشكل هدراً فعلياً للمقدور البشري وللتكوين وللمال العام وللكفاءات التربوية والوطنية التي تزخر بها المدرسة المغربية في هذا المجال. لذا، وانطلاقاً من هذه الاقتراحات العجيبة يتضح أن مبادرة المديرية المتسرعة تفتقد لأي أساس تشريعي وقانوني ناهيك عن أي تصور أو بناء بيداغوجي وتربوي مما يحكم عليها مسبقاً بالفشل. فما من تربوي عاقل أو مواطن متنور سيسمح بالإجهاز على كل الانجازات التأسيسية والتطويرية التي عرفها تدريس المادتين منذ عقود وإرباك مشروع إرساء وتطوير الدرس الفني والجمالي بالمدرسة المغربية، وفي ظل جو الغموض والإرتجال الذي يلف الموضوع، يتعين على الجهة أو الجهات المحركة لهذه المبادرة الملتبسة الإفصاح عن نفسها بوضوح والإعلان عن طبيعة ومصادر صلاحياتها وعن مرجعياتها القانونية والفكرية والتربوية، بدل الرهان على حسن نية بقية الأطراف وعدم إلمامها بخبايا الموضوع ومنه بعده الماكر! وفي الأخير، نلفت انتباه السادة الذين يبادرون بالإقدام على هذا الإجراء التربوي والإداري الملتبس أن الارتقاء بتدريس الفنون يشكل جزء أساسي من شروط نجاح المدرسة المغربية وتفعيل أدوارها الأساسية في التكوين والتنشئة وتأهيل الموارد البشرية. كما نحيلهم على أرشيف المذكرات الوزارية الصادرة خلال أكثر من ثلاثين سنة الماضية في شأن تدريس مادة الفنون التشكيلية بالسلكين الإعدادي والتأهيلي، وخلال قرابة عشرين سنة الأخيرة بالنسبة للتربية الموسيقية، الذي يحفل بعدة نصوص تأسيسية وتنظيمية تهم المنهاج الدراسي ونظام التقويم وتوفير الحاجيات وشروط التدريس...يمكنهم الاستئناس بها في بلورة مشروع تربوي وبيداغوجي فني حقيقي يستجيب لحاجيات المجتمع المغربي وللتصور التربوي الحديث. ومن هذه المذكرات التي تحتاج إلى التحيين وتعزيز مضامينها وأهدافها التشريعية والتربوية، المذكرة الوزارية رقم 23 بتاريخ 28 شتنبر 2005 الخاصة بمشاغل الفنون التشكيلية المعاصرة التي قدمت نموذجاً للوثيقة التنظيمية الواقعية والتي تعكس إلمام من صاغها بالمعنى الحديث للحياة المدرسية بمختلف أبعادها التربوية والثقافية والتدبيرية. وهي الوثيقة التي نصت ضمن أهدافها على خلق فضاء متفتح على المحيط الثقافي، وتعريف الإبداعات التشكيلية ومختلف المقاربات في مجال الإبداع بما يتيح الفرصة للمتعلمين لتطوير إبداعاتهم وتشجيع المنافسة بينهم، كما نصت على مستوى التدبير والتنفيذ على اعتماد حصة من أربع ساعات، ومبدأ تطوعية الأساتذة المنشطين على أساس إدراج ساعات المشاغل ضمن جداول الحصص الرسمية.