في هذا الحوار، يتحدث الباحث السوسيولوجي عياد أبلال عن استحقاق "البهائية" لفظ ديانة من عدمه، عارجاً على أهم الاختلافات التي تفرّقها عن الديانات الإبراهيمية الثلاث، ومن ذلك غياب مفهوم العقاب في الحياة الآخرة بالمفهوم المتداول، كما يتحدث عن الكثير من النواقص التي يراها تعتري هذا المعتقد، خاصة ما يتعلق بتوارث النبوة وعدم قدرتها الدفاع عن نفسها ضد اتهامات تُلحقها بالصهيونية. ويعتبر الباحث في الأنثروبولجيا أن واقعة طرد ضابط من القوات المسلحة الملكية بسبب اعتناقه البهائية كانت قانونية بحيث لا يمكن الإبقاء على شخص لا يؤمن بشريعة القتال في الجيش، كما يخلص إلى أن مستقبل البهائية في المغرب لن يكون بالمُشرق، لعدة اعتبارات أهمها عدم قدرة العقل الفقهي المغربي على تقبّل "ديانة" بمثل هذه الصفات. عياد أبلال أستاذ جامعي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، وبالكلية المتعددة التخصصات بتازة، حاصل على الدكتوراه في أنثربولوجيا الأدب، ومرشح لنيل دكتوراه في سوسيو أنثربولوجيا التدين،موضوع الرسالة:" إشكالية تغيير المعتقد و الأقليات الدينية بالعالم العربي:المغرب،جزائر،تونس و مصر نموذجاً". من مؤلفاته:"الإخفاق الاجتماعي بين الجنس، الدين، والجريمة". بداية، هل تستحق "البهائية" لَفظ ديانة؟ إذا انطلقنا من تعريف الدين سوسيولوجياً، فإننا نجد أن البهائية ديانة سماوية ينطبق عليها ما ينطبق على الديانات الأخرى، نظراً لكونها تتشكّل من المكونات الأساسية للدين: وهي العقائد، التشريعات، الطقوس، التجربة الايمانية بما هي تجل للتدين، ووجود مؤسسة لذلك. كما أنه على مستوى العقيدة يمكن اعتبارها كذلك ديانة سماوية لارتباطها مثل باقي الديانات التوحيدية بالخالق الواحد (الوحدانية)، حيث هو رب عالم السموات بما هو عالم مفارق، وهو الخالق نفسه الذي أوحى ل" ميرزا بهاء الدين " بالرسالة البهائية. أما على المستوى اللاهوتي، فيمكن اعتبارها ديانة أرضية المنشأ حتى وإن ارتبطت في كتابها المقدس بالعالم المفارق، وبالوحي الذي لا يستقيم مع اختلال العلاقة بين عالم الناسوت و عالم اللاهوت. لكن إن جاز أن نطلق عليها اسم "ديانة"، فهل تصل إلى مرتبة الديانات الإبراهيمية ونتحدث هنا عن الإسلام، المسيحية، واليهودية؟ تختلف البهائية عن هذه الأديان بكونها لا تعترف بوجود النار، بمعنى أن الجزاء يوجُب العقاب ويمحوه، وهنا يختلّ شرط العدالة الالهية بين عالمي الناسوت و اللاهوت، ممّا يجعلها تتطبّع مع الظلم والاستعباد وتشرعنهما. كما تختلف عن هذه الأديان كذلك بإيمانها أن الوحي موصول وأن محمد رسول الله ليس بخاتم الأنبياء، وأنها ضد الحرب والقتل. لكنها بالرغم من ذلك، تمارس تأثيراً اجتماعياً وثقافياً على البهائيين، من خلال انخراط هذه الديانة في مؤسسات وارتباطها بتشريعات، وهو ما نسميه ب"مأسسة الدين "، وعلى مستوى الطقوس، فإنها تُهمل البُعد الجماعي لظاهرة التديّن وتعتبره فعلا فردياً، كما ترى أن الحج لا يجوز إلاّ للرجال، ولا تجيزُ قتال الإسرائيليين بدعوى أن البهائيين يرفضون الجهاد أو القتال. من خلال البحث الذي أجريناه، تأكدنا أن إحصاء أعداد البهائيين بالمغرب أمر صعب، ولم يكن من مصدر رسمي لإحصائهم غير تقرير للخارجية الأمريكية، هل تتفق مع ما ورد فيه؟ يجب التنبيه في البداية إلى أن الدراسات الاحصائية حول الأقليات الدينية بالعالم العربي والاسلامي، بما فيها تلك التي تحتضن أقليات وتعترف بها كمصر مثلاً قليلة جداً و نسبية، لكونها تعتمد دوماً الأرقام الرسمية بما تحتمله من شك منهجي نابع بالأساس عن توظيفها السياسي. اعتماداً على تقرير الخارجية الامريكية، أقول إن عدد البهائيين في المغرب لا يتجاوز 350 مواطن مع العلم أنني لا أثق كثيرا في التقرير الأمريكي الذي ظل محتفظاً بنفس الرقم منذ أول تقرير 2009 إلى آخره السنة الماضية 2013، وهو تقرير سنوي كما تعلمون. يَرجعُ وجود البهائية تاريخياً في المغرب إلى 1962، وهي نفس السنة تقريباً التي أغلق فيها جمال عبد الناصر كل مزاراتهم بمصر، لكن مع ذلك يبقى حضورهم في إيران، فلسطين، العراق، سوريا، مصر أكبر بكثير من حضورهم في المغرب، حيثُ يتناقص بشكل مستمر نظراً لغياب سياسة تبشيرية واضحة، واستراتيجية واضحة لنشر ديانتهم بالمغرب ، ناهيك عن تقلّص أعداد البهائين في مختلف الدول العربية و الاسلامية، وهو تقلّص مستمر وبحدة، وأعتقد أن مصر هي خير دليل على ذلك، في مقابل استقرار نسبي في أعدادهم في الدول الغربية نظرا لعلمانيتها. ألاّ يهود هذا التقلّص كذلك إلى بعض النواقص التي قد تُبعد ساكنة العالم الإسلامي عنها؟ إضافة إلى ما سُقناه قبلاً من اختلال العلاقة بين السماوي والأرضي، فقد سقطت البهائية في البُعد الذكوري للديانات السابقة، من خلال بسط هيمنة وفحولة الرجل الذكورية المتخيلة على المجتمع الايماني، وهو المجتمع المتخيّل بدوره في نصوص ميرزا بهاء الدين من خلال جعل حق الحج بما هو طقس تطهري وتقربي للرجل فقط. ثم أن اختزال مجمل الطقوس، باسثتناء الحج و الجنازة، في أفعال دينية فردية بدون شعائر يجعل البهائية تفقد المؤمن أهم أبعاده الوجودية وهي الطقسنة، إذ لا يمكن للإنسان أنثربولوجياً أن يعيش بدون طقوس و شعائر، حتى أن مجموعة ملحدين في ماسوسيتش أسّسوا مؤخراً كنيسة كمؤسسة تجمعهم وتمنحهم إحساس الشعائر من خلال الغناء الجماعي وجلسات للقيام بأنشطة ذهنية ارتقائية من قبيل اليوغا . وأخيراً لم تستطع البهائية البتّ في مزاعم اليهودية في صيغتها الارثودوكسية (الصهيونية) (شعب الله المختار) و(أرض الميعاد). كما أن نقل الحج إلى عكا بإسرائيل، معناه شرعنه مزاعم اليهودية. هناك من ينتقد البهائية كذلك بسبب توارث النبوّة فيها بعد وفاة بهاء الله، وهو ما يتخالف مثلاً عن الدين الإسلامي الذي لم يُورّث فيه الرسول الكريم النبوّة لأحد؟ نعم، فقد انتقلت البهائية من بُعدها الديني-السماوي كما تدّعي إلى بُعدها الأرضي-الأرضي بعد موت نبيّها ميرزا بهاء الدين الذي انتهى مجنوناً – حسب بعض المراجع التاريخية-. وقد تولّى بعده القيادة الدينية ابنه عباس، بمعنى وجود توارث للنبوة وللقيادة، مِمّا يلغي بُعدها الإلهي أساساً، ويحوّل الدين إلى سياسة، فضلاً عن أنه يمكن تمثيلها بالزاوية إلى حد ما، ولو أن الخلفيّة المرجعيّة تختلف. إن الدراسة المقارنة للبهائية على مستوى التشريعات والعبادات، تقودنا حتماً نحو اعتبارها ديانة توفيقية زهدية وسيطة للديانات الابراهيمية، بمعنى أن الرغبة في توحيد الخلافات و الصراعات بين هذه الديانات جعلت "الباب" ومن بعده بهاء الله يسعيان إلى التوفيق بينهما من خلال رؤية أقرب إلى النبوة الصوفية منها إلى الدين بالمفهوم اللاهوتي للكلمة. و لهذا تعتلّ جلّ مقومات الوحي بمعناه الابراهيمي في البهائية بالرغم من ادعائها الوحي . مقارنة مع دول عديدة في المنطقة العربية، هل يمكن اعتبار المغرب البلد الأنسب عربيا لعيش البهائيين من الناحية السياسية؟ بما أن الدين الإسلامي في صيغته المالكية من أساسات الملكية والعرش، فإن كل خروج عن هذا المذهب يُعتبر وفق المقاربة الأمنية للدولة تهديداً للنظام، خاصة وأن الملك هو أمير المؤمنين/المسلمين. من هذا المنطلق، تصبح حرية الاعتقاد والمعتقد مجرد شعارات تحملها المنظمات والجمعيات غير الحكومية الحداثية والمثقفون، وأحياناً حتى الدولة نفسها، لكن الواقع عكس ذلك تماماً، خاصة وأن الإسلام السني المالكي هو دين المملكة دستورياً، بما معناه أنه على المستوى الدستوري لا يوجد مكان لحرية الاعتقاد. وبطبيعة الحال ما دام الاعتقاد الحرّ من المحرّمات الدستورية، فإن حريّة التفكير نفسها تصبح موضع تساؤل، ولهذا يصعب على الأقليات الدينية أن تتعايش وتعيش في المغرب كما هو الحال في الدول العربية والاسلامية. هذا على المستوى السياسي، ماذا عن المستوى الثقافي والاجتماعي؟ أعتقد أن المغاربة لم يتربوا على قيم الحداثة بما هي العقلانية، العلمانية، الحرية..لهذا فالتديّن ينْظر إليه باعتباره تكليفاً لا حقاً، لأن الحق يقتضي حرية الاختيار، والتكليف يقتضى الإلزام والواجب. و فيما يخص البهائية فإن الأساسات اللاهوتية للبهائية لا تتلاءم ثقافياً مع النسق الأسطوري المؤسس للعقل المغربي، خاصة على المستوى الشعبي، فثنائية النار/الجنة من البنيات الأنثربولوجية للمتخيّل الشعبي الديني بل حتى السياسي و الاجتماعي، ولذلك فحتى في وجود حريات دينية، فإن البهائية لا تتلاءم أنثربولوجياً مع العقل المغربي، وهو عقل فقهي في الأساس، فالمغاربة حتى إذا لم يكونوا أكثر التزاماً بالدين الإسلامي، فعلى الأقل لن يتركوه ليعتنقوا الديانة البهائية. سبق للدولة المغربية أن فصلت ضابطاً عسكرياً بتهمة الانتماء إلى البهائية، كما سبق لها أن حاكمت بهائيين بالإعدام قبل أن تُسقط عنهم الحكم.إذن فهذا يتطابق مع جوابك بأن الدولة ترى في انتشار دين غير الإسلام بالمغرب تهديداً للنظام العام؟ بالفعل، وكما سبق و أشرت إلى ذلك، أقول بأن المغرب ووفق المقاربة الأمنية التي تميّزه في مجال الدين والتدين، لا يتسامح مع تغيير المعتقد الديني أو اعتناق ديانات غير الدين الرسمي، بما هو أساس الشرعية وأساسها السياسي والثقافي والاجتماعي. صحيح أن فصل الجندي من عمله هو فعل اداري محض وقانوني ومطلوب، لأنه لا يمكن أن يبقى ضمن الجيش من لا يؤمن بالقتال حتى على سبيل الدفاع عن النفس، بمعنى أن طبيعة هذا التديّن البهائي في الجيش يشكل خطراً على المغرب، خاصة في ظل التحديات الأمنية الكبيرة التي تحيط به من كل جهة. لكن الدخول في محاكمات ومضايقات لبهائيين وغيرهم، أمر لا يتلاءم والمواثيق الدولية لحقوق الانسان التي يعتبر المغرب أحد الموقعين عليها. فضلاً عن أن الحجر على أقلية دينية قد يجلب انتقادات العالم للمغرب؟ نعم، فإن كان المغرب الأمني يسعى إلى الوحدة الدينية والمذهبية، فإن التضييق والحجر الديني باسم السياسي، قد يؤدي إلى تضخيم الأقليات الدينية وتصويرها في موقف المُستبعد و المُستعبد، ولهذا لا يجب ايلاء الأمر أكثر من حقه. ثم أن التعدد نفسه الديني و لثقافي عامل ازدهار وليس عامل انحطاط حتى على المستوى السياسي.هنا تبقى المقاربة الأمنية بدون أساس. إن التضييق على البهائيين، وعلى عكس انتظارات الدولة، يشجعهم على الاستمرار في دينهم، فلولا السجن والمنفى لمّا استطاع " الباب " نشر رسالته التبشيرية، حيث كانت البهائية عبارة عن معتقد، ولولا المضايقات والسجن نفسه الذي تعرّض له حسين النوري مؤسس البهائية ونبيها المفترض، لمّا انتقلت البهائية من طور المعتقد إلى طور الديانة. ختاماً، ما هي حظوظ هذا "الدين" للتوسع في المغرب؟ الفكر البهائي أصبح منتشراً على المستوى العالمي، يكفي أن نعرف أن الملايين من البشر يعتنقون هذه الديانة، ولها حضور شبه رسمي على مستوى الأممالمتحدة، كما لها حضور في المحافل والمؤتمرات الدينية الدولية، زيادة على الحضور الكبير داخل المواقع الإلكترونية والمدونات على الأنترنيت. غير أن الترويج لهذا الدين في المغرب يتم إمّا بشكل مباشر عن طريق العلاقات والاحتكاك المباشر بين الأصدقاء، أو عن طريق الانتشار والترويج الافتراضي عن طريق الانترنيت ، وهو ترويج محتشم وحضور في الأساس، لا يشكل ظاهرة بالمفهوم العميق للكلمة، بالإضافة أن غياب دراسات وتحقيقات صحفية مكثفة يجعل كل حديث عن القضية ضرباً من التخمين. أكيد أن هناك حضور للبهائية بالمغرب كما هو الحال لعدد من المعتقدات والديانات، ولكن يبقى كل ذلك حضور طبيعي بحكم أن المغرب ليس منقطعاً ومفصولا عن العالم، أما الترويج المؤسساتي والمنظم فهو غير موجود إطلاقاً، ويمكنني أن أؤكد أن مجمل قنوات الترويج في المغرب افتراضية عبر الانترنت، باستثناء اللقاءات المباشرة أو الترويج فماً لأذن. لذلك، وزيادة على أسسها اللاهوتية التي تطرقنا لها في السابق، يمكن الجزم أن البهائية لا حظ لها اطلاقاً للتوسّع في المغرب.