إن كان محمد آخر الرسل..فلماذا ظهر بهاء الله؟ لأسابيع طويلة ونحنُ نحاول ربط الاتصال بالمصرية سوسن حسني محمود إلى أن تحقق الأمر، فوجهة نظرها مهمة جداً في هذا الموضوع، لأنها واحدة من أكبر أيقونات الفكر البهائي في الأوساط العربية، تخرّجت من جامعة الأزهر في أول دُفعة للفتيات، وحصلت على الدكتوراه في علم اللغة التطبيقي، كما درّست العربية في عدة مناطق من العالم، ونشرت عدداً من الكُتب والدراسات التي دافعت فيها عن البهائية. تصف سوسن البهائية بأكثر الأديان انتشاراً في العالم لوجودها في أزيد من ألفِ قرية ومدينة حول العالم ولجمعها كلّ الأجناس والأعراق والثقافات، منها تلك المتواجدة بالمنطقة العربية، وبعد ذلك تقدّم استنتاج أن كل دين توحيدي ظهر في السابق، كان يدّعي أصحابه أن رسولهم هو الأخير، وهو ما ليس صحيحاً وِفق قولها. تستنجد سوسن بالآية 24 من سورة غافر كي تستَدِل على كلامها:{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَاب}، ف"قوم يوسف ادّعوا أنه خاتم المرسلين من أجل تكذيب رسالة موسى عليه السلام، وقد كان الرّد الإلهي دليلاً على بُطلان هذا الادعاء، فكل رسول كان شاهداً على من جاء من قبله، وكان مبشراً بمن سيأتي من بعده" تقول سوسن. وتشرح سوسن الأمر بشكل أكبر عندما تقول إنّ الآية الوحيدة في القرآن الكريم التي جاءت فيها كلمة "خاتَم" كانت هي الآية 40 من سورة الأحزاب:{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}، وقد جاءت للحديث عن مكانة الرسول (ص) ورداً على اليهود الذين أشاعوا بأن زيد سيرث النبوة من محمد (ص) كما كان يحدث في الديانة اليهودية بأن يتوارث الأبناء النبوّة، حسب رأيها. غير أن الشيخ محمد عبد الوهاب رفيقي، ينفي أن تكون البهائية ديناً سماوياً كما يقول بذلك أتباعها، دليله على ذلك أن كل الأديان التوحيدية، تتفق على أن محمد (ص) هو آخر الرُسل، ولا يمكن أن يأتي رسول بعده كي يُبشّر بدين جديد، وهو ما تؤكده من جهة نصوص قطعية الدلالة في القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن جهة ثانية فشل كل الدعوات التي ادعت النبوّة بعد وفاة محمد (ص)، حيثُ تأكد الناس من زيفها وكذبها، حسب قوله. محمد عبد الوهاب رفيقي ويمضي رفيقي أبعد من ذلك:"البهائيون اضطروا لاختراع بعض الكتب كي يضفوا هالة من القدسية على معتقدهم"، كما يشير إلى أن الدارس المتأني لتاريخ الأديان، يجد أنها تشكّلت بشكل طبيعي في ظروف كانت تحتّم وجود رسول، أما البهائية، فقد استفادت بشكل كبير من الاستعمار البريطاني، بل إن هذا الأخير قد تكون له يد في ظهورها وِفق حديث رفيقي. هل البهائية ارتداد عن الإسلام؟ سبق للبهائي محمد الذي حاورناه في الجزء الأول أن نفى فكرة الارتداد التقليدية عن الإسلام، معتبراً أنه تقدّم إلى الأمام واعتنق ديناً آخر، وهو ما تزكّيه سوسن عندما تقول إنّ الارتداد في اللغة يعني الرجوع إلى الخلف، والبهائيون لا يؤمنون بكل الأديان فحسب، بل يقدّسون كتبها ويؤمنون برسلها ويحترمونها. لذا فمثل هذا التصنيف، تزيد سوسن في القول، لا ينطبق عليهم، خاصة أن الإسلام السّمِح مَنح الحق في حرية الاعتقاد والآيات القرآنية شاهدة على ذلك. إلا أن رفيقي يشير أن البهائية ارتداد صريح عن الإسلام، سواء من حيث المفهوم اللغوي أو المفهوم الاصطلاحي، بما أنهم اعتنقوا شعائر دينية مخالفة تماماً لِما ورد في مصادر التشريع الإسلامي، غير أنه يستدرك في قضية ما يطلق عليه بحد الردة، مشككاً في وجود حدٍ من هذا القبيل، وأن استعمالاته السابقة كانت تنحصر في الخروج عن الدولة وخيانة أُسُسِها، دليله على ذلك نصوص دينية كثيرة تنصّ على حرية المعتقد، منها الآية القرآنية" لا إكراه في الدين". هل المغرب مناسب لعيش البهائيين؟ يُمكن أن تُقرأ واقعة طرد ضابط من القوات المسلحة الملكية سنة 2009 بسبب اعتناقه الديانة البهائية، في النص الدستوري الذي يؤكد على رسمية الإسلام كدين للدولة ولا يعطي ضمانات حقيقية لحرية المعتقد، بشكل يجعل المقاربة الدينية في المجال الديني حاضرة بالمغرب، ويعطي للدين مكانة في الشرعية السياسية. يتفق الباحث السوسيولوجي عيّاد أبلال مع قرار فصل الضابط معتبراً إيّاه قانونيا ومطلوباً، لأنه لا يمكن أن يبقى ضِمن الجيش من لا يؤمن بالقتال حتى على سبيل الدفاع عن النفس، فطبيعة هذا التديّن البهائي في الجيش يشكل خطراً على المغرب، خاصة في ظِلّ التحديات الأمنية الكبيرة التي تحيط به من كل جهة، حسب قوله. إلا أن أبلال استدرك القول:"محاكمة ومضايقة البهائيين وغيرهم من الأقليات الدينية، أمر لا يتلاءم مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، فالتعدّد الديني عامل ازدهار وليس عامل انحطاط". ويزيد شارحاً أنّ المقاربة الأمنية لا طائل من ورائها، فالدولة تُشجع البهائية عبر محاولاتها منعها، لأن هذا المُعتقد لم يتحوّل إلى دين، إلاّ بعد المضايقات التي تعرّض لها مؤسسه حسين النوري. وبالتالي فخوف الدولة غير مبرّر حسب قول أبلال، لأن غالبية المغاربة لن يتركوا دينهم الإسلامي لاعتناق "ديانة" تعتريها الكثير من النواقص. عياد أبلال ويؤكد رفيقي أنّ الإسلام في المغرب قويٌ بقوة إقناعه، وهو أكبر من أن يزعزعه مُعتقد ما، وبالتالي فليس من حق أيٍ كانَ إجبار شخص آخر على اعتناقه، ومن حق البهائيين المغاربة ممارسة شعائرهم بكل حرية، إلاّ أنه عندما يحدث نوع من البلبلة وتكثر ردود الأفعال ويصير السِلم الاجتماعي مهدداً، فمن واجب السلطة التدخل وسنّ قوانين صارمة بُغية الحد من الاصطدامات، معطياً المثال بما يتعلق بالإفطار العلني في رمضان: "الدولة تتدخل قانونياً بمنعه كي لا تقع انزلاقات بين المفطرين والصائمين". احترام البهائيين من وجهة نظر حقوقية ترى خديجة الرياضي أنه لا مفرّ من إقرار حريّة المُعتقد في الدستور كي تتعايش جميع الأطياف الدينية في المجتمع المغربي، زيادة على ضرورة تعديل الدستور كي ينصّص على علمانية الدولة بأن لا يكون لها أي دين رسمي، وهو ما سيضمن مساواتها لكل الأديان. غير أن هذا التعديل لوحده