ونحن نتابع تطورات الأيام الأخيرة على الجبهات الشمالية السورية – اللبنانية – الإيرانية، والجنوبية مع قطاع غزة وحتى الشرقية مع الضفة الغربيةالمحتلة، بما في ذلك العمليات على الأرض والتصريحات الرسمية للقيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية، تقفز الى الاذهان ثنائية (الانتخابات والحرب) التي أصبحت ملازمة للمشهد السياسي الإسرائيلي في أكثر من منعطف تاريخي، لكنها هذه المرة يمكن ان تؤدي الى كوارث لا يمكن التنبؤ بنتائجها المأساوية على شعوب المنطقة والعالم.. من جهة أخرى تحاصر رئيس الوزراء الإسرائيلي عدد من ملفات الفساد قد تصل الى مرحلة تقديم لائحة اتهام بعد ان قدمت الشرطة توصياتها بذلك مؤخرا، سيحاول نتنياهو تجاوزها من خلال افتعال أزمات تجمع من حوله اليمين الإسرائيلي وترفع من احتمالات نجاحه في اية انتخابات برلمانية قادمة قد تصل حد اعلان الحرب على واحدة من الجبهتين الشمالية (اللبنانية–السورية) او الجنوبية (قطاع غزة) كما كان في مناسبات سابقة ك"حرب عمود الغمام" على غزة ( 14.11.2012- 21.11.2012) والتي سبقت انتخابات 2013، وك"حرب الجرف الصامد" على قطاع غزة أيضا (26.8.2014 – 8.7.2014 ) التي سبقت انتخابات 2015. قد يدعي البعض ان نتنياهو يعيش "شهر عسل" مع الإدارة الجديدة في البيت الأبيض بزعامة دونالد ترامب، ولذلك لا يُخشى من سقوطه المدوي، الا ان أحدا لا يستطيع أن يتجاهل انه يعيش "شهر بصل" على مستوى سمعته الشخصية والسياسية الداخلية بسبب ملفات الفساد التي تلاحقه إلى درجة ان أصواتا في حزب الليكود بدأت تتحدث علانية عن مرحلة ما بعد نتنياهو. رغم ذلك أؤكد هنا أننا لا نعول على أي تغيير في الخريطة السياسية الإسرائيلية يمكن ان يدفع في اتجاه حلحلة الاوضاع وذلك لغياب الفوارق بين الأحزاب الطامعة في الوصول الى مقر رئيس الوزراء الإسرائيلي في القدس الغربية. فمن يتابع تصريحات (آفي غاباي) زعيم حزب العمل الإسرائيلي المعارض الآتي من حزب (كولانو) اليميني بزعامة (موشي كحلون) الليكودي السابق، يلحظ السباق المحموم بينه وبين نتنياهو في التعبير عن أكثر السياسات الداخلية والخارجية تطرفا ضد الشعب الفلسطيني داخل إسرائيل او في الضفة الغربية وقطاع غزةوالقدسالمحتلة. بل لا أكون مبالغا إن قلت ان مواقف (غاباي) تبدو أكثر تطرفا من مواقف نتنياهو في ملفي مفاوضات السلام المتوقفة مع الفلسطينيين والمكانة القانونية والسياسية للمجتمع الفلسطيني المتجذر في أرض الوطن داخل الدولة العبرية. لذلك لن أستغرب أبدا إنْ دعمت غالبية الناخبين اليهود نتنياهو في اية انتخابات مقبلة بالرغم مما يلاحقه من ملفات الفساد، ولو من باب انهم يفضلون "الأصل" المتطرف على "النسخة" المتطرفة المزيفة. أشكك في قدرة اسرائيل على ان تحقق أي انجاز حقيقي في حال شنت حربا على قطاع غزة، ما عدا ما ستخلفه وراءها من قتلى وجرحى قد يصل عددهم الآلاف، ودمارا شاملا سيزيد حتما من موجات الغضب والاحباط في اوساط الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يمكن ان يفجر الأوضاع داخل اسرائيل وخارجها، مما سيدفعها نهاية الى التوجه لأطراف دولية للتوسط من اجل وقف لإطلاق النار، وحتى الاستعداد لوقف إطلاق النار من جهة واحدة ثم قبولها في النهاية باتفاق على نحو الاتفاق الذي اقره نتنياهو في حربه