في سنة 1962، خرجت ابتدائية الناظور بحكم مثير للجدل أهم ما فيه: إعدام ثلاثة شبان، المؤبد لخمسة، و15 سنة سجناً نافذاً لستة..التهمة هي اعتناق "الديانة" البهائية في دولة دينها الرسمي هو الإسلام. هناك من أيّد الأحكام خاصة في الطرف المحافظ بزعامة علال الفاسي، وهناك من انتقدها خاصة في الطرف الليبرالي بزعامة أحمد رضا اكديرة، فقد أتت البهائية في سياق نقاش لم ينتهِ لحد الآن، عن حرية المعتقد في القوانين المغربية. وصلت القضية إلى المجلس الأعلى للقضاء الذي برّأ البهائيين ممّا قيل إنها محاولة للعبث بأمن الدولة، خاصة بعد تأكيد الملك الراحل الحسن الثاني أنه قد يتدخل للعفو عنهم إذا ما تمت إدانتهم من جديد. خُيّل للجميع أن قصة متابعة البهائيين قد انتهت في المغرب، وأن الدولة تسامحت مع هذه الأقلية التي تتضارب الأقوال حول عددها وإن كانت تتفق أنه لا يزيد عن ألف، إلا أن سنة 2009 أكدت العكس، عندما تمّ طرد ضابط في القوات المسلحة الملكية بتهمة اعتناق هذا الدين. في عزّ النقاش القديم-الجديد عن الأقليات الدينية في المغرب في كل شهر رمضان، وللمرة الأولى في تاريخ الإعلام المغربي، تحاور هسبريس منتميَيْنِ ل"الديانة" البهائية بهويّة مكشوفة، بعدما كانت جلّ المواضيع السابقة عن البهائية تتحدث عنهم ولا تسمع منهم.. بهائيان دُعيا للحديث، بعد مشاورات طويلة مع رفاقهم، عن تجربة دين لا زالت الكثير من الأسئلة تدور في فلكه، في وقت قرّرت فيه بقية البهائيين التحفظ عن الظهور، حتى يتبيّن لهم مآل هذه الخرجة الإعلامية لمحمد وهدى. رحلة البهائية إلى المغرب يكفي القارئ أن يكتب "البهائية" في عملاق البحث الإلكتروني "جوجل" كي يجد عشرات المقالات التي تُعرّف بهذا المعتقد، ونورد هنا تعريفاً خطّه الموقع الرسمي للبهائية بكثير من التصرّف:" الدين البهائي هو أحد الأديان السماوية، ويشترك معها أساسًا في الدّعوة إلى التوحيد، ولكنه دين مُستقل له كُتبه المقدّسة وعباداته وأحكامه كالصلاة والصوم وغيرها، ولقد دعا إليه ميرزا حسين علي النّوري، الملقب ببهاء الله. يعترف بوحدة الرسل والأنبياء دون استثناء، ويعترفُ بأنّ الأديان السماويّة واحدة في أصلها، جاءتْ جميعاً بالهدى لبني الإنسان، لكنه يختلف معها في بعض قوانينه وأحكامه". تعود هذه "الديانة" إلى تاجر هو السيد علي محمد الملقب ب"الباب"، عاش في إيران بداية القرن التاسع عشر، حيثُ كان الفساد والظلم على أشده. قام هذا التاجر وأعلن عن ظهور قدوم نبي جديد آمن به في البداية عدد من علماء الشيعة رغبة في توحيدهم، حيثُ كان رجل زهد وتقوى، وبدأ في نشر رسالته الدينية التبشيرية، بلغ خبره لشاه محمد الملك فسجنه هو وعدد من أتباعهم منهم ميرزا حسين علي النوري، أقرب المقربين إليه. بعد مقتل السيد علي محمد من طرف جيش الشاه، اتجهت الأنظار نحو ميرزا حسين علي الذي لُقب ببهاء الله، وخلال فترة سجن هذا الأخير، وبالضبط سنة 1852 قال إنه تلقّى الوحي، ليتم إعلان الديانة البهائية بعدما كانت تسمى في عهد الباب ب"البابية"، وعبر رحلة طويلة من النفي والسجون، تُوفي بهاء الله في عكّا بفلسطين سنة 1892، بعدما