لن يكون كافياً، تستطرد الرياضي، فالدولة مطالبة بتطبيق ذلك على أرض الواقع، وتعطي الرياضي المثال بعدد من الوقائع الحالية التي تناقض العديد من الفصول الدستورية القائمة، كالتضييق على العمل الصحفي وعدم ربط المسؤولية بالمحاسبة. خديجة الرياضي وتضيف الرئيسة السابقة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، أن استهلال الحديث عن مثل هذه المواضيع، يقابله استهجان ورفض مجتمعي كبير، يتمظهر في ردود فعل غاضبة تصل حدّ المطالبة بمتابعة كل من يَدين بغيرِ الإسلام في المغرب، وهو ما تتحملّه الدولة بالأساس:"المؤسسات لا تُربي المواطنين على تقبّل الاختلاف، فالتعليم والإعلام والتربية والقنوات الدينية الرسمية تنشر رسائل إقصائية خطيرة، وكل هذا يتم تحت رعاية الدولة التي لا تقبل بتبنّي فِكر الاختلاف، لأنها تعلم أنها أوّل المتضرّرين منه". عندما تزيد الرغبة في السلام عن حدّها من أكثر ما يُعاب على البهائيين، هو عدم مشاركتهم في السياسة وابتعادهم عن كل ما يمكن أن يحقق تغييراً في هذا الاتجاه لدرجة تفضيلهم استقراراً بدون حرية. ترّد سوسن على هذا الانتقاد بأن المشاركة في الأمور السياسية بشكلها الحالي لن يجلب للعالم السلام والاستقرار، بل ستؤدي إلى زيادة الخلاف الذي يصل إلى ما هو عسكري في الكثير من الأحيان، لذلك فالبهائيون يركّزون على تحرّي الحقيقة بعيداً عن كل ألوان التعصّب الجنسي والديني والطبقي والقومي، وعلى تمجيد العدل كمبدأ مسيطر على المجتمع الإنساني. إن البهائيين يعملون على مستوى القاعدة بإعداد برامج للتقوية الروحانية والأخلاقية موجّهة نحو فئات عمريّة مختلفة، ويسعون لتأسيس روابط تُجمع القلوب على محبّة الله حسب حديث سوسن، دليلها على ذلك، انهماك الجامعات البهائية الموجودة في العالم على إنجاز نشاطات تُحقِق الأهداف الإنسانية النبيلة كتعليم الأطفال والقضاء على المخدرات. وتستدرك سوسن بأن البهائيين شاركوا كذلك في الثورات العربية:"لقد قدّموا رسالة مفتوحة لأقرانهم من المصريين تشتمل على الكثير من المبادئ التي يجب عليهم التشاور فيها من أجل بناء وطنهم، كما شاركوا في الحوارات السائدة في المجتمعات العربية عن التحوّلات الجذرية وعن مستقبل بلدانهم بكل إخلاص. نحن إيجابيون وندعو إلى العمل بعيداً عن الشعارات البرّاقة". انتقادات أخرى للبهائية ويشير عياد أبلال إلى عدة نواقص تعتري هذا المعتقد، فزيادة على ما اعتبره خللاً في العلاقة بين السماوي والأرضي لكونهم لا يؤمنون بالجنة والنار ممّا يخفي العدل الإلهي، ف"البهائية" سقطت في البُعد الذكوري من خلال بسط هيمنة وفحولة الرجل الذكورية، مجسداً في جعل الحج طقساً خاصاً بالرجال، كما أفقدتْ هذه "الديانة" شعائرها إيجابية طقس الجماعة بما أن الصلاة فيها فردية، وهو ما يؤثر على سيكولوجية الإنسان الذي لا يمكن أن يعيش بدون طقوس وشعائر حتى ولو كان ملحداً، حسب تعبيره. كما يضيف أبلال في معرض آخر:" لم تستطع البهائية أن تنفي مزاعم الصهيونية عنها عندما نقلت