الأخيرة على قطاع غزة عام 2012 (عمود الغمام)، والذي أنجزته القيادة المصرية الثورية في حينه برعاية الرئيس المصري الشرعي الدكتور محمد مرسي. اعتقد ان تجارب الماضي أصدق شاهد وأكبر دليل على أن القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيلية لم تنجح كعادتها في معرفة حجم قوة المقاومة الفلسطينية وقدراتها العسكرية التي استطاعت إدخال الملايين من الإسرائيليين تحت الأرض بفعل صواريخها التي وصلت مدى لم يتوقعه أكبر الخبراء العسكريين والأمنيين الإسرائيليين… نتذكر ونحن نتابع ما يمكن ان يكون بداية حرب جديدة على قطاع غزة او على سورياولبنان، تَبَجُّحَ رئيس الوزراء نتنياهو في تلك الفترة ووزير الحرب السابق باراك ووزير الخارجية في حينه ليبرمان في مؤتمرهم الصحفي بعد حرب 2012، بإنجاز عملية (عمود الغمام) أهدافها. تابعنا نفس الصورة لنتنياهو كرئيس للوزراء وليبرمان كوزير الخارجية وبوغي يعلون كوزير للحرب في مؤتمر صحفي مشابه بعد حرب الجرف الصامد في العام 2014. كان حديثهم منصبا على ان الحربين حققتا اهدافهما، لكن الرأي العام الإسرائيلي شكك كثيرا في مصداقية تصريحات مسؤوليه، كما وَعَبَّرَ الكثير من المحللين والخبراء الإسرائيليين في حينه عن افتقاد زعماء إسرائيل للشجاعة في قول الحقيقة المرة للمجتمع الإسرائيلي وهي ان إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها التي رسمتها، هذا إن كانت هنالك اهداف اصلا. لم توقف الحربان السابقتان الصواريخ الفلسطينية على تواضعها من الوصول إلى العمق الإسرائيلي وتهديد المناطق الحيوية، كما لم تقدم إسرائيل معطيات تفيد بأنها قضت على القدرات الصاروخية الفلسطينية. لم تنجح إسرائيل ايضا في نزع سلاح المقاومة، ولم تعط اية ضمانات تقنع الرأي العام الاسرائيلي بأن أمنها أصبح مصانا بعد التوقيع على اتفاقيات وقف إطلاق النار. فشلت إسرائيل أيضا في دفع الفلسطينيين في نهاية الحرب إلى رفع الراية البيضاء وتوقيع أوراق الاستسلام. واضح أن شيئا من هذا لم يتحقق!!! أذا ماذا حققت إسرائيل في حربيها المدمرتين على قطاع غزة في العامين 2012 و2014؟ لقد قتلت عشرات المقاومين وعلى رأسهم القائد القسامي احمد الجعبري وغيره، ودمرت عددا من منصات الصواريخ.. هذا صحيح. لكن إسرائيل تصر على الا تفهم من متابعتها تاريخ النضال الفلسطيني أن قتل قيادي فلسطيني واحد مهما بلغ في مكانته يولد في الشعب ألف قائد. إذا ما حقيقة ما خلفته إسرائيل فعلا في حربيها الوحشيتين السابقتين على غزة؟ قتلت وجرحت الالاف من الفلسطينيين، أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ.. دمرت المقرات الحكومية والمدنية الخدماتية والمساجد والمدارس والمستشفيات، واستهدفت العمارات السكنية والبيوت الخاصة والمزارع والمصانع والبنى التحتية، ونسفت البنوك وهدمت الاستاد الرياضي الوحيد تقريبا في غزة.. سرقت البسمة من وجوه مئات آلاف الغزيين الصابرين، وحولت قطاع غزة إلى بيت عزاء كبير.. هذا ما فعلته إسرائيل على الحقيقة، وهذا ما تباهى به قادة إسرائيل في مؤتمراتهم الصحفية في ذلك الوقت. فهل هذا هو الانتصار؟ " … لم يكن من الصعب التقاط علامات الخزي والعار من تعابير وجوه الزعماء الإسرائيليين في الواقعتين، وعدم اقتناعهم بما ساقوا (لشعب إسرائيل !!) من أرقام، وما قدموه من قراءة لمشهدي الحربين ونتائجها.. من الواضح أن المقاومة الفلسطينية رغم تضحيات الشعب الفلسطيني الأعزل، قد فوتت على الثلاثي في حينه (نتنياهو – باراك/يعلون – ليبرمان) ما كانوا يتمنونه من حروب خاطفة تشل حركة المقاومة من الضربة الأولى، في الوقت الذي يبقى فيه (شعب إسرائيل !!) يتريض على الشواطئ وفي المتنزهات، ويعيش حياته الطبيعية متمتعا بوجبة يومية من دماء وأشلاء الفلسطينيين تقدمه وسائل الإعلام الإسرائيلية المرئية والمسموعة والمقروءة يوميا في نشرات الأخبار وهو يتمددون مسترخين على كنباتهم.. هذا ما تخيلوه، إلا أن شيئا من ذلك لم يتحقق، إذ وصلت الصواريخ الفلسطينية إلى عمق الاحياء الإسرائيلية حتى وصلت تل أبيب والقدس الغربية، واضطرت الاسرائيليين إلى الفرار إلى ملاجئهم تحت الأرض وفوق الأرض، وقد أصيبوا بالهلع والرعب كما رأينا في عشرات أشرطة اليوتيوب. هذه هي الحقيقة التي لن يستطيع قادة إسرائيل إخفاءها مهما حاولوا. لماذا يصر إذا الثلاثي الحالي (نتنياهو – ليبرمان – بينيت) العودة الى ذات التجربة، ولماذا يرفضون الاعتراف بان الحل لا يمكن ان يكون عسكريا، وانما سياسي بامتياز، تعترف اسرائيل من خلاله بحق الشعب الفلسطيني في الاستقلال وكنس الاحتلال؟! ان حروبا مهما بلغت في شراستها لن تفت في عضد الفلسطينيين بل ستزيدهم اصرارا على حقوقهم المشروعة بغض النظر عن كم التضحيات التي سيقدمونها في سبيل ذلك. لذلك أستغرب كثيرا من إصرار نتنياهو على انه قادر في حروب قادمة ان يحقق ما ثبت أنه ليس أكثر من وَهْمٍ وسراب خادع في حروب سابقة؟! لا استبعد أنه لو تنبأ الثلاثي الإسرائيلي السابق في حربي 2012 و2014 بالنتائج كما جاءت على الارض، لما أقدموا على حروبهم ضد غزة في حينه، فلماذا يقدمون الان على نفس المغامرة وقد تطورت قدرات المقاومة كثيرا منذ ذلك الوقت باعتراف الخبراء الاسرائيليين أنفسهم؟! صحيح ان الأوضاع العربية والإقليمية والدولية لا تلعب لصالح الفلسطينيين في هذ المرحلة، إلا ان القضية الفلسطينية ستظل حية ونابضة بالحيوية لأنها قضية شعب فرض حضوره على الساحات المحلية والإقليمية والدولية بقوة بفعل الصمود الفلسطيني الأسطوري وإصرار الشعب على انتزاع حقه وعدم التفريط في تراب وطنه ومقدساته، ولأنه نجح في إفشال كل مخططات إسرائيل لشطب الرقم الفلسطيني الصعب من على جدول اعمال المجتمع الدولي والعرب والإسلامي الشعبي والرسمي. مهما قيل في تراجع الدعم العربي والدولي للقضية الفلسطينية إلا ان هذه القضية ما زالت تحصد التأييد مرة تلو الأخرى في المحافل الدولية ولعل أهمها ما حققته بشأن القدس بعد قرار اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل. ما زالت شعوب العالم وانظمته تعبر عن دعهما للحق الفلسطيني واستعدادها للانتقال بالقضية الفلسطينية إلى آفاق جديدة ستكون إسرائيل فيها أكبر الخاسرين حتما. المعاناة الفلسطينية والتحديات الداخلية والخارجية التي تواجه القضية الفلسطينية ستدفع الشعب الفلسطيني عاجلا او آجلا إلى تحقيق الوحدة الوطنية والالتفاف حول الثوابت الراسخة ومواجهة المخاطر من خلال جبهة واحدة تقدم الوطني الجامع على الفئوي الضيق. اعتقد أن الأحداث الأخيرة كشفت القناع من جديد عن الوجه الحقيقي البشع للسياسة الاسرائيلية الرافضة لأية حلول حقيقية تضع المنطقة على