ترك بعض الآثار الكتابية التي يعتبرها البهائيون مُقدّسة. حضرة عبد البهاء، ابن بهاء الله الذي لا توجد صوره على الانترنت، نظراً لأن البهائيين يؤكدون على أن رؤيتها لا تتم سوى في ظروف روحانية خاصة Boissonat-Taponier من الناحية الرسمية، دخل هذا الدين إلى المغرب ابتداءً من سنة 1953 بعدما اتفق البهائيون في العالم على الانتشار في جميع البدان، لذلك هاجر بعضهم إلى المغرب انطلاقاً من مصر، إيران، الولاياتالمتحدة، وبعض الدول الأوربية. لم يتجاوز عدد العائلات التي هاجرت تسعَ حسب تقديرات من حاورناهم من بهائيين، عملوا في الوظائف الخاصة وفي الأعمال الحرة، فضلاً عن اختيار بعضهم للعمل الحكومي، استقروا في طنجة، الرباط، مكناس، فاس، تطوان، الدارالبيضاء، ورغم اختلاف ألسنتهم، فقد استطاعوا التواصل مع المغاربة وتعلّم الدارجة. عادت بعض المنابر الإعلامية في قصة البهائية بالمغرب إلى شخصية أمريكية هي إلزي أوستن، التي اشتغلت في المدرسة الأمريكيةبطنجة منتصف القرن الماضي، والتي قيل إنها ساهمت في إرساء أسس البهائية في المغرب، خاصة بعد تنصيبها على رأي المحفل الروحاني الإقليمي لشمال غرب إفريقيا، وقد كانت محبوبة للغاية من طرف بهائيي المغرب، لكنهم يؤكدون أنها كانت شخصية من الشخصيات البهائية العديدة التي تواجدت بطنجة في تلك الفترة، وليست أول من أعلن عن هذا "الدين" في المغرب. محمد...العائد من الموت لم يجد محمد أيّ عناء في العودة بعجلة ذاكرته إلى 54 سنة مضت، وبالضبط إلى سنة 1959 عندما سمع عن البهائية لأول مرة من طرف زميل له في التدريس بإحدى مدارس الناظور، استهزأ في البداية من هذا "الدين"، إلا أن قراءته لأحد كتبه وهو "الإيقان" جعل أفكار تتغيّر رويداً رويداً، وخلال سنة من الشكّ والتردّد، قرأ خلالها كتباً أخرى لبهاء الله، قرّر اعتناق "الدين" البهائي. في مقهى بمدينة مكناس، التقينا محمد لأول مرة في شهر دجنبر من السنة الماضية رفقة مجموعة من البهائيين، وبعد مسيرة إقناع استمرت خمسة أشهر، جدّد اللقاء بنا مرة أخرى كي يتحدث عن تجربته. هو أحد العائدين من حبل المشنقة سنة 1962، عندما برّأهم المجلس الأعلى للقضاء من تهم اعتبرها ملفّقة، بعد أن قضوا فترة سجنية وصلت إلى 20 شهراً. يتذكر محمد:" أعادت لي الدولة رواتبي الشهرية التي تمّ توقيفها خلال فترة سجني دون أن تعتذر لي. وفرحاً بعودة ابنه من السجن، أقام والدي حفلة كبيرة، كما ابتهجت أسرتي بشكل كبير لهذه العودة بعدما لم تكن تعلم أن ابنها اعتنق ديناً جديداً حتّى بلغها خبر سجني. لمّا أردت العودة إلى مدرستي طلبتْ مني وزارة التربية الوطنية أن أغيّر محل عملي، واقترحت عليّ مدينة وجدة، وذاك ما فعلته، حيثُ بقيت أعمل هناك مدة من الزمن إلى أن انتقلت إلى مدينة مكناس التي شهدت آخر سنوات عملي كأستاذ حتى سنة 1999 التي تقاعدت فيها". كتب محمد عن تجربته في كتاب اسمه "الإبحار: مذكرات بهائي حُكم عليه بالإعدام"، إلا أن الكتاب طُبع بتونس ولم يدخل بعد للمغرب. زوجته هي الأخرى اعتنقت البهائية وكذلك فعل أبناؤه الأربعة، رغم تأكيده أنه ترك لهم حرية الاختيار ولم يفرض عليهم يوماً