عَن دِفْءِالصَّدَاقَة ولَيَالِي مَدْرِيدالشِّتْويّة البَارِدَة تحلّ هذه الأيّام الذكرى الأربعينية للصّديق العزيز المرحوم الدكتور المهدي المنجرة، الذي وافاه الأجلُ المحتوم فى الثالث عشر من شهر يونيو الفارط ، تعرّفتُ عليه خلال عملي كمستشار ثقافي بسفارتنا بمدريد،فى الثمانينات من القرن المنصرم ، حيث كان يزورالعاصمةَ الإسبانيةَ وبعضَ المدن الإسبانية الأخرى بين الفينة والأخرى لإلقاء بعض المحاضرات فى العلوم المسستقبلية ،أو المشاركة فى العديد من الملتقيات، والندوات الثقافية الدولية وسواها من مجالات المعرفة، ولقد كتبتُ عنه فى بعض الجرائد الدولية الكبرى الصّادرة فى لندن التي كنتُ أكتبُ فيها بإنتظام إبّانئذ، كتبتُ عنه إعجاباً منّي به، وبمداخلاته القيّمة ، وعن مشاركاته الرّصينة فى هذه الملتقيات . كان رحمه الله ذا عقل راجح، وطبع لطيف، خفيف الظلّ ، يحبّ البسط، والنكتة الظريفة، والأطروفة الطريفة، والمستملحة الحلوة ،ويتميّز بتواضع جمّ يجعله يعلو فى أعين كلّ من قيّض الله له أن يتعرّف عليه عن قرب .كان يستعمل بإستمرارحاسوباً صغيراً لا يفارقة أبداً منذ ذلك الإبّان ،ويستخرجه خلال محاضراته ،ويسجّل فيه مداخلاته، ويدوّن ملاحظاته ، سواء كان محاضرا، أم مشاركا، أم مستمعا، ولم يكن يفارقه أبدا. وأتذكّر ذات مرّة أننا كنا نتعشى أربعتنا الأصدقاء الأعزّاء الأديب الوزيرمحمّد العربي المسّاري، والكاتب المبدع محمّد شقور، والمرحوم المهدي المنجرة، وكاتب هذه السطور ، فى أحد مطاعم مدينة مدريد بأحيائها العتيقة، وعندما ناولنا النادلُ قائمةَ الطعام ،وألقينا نظرة ًعَجْلىَ على الوجبات ، والأطباق التي كان يعدّها هذا المطعم، طلب منه المهدي رحمه الله شريحةَ لحم يسمّيها الإسبان Solo millo ويُنطق فى الأسبانية "سُولُو مِييّو " فقال للنادل بلغة سيرفانطيس : ( نَعَمْ "سُولُومِييُّو " لأننّي أريده أن يكون لي لوحدي،) أيّ ما معناه وكما يُنطق فى اللغة الإسبانية Solo mío .....)) ، فإنخرط الجميع فى ضحك طويل ...وطالت السّهرة .. ويا لها من سهرة، كنّا ضيوفا على طعام مزّ، وفكر خلاّق، وأدب رّفيع، وبعض السياسة والكياسة...وجَعَلْنَا ليلنا قصيراً ، ( يعني أنّنا قصّرنا فى ليلنا، ولكنّنا لم نقصّر قطّ فى صداقتنا،وعِشرتنا وأنسنا ...) وأنستنا هذه الأمسية اللطيفة الحافلة باللحظات السعيدة ،والهنيهات الممتعة، والأحاديث الشجيّة، والأقاويل الطليّة، أنستنا ليالي مدريد الشتويّة القارصة ،وملأها أو عوّضها دِفْءُ الصداقة مع مَنْ يُسمّيهم أو يُطلق عليهم " رينيه ديكارت" ( أنبل النّاس..) . والحديث ذو شجون يجرّ بعضه بعضاً ، وممّا كنّا سمعناه عن المرحوم المنجرة أنه كان نشيطا،ومشاكسا، ومشاركا بحماس منقطع النظير منذ نعومة أظفاره ، منذ أن كان صبيّاً طريّ العود، غضّ الإهاب، فى شرخ شبابه وريعانه فى الحياة الطلاّبية، والثقافية، والإجتماعية،والسياسية،والشبابية ،وكان يحضر التجمّعات الشعبية التي ينظمها الوطنيون، وكان يؤمّ طلباً للعلم والتكوين المدرسةَ والكتّاب (المسيد) فى آن واحد . وعندما ذهب إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية لإستكمال دراسته بجامعة " كورنيل" ، كان لمّا يَزَلْ فى مقتبل العمر ،كان شغوفا بحبّ المعرفة،والفضول العلمي، والتطلّع نحو إستبطان المجهول ،وإستكناه المستقبل، وسَبْر آفاق كلّ العلوم ، وكان فضوله العلمي والمعرفي يدفعانه دائما إلى السّؤْل، والسُّؤال، والتساؤل والإستفسار بدون هوادة ، وبدون إنقطاع ، عن كلّ ما يخطر له فى دروب العلم، وحقول المعرفة، أو يعنّ له فى الحياة ،وذات مرّة ضاق بكثرة أسئلته وتساؤلاته ، وبفضوله ذرعا أستاذه بالجامعة فصاح به بإعجاب وإنبهار : مَنْ أَنْتَ...؟ مَنْ تكون...؟ .. who are you..)...) وأردفَ الأستاذ الأمريكي قائلاً :تساؤلاتك الدقيقة المتوالية ستجلُبُ لك الكثيرَ من المعرفة، ولكنها ستجلب لك معها كذلك الكثيرَ من المتاعب والشقاء . وفى أطلالة عاجلة ولكنها لا تخلو من فائدة على فكر وبعض تامّلات المهدي المنجرة فى المجتمع،والتنميّة، والثقافة،ومستقبل الثقافة، والإقتصاد، والعلم، والتعلّم التي تعتبر من المقوّمات الاساسية فى حياة الفرد والجماعة فى محيطه الإجتماعي، فى عرض قيّم، ودراسة متّزنة ورصينة لتقية محمّد فى هذا الصدد لكتاب " قِيمَةُ القِيَم" للمهدي المنجرة نقرأ بكلّ إعجاب وإنبهار : " أنّ المؤلف يُولي الاهتمامَ بمختلف القيم الموجّهة للمجتمع توجيهاً صواباً سواء من داخله أو حتى فيما يمكن أن يربطه بالخارج من علاقات". وكذا : "… ورغم كثرة البرامج الدولية للتنمية، لاسيما في أفقر الدول، حيث يزداد الإهتمام الدّولي، فإنّ المساهمة الوطنية نادرا ما تمثل أقلّ من سبعين في المائة من المجموع، وتبقى المساعدة الدولية التي تنتج عن هذا التعاون ضعيفة من ناحية الكمّ، إذن يصبح من الضروري القيام بمقاربة منظومية في التحليل لتقييم جودة التفاعل الثابت بين المستوى الوطني والمستوى الدولي، والمهمّ في هذه المساعدة الخارجية هي الأفكار، والتصوّرات الناتجة عنه والتجارب الصادرة منه" . وبربط هذا المحتوى بالأحداث الراهنة خصوصا بما يتعلق بدول صنفت إقتصادياً ب (دول نامية) أو (في طور النموّ) ، فإنّ إشكالية تبعية الدّول النامية للدول (المتطورة) مستفحلة كلما إرتبطت بما يسمّى "مساعدات" من هذه الدّول، وجعلت معتمدها الرئيسي عليها بالرّغم من ثبوت ضآلة مساهمتها في النهوض، خصوصا بقطاع الإقتصاد الذي أصبح ركيزةً أساسيةً للإعتراف بوجود الدّول في معالم القوة. إذ أنّ أهمّ ما يمكن أن يساهم في "النهوض" إنطلاقا من التعاونات بين الدول مرتبط بعالم الأفكار والتصوّرات الناتجة عنها ". ونقرأ كذلك – حسب عَرْض تقية محمّد – لهذا الكتاب الرّصين من جهة أخرى إلى أهمية "الثقافة المتوسطية” " التي تربط بين دول حوض البحر الأبيض المتوسط ، بل أكثر من ذلك ربط مستقبل هذه الدول ومستقبل قضاياها رهين بمستقبل الثقافة بها، على إعتبار أنّ الثقافة لها إرتباط عريق ووثيق بجميع جوانب الحياة، ولا يُمكن نسخ ثقافة مجتمع مّا، أو دولة مّا، في حيّز آخر تحت مُسمّى " نقل الثقافة "، لأنّ التعدّد وارد بحكم أنّ لا شمولية لثقافة مّا من جهة،ومن جهة أخرى باعتبار الثقافة نسبيّة، والموروث الثقافي هو مفتاح من مفاتيح التنمية، وبالتالي فإنّ أيَّ محاولة لتعميم ثقافة مّا، أو نقلها ،وإستنساخها، وإجبارها ما هي إلاّ محاولة للتشتيت، والتفرقة، والهدم وليس البتّة البناء" . ويقول المهدي المنجرة فى هذا المجال :" إنّ إحدى القضايا الأساسية بالنسبة لدُول حَوْض البحر الأبيض المتوسط، تتعلق بمستقبل ثقافاتها،لأنّ هذا المستقبل مرتبط بجميع الجوانب الأخرى للتنمية الإستراتيجية، والسياسية ،والاقتصادية، والاجتماعية،والثقافية إلخ..