الحج إلى عكّا بإسرائيل، خاصة وأنها حرّمت قتال بني إسرائيل ولم تحرّم تقتيل هؤلاء للشعب الفلسطيني". ويُلغي أبلال عن البهائية بُعدها الإلهي أو السماوي، فقد تولّى قيادتها الدينية عباس ابن بهاء الله بعد وفاة هذا الأخير مجنوناً حسب قول المتحدث، وبالتالي فتوارث النبوة يحوّل الدين إلى سياسة واللاهوت إلى ناسوت، ليخلص أبلال إلى اعتبارها ديانة توفيقية زهدية وسيطة للديانات الإبراهيمية إن تمت دراسة شعائرها وعباداتها جيداً. بهائيون من دول العالم غير أن بعض من التقينا بهم من بهائيين، ينفون غياب الجنة والنار عن تشريعاتهم، فهم يؤمنون بوجودها بشكل مختلف عن الفهم السائد عند غالبية المسلمين، وذلك عبر اعتقادهم أن معنييهما يُجسّدان أولاً في الحياة الدنيا ما دام الإيمان بالله هو الجنة والكفر به هو النار، وفي الآخرة بشكل روحاني وليس مادي كما هو معروف عبر إمتاع الجسد أو تعذيبه. وإذا كان البهائيون يعتبرون أن وجود مكاني الحج المؤقت في "إسرائيل"، راجع إلى أن هذه البقعة من الأرض شهدت وفاة نبي الديّانة المفترض قبل إعلان ما يعرف بدولة إسرائيل، فإنّ كتب البهائية تزكّي فكرة اقتصار الحج على النساء، حيث نجد في كتابها الأقدس، الفقرة 32:" قد حكم الله لمن استطاع منكم حجّ البيت دون النّساء عفا الله عنهنّ رحمة من عنده إنّه لهو المعطي الوهاب". لا محيد عن تقبّل الآخر يجزم عيّاد أبلال أنه لا حظ للبهائية للتوسع في المغرب بسبب أسسها اللاهوتية وضعف قنواتها الترويجية والعقل الفقهي المسيطر في الأمر. ويعتبر عبد الوهاب رفيقي أن الفهم الصحيح للإسلام يُبعد المواطن عن التفكير في مثل هذه المعتقدات، بينما يطمح بهائيو العالم، ومنهم بهائيو المغرب، إلى أن ينتشر "دينهم" أكثر وأكثر، شعارهم في ذلك حب الآخر وعدم التنقيص من معتقده وخدمة الوطن. يستثمر البهائيون ما قاله رمزهم بهاء الله في الرسول (ص) ومن ذلك:" أسأله تعالى بأن يحفظه عن شرّ أعدائه الذين خرقوا الأحجاب وهتكوا الأستار إلى أن نكست راية الاسلام بين الأنام"، كي يؤكدوا تقديرهم للدين الإسلامي..حسب ما استنتجناه من لقاءاتنا المتكررة معهم، فهم لا يبحثون عن الظهور ولا عن خلق الجدل، يرغبون في ممارسة شعائرهم بكل حرية دون تضييق، وإن كانت النصوص القانونية الحالية في صالح أمن الدولة والمجتمع، فلن يهدفوا أبداً لتغييرها، وقد يفضلون معها الانكماش بشكل أكبر من السابق. في بلدٍ يضم أزيد من 40 مليون نسمة..ليس الجميع على ملّة واحدة، كما أنهم ليسوا على الأفكار نفسها، الاختلاف ظاهرة خُلقت منذ أن تناسلت الأجساد في هذا العالم، وتقبّل الآخر كيفما كان معتقده لم يعد ترفاً، إنها ضرورة من أجل بناء دولة الحق والقانون، وحقيقة أصيلة لفهم سماحة الدين الإسلامي الذي تدين به الغالبية، فالتضييق على الآخرين بسبب معتقدهم، كيفما كان التضييق مادياً أم معنوياً، ظاهرة مُشينة تزيد من السعرات الإقصائية في أرض لطالما وصفتها المنشورات السياحية بأنها تزرع التسامح. لقراءة الجزء الأول من هذا التحقيق