الدخول في هذا الدين. علاقاته بجيرانه المسلمين لم تتأثر أبداً وطبعها الاحترام على الدوام، نافياً أن يكون قد ارتدّ عن الإسلام:" أنا تقدّمت إلى الأمام، ولم أتخلّ عن مبادئ الإسلام، فأنا أشهد بألوهية الله تعالى وأؤمن برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، لكنني اعتنقت ديناً آخر أطبّق تعاليمه". هدى.. شابة وجدت في البهائية راحتها الروحانية عكس محمد الذي سبق أن التقينا به في مكناس مع مجموعة من البهائيين، كانت هذه هي المرة الوحيدة التي نلتقي فيها بهدى التي اقترحتها المجموعة من أجل الحديث عن تجربتهم. ابنة مدينة الدارالبيضاء، والمزاولة لمهنة الطب بمدينة طنجة، كان أول احتكاك لها مع البهائية عندما تحدثّ لها عنها زميل في سنوات الدراسة:" لم أجد في تعاليم هذا الدين أيّ غرابة، ولم أفكر جدياً في اعتناقه إلاّ بعد أن قضيتُ سنتين من البحث، سواء عبر قراءة كتبه أو ما يدور عنه على شبكة الانترنت، وهو ما كان سنة 2004". هي البهائية الوحيدة في أسرتها، يتيمة الأب، تحفّظت والدتها كثيراً على قرار ابنتها اعتناق دين جديد. بمرور الوقت زالَ تحفُّظ الوالدة التي تفهّمت قرار ابنتها، التي صار عادياً أن لا تصلي مثلهم، وأن لا تصوم مثلهم:" أحرص عندما أتواجد مع أسرتي على عدم القيام بما قد يستفزهم، كما أدعو أصدقائي المسلمين من أجل الإفطار عندي في البيت خلال رمضان. غالبية من يعرفونني على علم بديانتي، ولم يسبق أبداً أن تعرّضت لِما يضايق اختياراتي في المعتقد" تقول هدى. لا تؤمن هدى بفكرة استقطاب ناس آخرين لهذا "الدين"، فهي تتحدث عن مبدأ تبليغ مبادئه تاركة للجميع حرية الاختيار:" أشارك المفاهيم مع أصدقائي وأقاربي، وأناقش معهم أفضل السُبل لتربية الأطفال، وتقبّل الاختلاف، كما أحملُ همّ المساواة بين الرجل والمرأة كما حثّنا على ذلك بهاء الله. باختصار هذا الدين يجعلني أساهم في بناء المجتمع". تشير هدى إلى أن قبول البهائيين في المغرب دعوة هسبريس للحديث معهم، يعود أساساً إلى أنّ مختلف المواضيع التي ظهرت في الإعلام عنهم، كانت تُكتَب في غيابهم رغم أنهم ليسوا تنظيما سرياً كما ينعتهم البعض، فضلاً عن أن خروج مشاوراتهم بقرار الحديث لهسبريس أتى كي يساهموا في تخفيف الضبابية التي تلفّ هذا المُعتقد:" نعيش بشكل عادي للغاية، ونطمح أن يعرف المغاربة وجود دين آخر في مجتمعهم كي نبني وطناً يتسعُ للجميع". شعائر البهائية..صلاة وصيام وحج بطرق أخرى لا يرى البهائيون أن دينهم آخرَ ما يمكن أن يدين به الإنسان، فهم يؤمنون بتتابع الرسالات، وبوجود دين صالح لزمان ومكان معيّنين، تماماً كما كانت ديانات الإسلام واليهودية والمسيحية صالحة في أزمنة أخرى حسب قولهم، مبدأهم الأساسي هو تحرّي العلاقة بينهم وبين الله كي يتم اعتناق "ديانتهم" عن قناعة، ورسولهم "بهاء الله" أتى كي يجمع البشر جميعاً من أجل تحقيق الوحدة التي لم تساعد الظروف الجغرافية والحضارية في السابق بقيّة الديانات على تحقيقها. يمكن للبهائي أن يختار نوعاً من ثلاثة أنواع من الصلاة اليومية: هناك القصيرة التي تؤدى مرة واحدة من الزوال إلى المساء، وتتكوّن فقط من تلاوة بعض الآيات. هناك الوسطى التي تؤدى ثلاث مرات في اليوم، والتي يشترط فيها السجود والركوع والقنوت. وهناك الكبرى التي تؤدى مرة واحدة في اليوم، خلال الوقت الذي يناسب المُصلّي حسب احتياجه الروحاني. يعتمد الصيام على التقويم البهائي المكوّن من 19 شهراً، كل شهر فيه 19 يوماً، حيثُ يصوم البهائيون الشهر الأخير من كل سنة المسمى ب"شهر العلاء"، ويوافق هذا الشهر الفترة ما بين 2 إلى 20 مارس، بينما يوجد الحج في مكانين هما بيت حضرة الباب بمدينة شيراز بإيران، وبيت سكنه بهاء الله ببغداد، إلاّ أنه نظراً لوجود هذين المكانين في دول لا تتسامح نهائياً مع البهائية، فالبهائيون يزورون عكا وحيفا في الأراضي الفلسطينية المحتلة لوجود أضرحة الباب وبهاء الله بها. من تشريعات هذا المعتقد منع تعدّد الزوجات، وضرورة توفر الحِشمة في اللباس بالنسبة للمرأة والرجل على سواء، مع ضرورة احترام ثقافة وقوانين البلد: "يمكن للمرأة البهائية في السعودية أن ترتدي النقاب لطبيعة القانون، ويمكنها أن ترتدي الساري في الهند" تقول هدى مشيرة كذلك إلى أن البهائية تؤكد على المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة. وفيما يتعلق بالعقوبات التي سنّها البهائيون، فالإيذاء الجسدي ينتفي منها، إلا أنهم ينادون بطاعة قوانين البلد الذي يتواجدون فيه، وذلك كي لا يؤثروا على سير الحياة، ومن الأمور التي يتفقون فيها مع المسلمين هي منع شرب الخمر وكل ما يُذهِب العقل. ما يتمناه بهائيو المغرب يرى من التقينا بهم من بهائيين أن الدستور المغربي يضمن لهم حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية من خلال الفصل الثالث، وبالتالي فهم لا يطمحون إلى أكبر من ذلك. طموح يعود أساساً إلى الأسلوب المُتحفظ الذي ينهجه البهائيون ورغبتهم الحفاظ على علاقات طيبة مع الدولة، حتى ولو كان ثمنها هو التضحية ببُند دستوري طالبت به بعض الأقليّات الدينية الأخرى في المملكة، أي حرية المعتقد. يسترجع محمد لحظات الحكم عليه بالإعدام الذي صَدر في حقه كحدثٍ محفور بالذاكرة، ليصفه بالخطأ الشنيع الذي صحّحته الدولة بسرعة، غير أن ذِكر ذلك الضابط الذي تمّ طرده من القوات المسلحة الملكية سنة 2009 بتهمة الانتماء إلى البهائية يجعله يقدّم وصفا آخر:" أحياناً، نعتبر بعض ما نتعرّض له من مضايقات تضحية منا لأجل ديننا". تستدعي الدولة البهائيين من حين لآخر في إجراءات وصفتها منابر إعلامية بتحقيقات، ويصفها البهائيون بلقاءات روتينية تتعرّف من خلالها الدولة على آخر أخبارهم. إنهم يُطمئنون الدولة على أنهم لا يهدفون إلى تحويل المغاربة عن الإسلام كما صرّحوا لنا، فهم أقليّة دينيّة تريد العيش بسلام، وتريد أن تتعاون مع جميع أبناء هذا الوطن من أجل خِدمته والدفع به إلى الأمام. لكن، هل منطلقات البهائية تسمح لهم أصلاً بخدمة المغرب؟ هل طبيعة الدولة المغربية ستجعلها متسامحة مع أصحاب هذا المعتقد؟ ماذا يقول الإسلام في البهائيين؟ وما هي النواقص التي تظهر في هذا المعتقد؟ هل يمكن أصلا أن نصفه ب"الدين؟ أسئلة سنحاول الإجابة عنها في الجزء الثاني من هذا التحقيق.