أضف إلى ذلك أنّ هذا المستقبل غير قابل للإنقسام، لأنّ هناك ثقافة متوسطيّة بكل ما تحملُ هذه الكلمةُ من معاني سامية".. وعليه فإنّ مفهوم "الثقافة" بما تضمره من أبعاد – حسب المنجرة - لها وقعٌ عميق على مستقبل الشعوب ووجودها وارتباطاتها فيما بينها، ولما لها من جذور ضاربة في عمق التاريخ، وما تكتنزه لواقع المستقبل، ويؤكّد المنجرة فى هذا القبيل كذلك : "إن الفرَضية السّابقة قد يظهر فيها شئ من المبالغة بالنسبة لأولئك الذي لا يهتمّون بالماضي، ولا بالإطّلاع على كتب التاريخ، وحسب تجربتي، فإننّي أدرك أنّه كلما إزددتُ إهتماماً بالدراسات المستقبلية، زادني ذلك الشعور بالحاجة لترسيخ رؤيتي على أسس تاريخية صلبة ". وفى مَعْرِض حديث المنجرة رحمه الله عن "الهويّة الثقافية" التي يعتبرها سبباً في وجود "منظومة القيم" وبغيابها تفشل المجتمعات في إثبات ذاتها أو هُويّتها يقول :" بأنّ هناك فترات يؤدّي فيها الانفتاح التلقائي وليس الإنتقائي إلى غزو كبير، وإضعاف أعزّ ما للإنسان وهي هُويته الثقافية " . ويركّز المفكّر المنجرة – حسب تقية محمّد - على ضرورة صَيْرُورَة حَرَكية " التعلّم " من المهد إلى اللّحد، منبّها إلى ما يُمكن أن يجابه أو يعوق المسيرةَ العلمية بين هاتين المحطتين مستقبلاً، مشدِّداً على أنّ أهمّ عنصر من عناصر التعلّم هي (القيم) مشيراً فى هذا المضمار: "وأهمّ عناصر التعلّم هي القيم، وعندما نشير إليها كعناصر، فإنّنا نؤكّد على دورها الفعّال في عملية التعلم، فقيمة البقاء مع الكرامة يمكن أن تكون ذات آثار مباشرة في التوجيه، وأنّ ظهور القيم هو ظهور للحدّ الفاصل بين الذاتية، والموضوعية، وبين الحقائق، والأحكام، وبين ما هو كائن، وما يجب أن يكون، وبين العلم والأخلاق، والأحكام وبين العلوم الحقة والعلوم الإنسانية، وبين الغايات والوسائل، وبين المعقول، واللاّمعقول". قيل فيه، أو بالأحْرَى قيل عنه : " من حسن حظ المغاربة أنّ المهدي المنجرة هو واحد منهم، وإذا كانت لدى جنوب افريقيا مناجم الذهب ،ولدى مصرالأهرام ،ولدى البرازيل القهوة، فلدى المغرب الفوسفاط والسمك والمهدي المنجرة. يرى بعيداً مثل صقر، ويحلّق عاليا كطائر، ويتكلّم مثل حكماء الجبال في الصين القديمة. وهو حين يتكلم، فلكي يقول شيئا . هذا " المنذر بآلام العالم "، كما قال عنه ميشال جوبير مرّة، يشرف اليوم على الثمانين حولاً، ولكن الجلوس إليه ساعات يترك لديك انطباعاً بأنّك أمام رجل يشتغل في شباب كامل، مثل تلميذ يعالج واجباته المدرسية كما يليق. جاب هذا الطائر الحكيم أزيدَ من مائة وأربعين دولة عبر العالم في تجربته الغنية مع الحياة ،والمعرفة، حاور ثقافات، وجاور معالم حضارية، ولامس أفكاراً وناظرعقولاً، وعاد ليجلسَ على كرسيّ صغير في غرفة ضيّقة تحوطها كتب بكل اللغات ليقول لك الخلاصة: " بهذا يعرف الله " ! .المهدي المنجرة رجل واحد بصيغة المجموع . إنّه المفرد حين يكون جمعاً ". إنّه المثقّف والمفكّر،الإنسان، المهدي المنجرة، الرّجل الذي هَضَم زمانَه، وشَرِبَ عُصارةَ عَصْرِه ، أنزلَ الله عليه شآبيب رحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح فراديسه وجنانه. * عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم (كولومبيا).