الطريق الصحيح، والمصرة على العدوان والاستيطان والتنكر للحقوق الفلسطينية المشروعة. ان استمرار اسرائيل في سياساتها هذه لن تؤدي الا الى المزيد من المعاناة لكل شعوب المنطقة بما في ذلك الاسرائيليين. لست متفائلا من امكانية الا تشن اسرائيل حربا على غزة، الا انني على ثقة بان اسرائيل لن تجني من حربها هذه الا الشوك. قطاع غزة بحاجة ماسة الى مجموعة قرارات عربية – اسلامية – دولية جريئة ثورية تعلن إنهاء الحصار وفتح المعابر بين العرب وغزة وتنفيذ خطط عميقة لتطوير القطاع، ووضع العالم وعلى رأسه أمريكا والرئيس ترامب أمام واقع جديد، إما حل سريع يحقق للفلسطينيين آمالهم في الاستقلال وكنس الاحتلال، وإما حل عربي – دولي سيادي يفرض إرادة العرب ويحقق آمالهم الوطنية والقومية، ويُعلي من شأن الشرعية الدولية وقراراتها ذات الصلة بالقضية الفلسطينية من خلال إلزام إسرائيل بتنفيذها كاملة، وعندها على العالم أن يتحمل مسؤولياته عما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج… لا يحتاج الأمر إلى ذكاء خارق من أجل التقاط الأهداف الانتخابية للحرب التي يمكن ان يشنها الثلاثي القديم الجديد (نتنياهو – ليبرمان – بينيت) على قطاع غزة او على سوريا – لبنان او على كليهما.. يتفاخر (نتنياهو) مؤخرا في الكثير من خطاباته وتصريحاته الأخيرة بإنجازاته الدونكيشوتية على الجبهات السياسية والعسكرية والاقتصادية – الاجتماعية، مؤكدا على أن سياسة الردع السياسي الممزوج بالتهديد العسكري (الذراع الطويلة لإسرائيل)، كان كافيا لحفظ الجبهات بين إسرائيل وأعدائها في الشمال والجنوب القريبين (لبنان وفلسطين/غزة)، وفي الشرق البعيد (إيران)، هادئة إلى ابعد الحدود.. فماذا جرى، وما الذي تغير؟؟!! يبدو لي ان الازمات التي يعيشها نتنياهو داخليا وأقل منها خارجيا ستدفعه إلى مغامرة غير محسوبة لتحقيق هدفين امتزجا معا حتى النخاع. الأول، تعزيز قوة الردع الإسرائيلية التي أصيبت في مقتل بسبب الصمود الأسطوري الفلسطيني وبسبب الاحداث الأخيرة على الجبهة السورية. والثاني، تعزيز قوة الردع لخصومه السياسيين في الداخل الذين ارتفعت معنوياتهم بعض الشيء بعد توصية الشرطة الاسرائيلية تقديم لوائح اتهام ضده على خلفية ملفي الفساد 1000 و2000 . هي سيعود نتنياهو إلى لعبة (الانتخابات والحرب) من خلال شن عدوان على الفلسطينيين في غزة وآخر على الجبهة الشمالية السورية اللبنانية، بهدف تجاوز ازماته الشخصية؟! مهما كان قرار نتنياهو فليس امام الشعب الفلسطيني في ظل الظروف الحالية من بديل إلا ان يسارع في أنجاز الوحدة الوطنية وتجاوز حالة الجمود الذي لا مبرر له مطلقا، وأن تندفع قيادات الشعب الفلسطيني إلى مزيد من الاجتهاد في اتجاه تنفيذ استحقاقات اتفاق المصالحة الموقع في القاهرة. تجاوز هذه المرحلة على قاعدة الثوابت والرؤية الواقعية لما وصلت إليه القضية سيعزز الوحدة الوطنية، وسيجعل حلم إنجاز التحرير والاستقلال أقرب من ذي قبل، وعليه فلا بديل أمام القيادة الفلسطينية إلا التركيز على أولوية الوحدة الوطنية وإنجازها في أسرع وقت ممكن من أجل الانطلاق نحو مرحلة انتزاع الحقوق والبناء، خصوصا ونحن نرى الاصطفاف الإسرائيلي المتطرف، وسعي إسرائيل الحثيث إلى مزيد من التصعيد.. *** الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني