الحرب هي آفة الدول ومقبرة العدالة بتعبير فيلسوف روتردام ديزيدريوس أرازموس. لكن العلاقة بين السياسة والدين لا تمر في إسرائيل عبر السجال الفكري بل عبر العقيدة العسكرية. فلا يمكن الفصل في هذا النظام العنصري بين السياسي والعسكري. كلاهما شخص واحد لا يكل عن إلحاق الضرر بصاحب الأرض. فلا وجود لعدالة سياسية لنظام مرتبط بخبرة ذوي الحنكة في خلق التوترات السياسية، ولا وجود لبدائل في الأزمات سوى الحذر من الآخر بقتله وهو في بطن أمه أو في مدرسته. لأن القتل بما يقتضيه من مكر وخبت جزء من شعائر بني صهيون، و من ميثاق التحالف بين الحرب والموت. ميثاق يتجاوز ما أسماه فوكوياما بالإيديولوجيات الغاضبة. لقد كان فيلسوف روتردام ديزيدريوس أرازموس حكيما حين قال: " علينا أن نقضي على أسباب الحرب في مهدها. ومن أجل ذلك ينبغي لنا أن نغضَّ الطرف عن بعض الحقوق. فهناك حالات تفرض علينا واجب شراء السلام. وعندما نقوم بعملية إحصائية لتكاليف الحرب ولعدد المواطنين الذين سينجون من الموت، يبدو السلام كأنه اشتُرِيَ بسعر زهيد، مهما كان ثمنه. وعندما نفكر، بعد ذلك، في الأوجاع التي تفاديناها والممتلكات التي أنقذناها، لن نتأسف كثيرًا على ثمن السلام الذي نكون قد دفعناه". لكن الذين خلقوا إلها هو العجل، وعبدوه في مسعى للحصول على اليقين والطمأنينة على حد تعبير فيورباخ هم اليوم أشد بعدا عن الطمأنينة المنشودة رغم الادعاء بكون إسرائيل – كإمبراطورية جديدة - هي واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط. في هذا الصدد نتذكر إدوارد سعيد في قوله أن كل إمبراطورية تقول لنفسها وللعالم أنها ليست كمثل الإمبراطوريات الأخرى. في إسرائيل لا أحد ينصت لمشروع شتراوس في ربط السياسي بالديني. لأن كل المعارف والتقدم التكنولوجي، والصبيب المعلوماتي، جزء من استراتيجية الحرب والرغبة في تحقيق الانتصار عبر محو الآخر وقتله. لذلك فقد وصف هيراقليطس الحرب "بربة الأشياء" لكونها تفرق بين كل الأشياء. الحرب لا تحمل فقط العبودية بتعبير هيراقليطس، ولكنها حاملة للجنون الذي لم يستطع حتى ميشيل فوكو الحديث عنه. هنا يمكن فهم سبب تحويل قطاع غزة إلى سجن، والضفة إلى ساحة خلفية لهذا السجن. في محاولة يائسة لتدجيين التاريخ، وإيقاف تطوره استجابة ليوتوبيا الحرب. والنتيجة إصابة الحاضر بالشلل بعد ضياع خارطة أوسلو من أجل إسرائيل الآمنة. أما استراتيجية الحقد الموجه فهي تتجاوز تهديد الوجود المادي، والصراع من أجل الاعتراف بعيدا عن فهم هيجل لثنائية العبد والسيد. لأن هذا الحقد الموجه يتوخى محو الكرامة، ونسيان شجرة الزيتون في الأرض المباركة. وإسرائيل من أجل ذلك لا تتوانى في إبراز قوتها العسكرية لتجسد الميغالوتيميا بوصفها- حسب فوكوياما- رغبة في الاعتراف بالتفوق، وبحثا عن الأمان المحتمل. هذ البراديغم يجعل من إسرائيل آلة حربية ليس بدافع اقتصادي أو إيدولوجي بل بدافع العنف. لذلك فإن الحرب التي تشنها ضد المقاومة تتجاوز الدهشة خاصة وأنها تعتمد على الأنفوميديا من خلال القنوات الغربية، والقنوات العميلة. تخوض حربها مزودة بما يكفي من الحقد والكراهية في محاولة لمحو هذا الفلسطيني الشامخ، مادامت مقيمة في زمن أساطير الأولين. لذلك فهي مقتنعة أن العنف هو الوسيلة المثلى لتحقيق أوهامها السوداء. في إسرائيل لا أحد ينصت لكانط في دعوته لنبد العنف وتجنب الحروب وأسبابها والعمل من أجل السلام.لأن أحزابا مثل العمل برئاسة عمرام متسناع، و ليكود بزعامة بنيامين نتنياهو، و شاس بزعامة كل من الحاخام عوفاديا يوسيف وإيلي يشاي. و يهودت هتوراه برئاسة يعقوب ليتشمان وإبرهام ربيتس، و مفدال بزعامة إيفي إيتامْ، و يسرائيل بيتينو بزعامة كل من بيني أيالون وأفيغدور ليبرمان. تجعل إسرائيل تسبح في الدماء. نتذكر حرب تموز وكيف كان الموت يطارد نصف مليون نازح من الجنوب، و كيف كانت المدن اللبنانية تفتح أبوابها للهاربين من سماء تمطر قنابل وغيوم من رماد. نتذكر مجزرة قانا في محاولة من إسرائيل لصنع انتصار ولو على حساب أجساد الأطفال والمدنيين. وسواء تعلق الأمر بحرب تموز أو بحروب غزة فإن إسرائيل أذلت وهو شيء لم ولن تستطيع تصديقه أو تجاوزه، وكل أشكال القتل الجماعي وتدمير البنيات التحية ما هو إلا رد فعل أعمى على الإهانة التي لحقتها من قطاع غزة الذي لايتجاز عدد سكانه 2 مليون نسمة. وهذا ما يعلل التبعثر الذي تعرفه دوائرها السياسية. إسرائيل المشيدة على يوتوبيا دينية سوداء لم تستطع هزم الإرادة الفلسطينية المقاومة رغم تجدد استراتيجياتها الحربية، ورغم الدعم الغربي اللامحدود. لأن الموت يتحول لدى المقاومة إلى حامل لحيوية الحياة. وتتحول الحياة الإسرائيلية إلى جبن وإهانة. لقد غيرت الحرب من وجه الأرض ولوثت أرض و بحر غزة، وإسرائيل التي تبحث باستمرار عن حروب صغيرة من أجل انتصارات وهمية كبيرة اكتشفت أن رد المقاومة كان أشد ألما. لذلك فإن الموت من أجل الأرض هو موت مجيد يرعبه، لأنه يعلم أن الرمزي هو الذي يخلده التاريخ، وليس التنكيل بالأطفال أو هدم المنازل الآهلة، أو تدنيس الأرض المقدسة بالدبابات. إسرائيل التي تشبه أفعى الأناكوندا عاجزة عن هزم الإرادة الفلسطينية المقاومة رغم فرحها المؤقت بأوسلو وما تلاها من مؤامرات. ونتيجة لذلك فهي عاجزة عن تحقيق أي انتصار ميداني على المقاومة سواء في جنوبلبنان أو في غزة التي حطمت صواريخها مقولة الجيش الذي لايقهر.